حساء الرُّهبان

شيماء محمد توفيق الحداد *

[email protected]

قال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي : إن مصر " كانت منبر العالم الإسلامي كله ، يعنو إليه بتفكيره وعقله كلما أراد أن يعلم عن الإسلام علماً ، كما يعنو إلى كعبة الله بوجهه كلما أراد حجّاً أو صلاة [1]" .

 قلت: وقد سوَّد الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – مقالات كثيرة بيَّن فيها مدى حبه لمصر التي كان يمتدحها دائماً ويثني على أهلها ، ويصف عظمة الأزهر وعلو شأنه وما له من منزلة في بلاد الإسلام . أما الدكتور البوطي فإنه وضَّح جهودَ بريطانيا الشريرةَ في سعيها لإفساد شأن الأزهر والعبث بقياداته ، وأما الشيخ علي الطنطاوي .. فليت شعري لو رأى حاله اليوم ماذا عساه يقول ؟! ..

 على أن في مصر خير كثير ، وفي علمائها من هو ثبْت قوي مشهود له بالورع والتقوى ، وفي أهلها الجسور الغيور الشجاع الأبي ، ولكن ذاك الطنطاوي شذَّ عن الطريق كشراذم آخرين مثله فليسوا من مصر وليست منهم في شيء !..

 قلت: وما أغرب أمر (ذاك) الطنطاوي ! حيث عمد إلى الحرام فجعله مباحاً ، وصيَّر الواجب حراماً ، وسخر من بنات المسلمين .. رغم ما دأب عليه الطنطاوي (هذا) – أي: علي الطنطاوي – من حثٍّ على الحجاب ودعوة للعفة والإعفاف ، وغض البصر واتقاء الشهوات ..

 قال: ولكن لفظ (هذا) يُستَخدَم للقريب ، ولفظ (ذاك) للدلالة على البعيد ، وعلي الطنطاوي قد مات فكان أحق بلفظ (ذاك) من (هذا) ! ..

 قلت: أبداً ! .. فإنني أهدف في استعمال الكلمتين بهذا الشكل إلى الدلالة المعنوية ؛ فقد كان الشيخ الأديب علي الطنطاوي – رحمه الله – حريصاً على شؤون الأمة ، قريباً من مشكلاتها ، دائباً على حلِّها ؛ تكلَّم عن فلسطين بثورة وحماس ، وأهاب بكل مسلم وعربي وعاقل أن ينتفض لنجدتها ، وصاغ مقالات وأعطى محاضرات عديدة للتنبيه على خطر الاختلاط بين الشباب والفتيات ، وللتأكيد على أهمية الحجاب وضروة الإغضاءِ وقلةِ الكلام .. فهو بهذا قريب رغم موته ، موجود بكلماته وما خلَّفه من درر وفوائد .. وأما ذاك (..... المخلوق) فإنه دائب على تبديل الأحكام ، وإغواء الأنام ، والكذب على الله ، والافتراء على الشرع : بما أباحه من آلات اللهو والطرب ، وما قال به من حِل التدخين ، وتحريم النقاب الذي أعقبه بإطلاق بصره ليحكم على شكل الفتاة ساخراً بها ، هازئاً بأفكارها ، متعالياً بوضاعته ، شامخاً بذلِّه ، متعالماً بجهله .. وهو يفعل كل هذا بإخلاص شديد لو امتلكنا بعضه لَدخلنا الجنة من أوسع أبوابها !.. فيا ليت شعري .. ما أبعد الفرق بين الطنطاويين !..

 قال: لكنه مع ذلك يبقى عالماً له احترامه ومكانته !.. ولَربما كان ما قاله اجتهاداً منه !..

 قلت: أمَّا أنه عالم فذلك غير صحيح ؛ لأنه خالف كلام الله تعالى ، ومهما قال وفعل فلن يكون أحكم من الله ، ولا أعلم من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقه من الصحابة والأئمة والتابعين .. فلقد خالف هؤلاء جميعاً ونأى وأعرض بجانبه ، وقال وقضى بلا برهان ولا دليل : بل حسبه أن أقام بنفسه الحجة على خطأ كلامه وهشاشة قوله بأن نسخ أدلة قطعية الدلالة ونقض أحكاماً أجمعت عليها الأمة الإسلامية .. ليأتينا بما لم ينزل الله به من سلطان .. من هراء وهذيان ! ..

 وأما عن الاحترام لشخصه غير الكريم .. فعزيز علي والله أن أحترم من لم يحترم كلام الله ، بل عرَّض به وأبطله وخالفه بلا حياء ولا خجل ، وما أتيتُ بدعاً ؛ إذ هو أمر الله إلى الناس جميعاً .. ولو كنا سنصدِّق كل أحد فلْنعتبر عبد الله بن أبي بن سلول صحابيّاً جليلاً وإبليسَ مظلوماً مسكيناً ! ..

 لا !.. ليس كل من قال صادقاً ، ولا كل من تكلَّم عالماً ! ..

 وأما عن الاجتهاد فإنه لا يكون في أمر ثبت حكمه بنص شرعي ، ولقد اعترض الصحابة على بعضهم البعض حال الخطأ ونصحوهم وذكَّروهم فاستجابوا .. ومن يكون ذاك (... المخلوق) بالنسبة لهم وهم الصحابة ؟! ..

 وليت شعري ما وجه اعتراضه على النقاب أو الحجاب عموماً حتى جعله محرماً ؟!..

 أهي وجهة وطنية لأن الحجاب يستر الشعر ويغطيه في حين إن الشعر المتطاير يسهم في تنظيف البيئة وتنقية الهواء .. بما يلتقطه من غبار وتلوث – خاصة بعد أن أباح التدخين - ؟!! ..

 أم هي وجهة إنسانية (!) بحتة ؟! .. فقلبه عامر بالأسى والحزن ، ومضجعه مقَضٌّ لفرط ما به من قهر ، وصور الشباب المساكين (!) تتراءى له في غدوه ورواحه وصباحه ومسائه وفي كل حين .. تستصرخ نخوته وتستنجد برحمته لكي يتخذ موقفاً صارماً حازماً يمنع هذا البلاء النازل ويحد من ذاك الشر المستطير: تزايد أعداد المحجبات والمنقبات ، الأمر الذي يحرم الشباب من إقامة الصداقات اللطيفة (!) والعلاقات البريئة (!) والمحادثات الأخوية (!) ويجبرهم بقسوة – ما عرفها اليهود ! – على العودة إلى الصراط المستقيم والأساليب المشروعة والرجولة الحقيقية التي ما ألفتها طراوتهم ولا جرَّبتها خنوثتهم !..

 أم تراه سيضحكني وسيهتف بأقصى ما أحرزه الناس من حماسة وثقة ويصرخ بأن الأمر (ديني) بحت ، وأنه لا علاقة للحجاب أو النقاب بالإسلام ؟! .. أو سيقول: من أنت لتتحديني ؟! .. كما قال ذلك لتلك الفتاة المنقبة ؟! ..

 حسن .. لنكن مرتَّبين ، ولنأخذ كل ما سبق على حدة ..

 أما الوجهة الوطنية فغنية عن التعليق ! ، وأما الوجهة الإنسانية فأمره وأمر أولئك الشباب عجيب وغريب ؛ لأنهم يحملون حملات شعواء على الحجاب ، وعلى صمت الفتيات المطبق أمام حماقاتهم .. ذلك الحجاب الشرعي الكامل ، والصمت المبني على قاعدة : (لو كان ذباباً لَهششْتُه [2]) .. أي أن شبيهَ الرجلِ الفاسقَ لا يستحق حتى كلمة (اصمت) أو ما شابهها ... (!) بل يكفيه التجاهل الساخر لكلامه وخزعبلاته حتى يرتدع من نفسه أو يموت غيظاً ..

 نعم ! .. إن هذا يغيظكم – يا هؤلاء – ويشعل حقدكم ، ولكن يا للغرابة ! .. بدلاً من أن تشكروا المحجبات لأنهن لم يكنَّ عوناً للشيطان عليكم ، ولا متحالفات مع نفوسكم الأمارة بالسوء ضدكم .. لأنهن اعتبرْنكم إخوة لهن ؛ يسوؤهنَّ أن يشمت الأعداء بكم ، أو ينهار مستقبلكم ، أو تتعكر حياتكم بهذه الأفكار الصبيانية التي لم نُخلَق نحن ولا أنتم لها ، بل هناك ما هو أهم وأعظم بكثير خُلِقنا لأجله وأجملتُه في قولي:

إسلامُكَ الغالي ينادينا فَهُبْ          أنقذْهُ   بالعلياءِ   هيَّا   يا   بطلْ !

لمْ يوجَدِ الإنسانُ إلا  غايةً؛          كي يبنيَ الأكوانَ ، كي يغدو مثلْ

 وأما عن بيت القصيد – الوجهة الدينية - ، والتي تتستَّر يا (ذاك – كما اتفقنا -) وراءها لغايات شيطانية شريرة مستغلّاً جهل العوام .. فأقول إن الدين لم يأتِ لكي يحتكره بعض الناس ويطلقوا على أنفسهم مسمى العلماء ويمنحوا شخوصهم صلاحية التحريف والتحوير ! ..

 لا يا سيد ! .. ثمة أمور قد نسيتها أو تناسيتها لا أعلم ، لكن الذي أعلمه يقيناً هو أن الله تعالى قال : { يا أيُّها النَّبيُّ قلْ لأزواجكَ وَبناتِكَ وَنساءِ المؤمنينَ يدنينَ عليهنَّ منْ جلابيبهنَّ .... الآية } ، ومن الواضح لكل ذي عقل أننا داخلات في الأمر بالآية ، فإن تكُ جاهلاً بالحكم فلتكن عالماً بدلالات اللغة ومعاني حروف العطف على الأقل ! .. أم أنك على مبدأ: (أحشفاً وسوء كيلة) ؟! ..

 كما قال تعالى أيضاً: { وَمنْ أظلمُ ممَّنِ افترى على اللهِ كذباً أو كذَّبَ بآياتهِ إنَّهُ لا يفلحُ المجرمونَ *}

 وسأتحفك بآية أخرى: { لُعِنَ الَّذينَ كفروا منْ بني إسرائيلَ على لسانِ داودَ وعيسى بنَ مريمَ ذلكَ بما عصوا وَكانوا يعتدونَ * كانوا لا يتناهونَ عنْ منكرٍ فعلوهُ لبئسَ ما كانوا يفعلونَ *} وَ { وَلْتكنْ منكم أمَّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ وَيأمرونَ بالمعروفِ وَينهونَ عنِ المنكرِ وَأولئكَ همُ المفلحونَ *} .. وأنا أحب أن أكون من المفلحين ، كما أنني لا أستطيع تعريض نفسي للعن أو للعذاب فهذا مخيف جدّاً ! .. ولاحظ جيِّداً أن الآية لم تقيِّد بالأمر كبيراً أو صغيراً ، وعلى هذا فلا يحق لك ولا لأحد غيرك – مهما بلغ من التطاول والصفاقة – أن يقول لمسلم أو مسلمة: أنا أعلم منك وممَّن خلَّفك ! .. خاصة إن كان كلامه خاطئاً كاذباً ! .. كما لا يحق له أن يبيح لنفسه إطلاق البصر نحو الفتيات مهما أطال لحيته وقصَّر ثوبه وعرَّض عمامته ووسَّع كمَّه ! .. لأننا ببساطة مسلمون ، أمرنا الله بأن نكون مسلمين شكلاًً ومضموناً ، وأمرنا بالتزام الدين والعمل بالأحكام وقَبول الفتوى وفق ضوابط وشروط وصفات لا بد من توافرها في المفتي .. أجد نفسي مضطرة إلى شطب ما لا يتوفر فيك منها .. وهو كثير ! ..

 وعلى هذا فإن ديننا للكبار وللصغار ، وللمسلمين ولغير المسلمين ؛ تسير أحكامُه على الجميع ، وينال من خيره وعطائه الجميعُ ؛ فكلنا ملزَم بأداء الحق ونشر العلم ، وكلنا مجبَر على التناصح والتواصي .. ثم إن الله تعالى لمَّا وضع الأحكام وشرَّع الشرائع لم يأخذ رأيك ولا رأي غيرك فيها ، ثم قال عز من قائل: ، وهذا دليل على وجوب الانصياع التام لأوامره سبحانه دون اعتراض إلا إذا أحبَّ المرء أن يكون من الضالين ! ، وعندها له مطلق الحرية في أن يدخل إلى جهنم ويعبَّ من زقومها وغسلينها وغير ذلك من الأمور التي جاهد إبليس نفسَه – وما يزال – لكي يكون جديراً جدّاً بها !!!..

آمل صادقة في أنك تستطيع استيعاب هذا الكلام ! ..

 لاحظ – وأنت شديد الملاحظة بشكل لا يُلاحَظ ! – أن الصبر عليك قد طال ؛ فلقد صافحتَ اليهود ، وَأعربتَ عن خروج حصار غزة الأبية من دائرة اهتماماتك الـ .... ـكريمة !!! ، وها أنت ذا تحلِّل وتحرِّم كيفما شئتَ ، وتأتي بالجوازات من أقوال مردودة وأحاديث ضعيفة ، أو حتى تخرجها من جيبك ! ، كما أنك تحتفل بعيد ميلادك ، والقائمة تطول ! .. أفهذه تصرفات عالم ؟! .. ليت شعري هل غرَّك إمهال الله لك ؟! .. أتُراك بأفعالك هذه تهتف بكل إصرار ويقين: يا رب أنا لا أستحق منك هذه الفرص التي تمنحني إياها ، فعجِّل بالانتقام مني واجعلني عبرة لمن يعتبر ولا يعتبر ؟!! ..

 لا يا سيد .. إنني وبنات جنسي العاقلات سنبقى محجبات منقبات لا يظهر منا إلا الكف ، ولا ترون منا إلا ما يراه الضرير من بهاء الكون ! .. لأنا نريد أن نستأنف عيش النعيم الراغد السعيد الذي نرفل فيه كأبهى ما نكون صفاء ونقاء وطهراً ، وحتى نصل الدنيا بالآخرة وندخل إلى الجنة وننعم بجوار الحكيم العليم إن شاء الله ..

 يا سيد .. استمر في تحريم الحلال وإباحة الحرام ، وافعل كل ما يمليه عليك هواك المريض وتفكيرك المثير للشفقة بشكل قاسٍ .. أنا لن أحرمك من هذه المتعة الغبية والسم الناقع .. ولكن افعل هذا دون أن تقول إنها أوامر الله !.. أو إنها تعاليم الإسلام ! .. ودون أن تتخذ – كاذباً – صفة عالم من علماء المسلمين .. فهذه لا تليق إلا بأحفادِ العز بن عبد السلام – رحمه الله – وكلِّ عالم يدري أن الفتوى مهمة مقدسة ولكنها خطيرة قد تورده المهالك ، فلذلك يتقي الله في خلقه ولا يتخذها سلَّماً للمجد الدنيوي ! ...

 وبَدَهي جداً أن يكون مسلكنا – معشر الفتيات المنقبات – خطأ إذا اعتبرنا الأسمال ثياباً فاخرة ! ، وأن يكون تفكيرك صواباً وكلامك صحيحاً في حال سطعت الشمس منتصفَ الليل ! ، وأن نعتبرك أنتَ يا (ذاك) عالماً جهبذَ ثبْتاً إذا أسلم إبليس ! – ما لم تتب إلى ربك وترتدع عن غيك ! - ..

 ولْتكن واثقاً كل الثقة أنك وأمثالك مهما حاولتم الطعن في ديننا العظيم وقصرَه على معان محدودة تنبئ عن جهلكم وتخلُّفكم فإن ديننا رغم كل ذلك .. لن يتحول إلى حساء رهبان ! ..

               

*عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

[1] م من كتابه : فقه السيرة النبوية .

[2] هذه القاعدة أنا أطلقتُها من خلال الاستقراء وما ينبغي أن يكون ..