ما الذي حصل في السفارة المصرية في الشام !
ما الذي حصل في السفارة المصرية في الشام !
د.محمد سالم سعد الله
أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل
يسوق لنا الأخوة السياسيون العرب في كلّ مكان ، وبطرائق عدة مرئية ومسموعة ومقروءة ، وكلّ يوم : أنّ العرب أمة واحدة ، وأنهم متضامنون ، وأنّ الفرد العربي قيمة عليا في النهج العربي القويم ، وأنّ على العرب التكاتف والتعاضد لصدّ الهجمات الإمبريالية ، وأننا سننتصر إن شاء الله ، وسنهزم الشيطان وندحر أمريكا ، وأنّ الدولة العربية الفلانية هي أم العروبة ، وأنّ تلك هي سلة العروبة ، وأنّ الأخرى هي ملجأ العروبة ، وهذه هي بستان العروبة ـ ولا نعلم من هي حمام العروبة ـ وأنّ دولتنا هي البلد الثاني لكلّ العرب القادمين : الزائرين منهم والمشاركين في الأفراح والمسرات أو الأحزان ، وقلوبنا مفتوحة لكم ، إن لم تسعكم أرضنا فإن عيوننا وبيوتنا مفتّحة لكم الأبواب ، إلى غير من الشعارات التي لا تصلح إلا ...... ، نستيقـظ على هذه الشعارات البائسة ، ونمارس أعمالنا بظلها اليحموم ، وننام على لحنها الممقوت ، ونتأمل خيراً ببريقها الزائف ، ونقنع أنفسنا ـ انطلاقا منها ـ أنّ الذئب أكل يوسف.
جئت بوصفي زائراً إلى سوريا الحبيبة الجميلة ، وقصدت الشام لأحصل على ( فيزة ) تأشيرة دخول إلى القاهرة من السفارة المصرية التي تقع في منطقة ( تل الرمانة ) ، وقصدت هذه السفارة لأنّ السفارة المصرية في بلدي ـ وتحديدا في بغداد الغالية الجريحة ـ مقفلة بسبب مقتل السفير المصري ( إيهاب الشريف ) على أيدي مسلحين في العراق لسبب أو لآخر أو دون سبب لا أعرف ، وعندما أتيت إلى السفارة الساعة الواحدة ظهراً تقريباً من يوم السبت المصادف السادس من آب ، وبعد عناء طويل لأني لا أعرف المكان جيداً ، وجدت شخصاً ضخماً يرتدي بذلة زرقاء ، كزرقة السماء ، وربطة لا تدل على الأناقة أبداً ، يقف في باب السفارة ، فقلت له : أنا أستاذ جامعي من العراق جئت لأخذ تأشيرة ، قال لي والغضب يلتهب في عينيه : ( مافيش اليوم تعال بُكرة من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشر صباحا ) ، قلت له : ألا تسمح لي بالدخول لأن ورائي سفر ، وسأرجع اليوم إلى بلدي ، قال لي بتهجم : ( قلت لك بُكرة ألا تسمع ) . أوكلتُ أمري لله ، وتركت السفارة ، وذهبت إلى فندق ( أبي الفداء ) في منطقة المرجة ، بائسا ساخطا على ما جرى ، وقلت في نفسي الحمد لله ( كلّ تأخيرة فيها خيرة ) .
ذهبت في اليوم الثاني الساعة الثامنة والنصف ، وبعد انتظار في الشمس نصف ساعة فُتحت أبواب الجنة ، وسمحوا لنا أنا ومجموعة من الأخوة المصريين الذين أتوا على ما يبدو لأعمال تخصهم في السفارة ، وبعد وقوفي في الصف لأنتظر دوري ، أدركت أني الوحيد من العراق من بين الواقفين هذا اليوم ، وعندما أتى دوري ، قال لي موظف السفارة ـ وكانت يده معاقة ليست لديه أصابع في أحد اليدين وبلطف ـ ماذا تريد ؟ قلت له : أنا أستاذ جامعي من جامعة الموصل ، لدي مؤتمر في القاهرة بدعوة من رابطة الأدب الإسلامي العالمية هناك للحضور ، وهذه هي أوراقي وهذا جواز سفري ، وما أن سمع مني أني عراقي حتى تغير لونه ، واكفهر وجهه ، وتبدلت اللطافة إلى الدناءة ، وتغير الصوت من اللحن الهادىء إلى اللحن الصاخب الذي لا يطلق إلا الجعجعة ، وأول ما قال لي تريد فيزا ! ، اذهب إلى بغداد وخذ فيزة من هناك ، وانتظر حتى تُفتح السفارة ـ قالها باستهزاء ـ ، قلت له أخي المؤتمر بعد أسبوع ولم يتبق لي وقت ، فأتمنى أن أحصل على التأشيرة اليوم إن أمكن ، قال لي بغضب وبدا الصراخ يملئ فمه : ( قلت لك مافيش فيزة روح وتعال بعد واحد وعشرين يوم ، ما تلفش وادور ، أنا بحكي معك ) ، وأرجع لي الجواز بطريقة غير لائقة ، وقد منع موظفا آخر يعمل معه ، وكان أكثر عقلانية واحتراما وهدوءا منه ، قال لي انتظرني بعد نصف ساعة واخذ الجواز ، فما كان من هذا الثاني الذي لا يعرف احترام الناس إلا أن اخذ الجواز وقذفه بوجهي ، وقال لي : ( تكلم معي أنا ، مافيش فيزا اليوم ، روح ونحنا نتصل بك ما بتسمعش ) .
وبعد هذا الذي حصل ، خرجت من السفارة المصرية في الشام وكلي ألم وحسرة ، والقلب تعتصره غصة ، إذ كانت الفرحة تغمرني ، وأنا ذاهب إلى بلد عربي يدعي أنه أم العروبة ، والعروبة ـ انطلاقا من هذه الأفعال ـ منه براء ، كنت متفائلا لأني سأذهب إلى مؤتمر أُمثل فيه بلدي الجريح العراق في مؤتمر القاهرة ، بوصفي مسؤولاً عن الإعلام في رابطة الأدب الإسلامي العالمية / مكتب العراق ، وقد حرمني هذا الموظف ذو اليد المقطوعة من ذلك ، واقتنعت أنّ القاهرة لا تستحق دخولي إليها ، لأني لا أتشرف أولاً بدخول بلد لا يحترمني أبناؤه ، ثم أنا أستاذ جامعي لي مكانتي بين قومي وأهلي ـ الذين يحسنون احترام الناس وتقديرهم ـ قد أهنت على يد من لا يحسن كتابة اسمه ، وتذكرت جيدا كيف أن العراق الحبيب ولعقود من الزمن احتضن أخوته المصريين بكافة تخصصاتهم ، وجعلهم يأكلون ويتمتعون بخيراته ، والآن يعضُّ البعض منهم اليد التي امتدت إليهم بالخير والعطاء ، مع الأسف (أويلي عليك يا عراق ، وقعت ولم يسمِ عليك أحد).
كان من المفترض عندما سمع هذا الموظف ـ غير المحترم ـ أني عراقي ، كان عليه أن يأخذني بعبارة لطيفة ، ودعاء لنا بالنصر على المحتلين ، وأن يخفف الله عنا ما نحن فيه وغير ذلك من الكلام الطيب ، لا أن يكون خنجرا يسهم فيه بإسالة ما تبقى من دماء عندنا .
لقد أدركت الآن أنّ الأمريكان لم يصلوا إلينا بقوتهم ، لا أبدا ، إنهم وصلوا إلينا واحتلوا أرضنا ، وغدا سيصلوا إلى غيرنا من البلاد العربية ، وصلوا إلينا لأننا ـ نحن العرب ـ لا نحترم بعضنا ، وأن جسدنا العربي ممزق ، وأن صوتنا متفرق ، وأن كلمتنا ممزقة ، وأن عواطفنا ليست لعروبتنا ، وأن شعاراتنا أكثر من فعلنا ، وهذا ما أوصلنا إلى المنحدر الذي لن نخرج منه ، مادامت هذه النفوس الخَرِبة موجودة في واجهاتنا الرسمية .