العرب بحاجة إلى أردوغانهم!
د. محمد نور الدين
شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها هذه السنة "هَبّة" غير مسبوقة منذ وقت طويل لزعماء عالميين كانوا قد استنكفوا عن الحضور والتحدث بعدما تحوَّل النظام العالمي إلى "روتين" تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في ظل التراجع الروسي والترقب الصيني.
لكن الفورة التي شهدتها الأمم المتحدة هذه السنة كانت إنعكاساً لخروج النظام الدولي من السيطرة الأحادية الأمريكية في العالم بعد هزائمها في العراق وأفغانستان والقوقاز بسبب الأزمة الجورجية والتحدي الإيراني النووي وصولاً إلى الأزمة المالية العالمية.
وقد راقبنا كمواطنين عرب أعمال الدورة بشغفٍ معقولٍ قياساً إلى الماضي وبمعزل عن الجدل الذي تُثيره شخصية الزعيم الليبي معمر القذافي فإن كلمته عكست واقعاً مريراً للعرب. وقد تأكد ذلك من خلال الحضور العربي الضعيف شكلاً ومضموناً في أعمال الجمعية. ووجدنا أن العالم كله قد تغيَّر إلا نحن. وليست فضيحة طلب السلطة الفلسطينية التي يرأسها محمود عباس تأجيل التصديق على تقرير (غولدستون) الذي يُدين جرائم الكيان الصهيوني في غزة ويدعو لمحاكمتهم كمجرمي حرب سوى نموذج على العار والذل الذي يُلحقه بنا من يدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني!
ونتسـاءل أنـه إذا لم تكن القضيـة الفلسـطينيـة هي معيار المواقف العربيـة فأيـة قضيـة هي المعيار!؟
إذا أخذنا الحجم والنبرة التي حضرت فيها القضيـة الفلسـطينيـة في خطب القادة العرب في الأمم المتحدة لنجد أنـه أمر يُثير الخجل. حتى لتكاد تتحول فلسـطين إلى قضيـة عقاريـة أو قضيـة تتعلق بخلاف بين زوج وزوجتـه يمكن أن يُحل بدعوة على الغذاء في أحد المطاعم مع زجاجـة عطرٍ كهديـة...!
ويزداد الألم هذا عندما نُقارن كلمات الزعماء العرب بالخطاب التاريخي لرئيـس الحكومـة التركيـة (رجب طيب أردوغان) الذي خصّص جزءاً كبيراً منـه للحديث عن القضيـة الفلسـطينيـة وعن غزة وحصارها منتقداً العالم والأمم المتحدة والنكث بوعود إعادة إعمار غزة في وقت يعيـش الناس فيـه في الخيّم ولا يجدون ماء يشـربونـه ولا دواء لمعالجـة أمراضهم!! وقائلاً: إن العالم لا يهتم إلا بأمن (إسـرائيل) فيما يترك الفلسـطينيين لقدرهم.
واسـتكمل (أردوغان) موقفـه المشـرف من القضيـة الفلسـطينيـة عندما صرّح أثناء عودتـه إلى بلاده بأن العالم ينام ويسـتيقظ على خطر إيران فيما لا أحد يذكر (إسـرائيل)! وانتقد (أردوغان) المجتمع الدولي الذي لا يتصرف باسـتقامـة.
موقف (أردوغان) كان برأينا الموقف العربي والعروبي الوحيد الذي دافع بقوة عن فلسطين وغزة.
وهذا يُعتبر استكمالاً لما كان في (دافوس) بل منذ وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم عام 2002 في سلسلة متواصلة من المواقف المشرفة والداعمة للقضية الفلسطينية.
وهذا يُذكّر أيضاً بالموقف الشجاع الذي اتخذه وزير الخارجية التركية (أحمد داود أوغلو) عندما ألغى زيارة كانت مقررة إلى الكيان الصهيوني خلال تشرين الأول / أكتوبر الجاري لأن حكومة الكيان رفضت أن ينتقل الوزير التركي إلى غزة. والأرجح أن حكومـة الكيان الصهيوني لم تكن تريد للوزير التركي أن يزور غزة لأنـه كان سـيُسـتقبل اسـتقبال الفاتحين والأبطال بعد الموقف التركي المشـرف في (دافوس)، في وقت عزَّ فيـه الأبطال في الزمن العربي الرديء!!!
تستكمل تركيا مواقفها المتضامنة مع العرب ومع المسلمين. ولقد كانت خطوات إقامة مجلس تعاون استراتيجي مع سوريا وقبلها مع العراق، كما أن إلغاء تأشيرات الدخول بينها وبين سوريا علامات قوية على طريق توثيق العلاقات العربية التركية.
المهم في المواقف التركيـة الإيجابيـة من العالم العربي وفلسـطين أنها تصدر من عامل العمق الحضاري والتاريخي والجغرافي. وإذا أمكن لدول المنطقـة إعادة تركيب التاريخ لأمكن تغيير وجـه المنطقـة وإخراجها من قيود الغرب الاسـتعماري وامتداده الإسـرائيلي ـ الصهيوني.
والمهم أيضاً في هذا المجال أن تركيا تلمس فوائد هذا التعاون استقراراً على حدودها وتنامياً في تجارتها مع الدول العربية وانفراجاً في السياحة العربية تجاه تركيا وأكثر من ذلك نظرة إيجابية جداً لصورة تركيا في الوجدان والقلب العربيين.
لم تكن العروبة يوماً موقفاً عرقياً وشوفينياً ضد أية قومية أخرى. ولم تكن عروبة الزعيم العربي الأبرز جمال عبد الناصر سوى صرخة إنسانية ونضالية ضد الظلم والاستعمار من أجل التحرر وكرامة الشعوب المضطهدة.
واليوم يُكرر (رجب طيب أردوغان) تلك الصرخة "العروبية" والناصرية التي يجب أن يتشرف بها أي زعيم يقف إلى جانب الحق والمظلومين في كل العالم فكيف إذا كانت القضية التي يُدافع عنها هي القضية الفلسطينية؟
يذكر التاريخ أبطالاً مثل صلاح الدين الأيوبي ولا يتذكر عميلاً أو خائناً واحداً. وكما صلاح الدين وجمال عبد الناصر سيذكر التاريخ يوما اسم (رجب طيب أردوغان) بأحرف من نور وذهب.