رياح السموم وربيع دمشق

د.محمد إياد العكاري

رياح السموم وربيع دمشق

د.محمد إياد العكاري

[email protected]

منذ خطاب القسم قبل ما يزيد عن خمـس سـنوات والحديث عن الإصلاح والتغيـير، ومحاربة الفســــاد يتردد بقـوة ويتعالى صداه في الشارع السوري، لتأتي التصريحات الرسمية التي تنطلق من ذلك المسؤول أو ذاك  بين الفينة والفينة كأنها حقنة تخدير يحقن في الشارع السوري والكل في السَّاحة يترقب ذلك المأمول من الوعود، وهذا الكلام المعسول  داخل الحدود، دون أن نرصد على السـَّاحة أدنى تغيير أو نبصر على صعيد الواقع أي بوادر حقيقية للإصلا ح والانفراج اللهم إلا ديكورات سطحية، و (روتوش )سطحي، وتجميل شكلي بالمظهر دون الجوهر.

 والإعلام الرسمي والخطاب الإعلامي في بلدنا يعزف ولايطرب، ويخرف ولا يعرب!! أجل  هـــذه الأداة الجـادة،ذا ت الجوارح الحادة تسبح في بلدنا مع التيار الحكومي الرسمي ،وتسبح في محرابه،و تردد ما يريده أصحاب القرار وأهل السلطة ففقدت هيبتها ومصداقيتها وتحولت إلى مسخٍ إعلامي، وأداة تضليل وتزويرٍ للحقائق.

أجل لقد تحول الإعلام في بلادنا إلى طبلٍ أجوفٍ لا يزال يعزف على جوقة التطبيل والتزمير!! ويقتات على نفخ الروح في الجمادات!! ويرتزق بزخرفة الكلمات، وتحميل الانتصارات ، وادعاء البطولات، حتى ليخيّل لنا أننا في الأوج من العصر الذهبي للأمة مجانبين الحقيقة، وممتطين أجنحة الدَّجل والكذب والخيال التي لا تطير لأن واقعنا يشهد أننا في العصر الكربوني وليس المقصود بذلك العصر الجيولوجي الغارق في القدم ولكنه العصر الكربوني في اللون والفعل لتلك المرحلة من تاريخ سورية التي نتذوق فيها القَطِران ونتجرع القهر ونلعق الصبر.

ومع احترامي للأقلام الحرة في بلادنا إلا  أنَّ إعلامنا ويا للأسف كما أسلفت الإعلام  هذه السلطة الرابعة أصبحت  بدلاً من تحمل مسؤولياتها وأداء واجباتها في إقامة كيان الحق والعدل،وتشييد مملكة القسط والقانون، والحديث بموضوعية وشفافية أصبحت مطيةً لأشباه الرجال، وأشباح الظل، وكتّاب السلطان مادتها الإذعان والقبول، ورسالتها التطبيل والتزمير،مواضيعها النفخ في الأموات ، والحديث عن الإنجازات  للعهد الرشيد والقائد الخالد.

  فإعلامنا على حقيقته نجده يساهم ويا للأسف في تغييب الوعي ،ويشارك في تثبيت الواقع المريض،ويعمل على طمس الهوية،ويتفلسف لتسطيح الرؤيا،ويسكت كل صوتٍ حر ،ويخمد كل حس راق ويقطع كلَّ نبضٍ للكرامة.

والأمر الأكيد في مجتمعاتنا أنها تعاني من مشاكل لا حصر لها على جميع الصُّعُد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية،وليس المقام مقام التفصيل في كل صعيد ولكن الأمر الذي يبرز نافراً في مجتمعاتنا هو الفوضى، والفساد، والرشوة والمحسوبيات ،وتعيين القرابات، والاستئثار بالسلطات،وتعميم الفقر، وغياب العدل، وتغييب الوعي السياسي ،والعمل على طمس هوية الأمة وتغريبها عن عقيدتهاوتراثها وأصالتها.

وتبرز هنا نافرةً مشكلة المشاكل في بلادنا ،والمعضلة الكبرى فيهاو هي انعدام الحرية ،وفقدان الأمان، وضياع الكرامة، وسلب المواطنة ،وغياب المجتمع المدني ،والتغريب القسري ،وفقدان سلطة العدالة و القانون ليبرز سيف قانون الطوارئ مسلطاً فوق الرقاب دون استئذانٍ ودون حساب.

إن ما يحصل من كتم ٍللأنفاس، وطمسٍ للحقائق ،وتغييبٍ للوعي السياسي لدى الشعوب، وتهميشٍ لرأيها كل ذلك يحصل لتبقى السلطة  بين حفنةٍ قليلةٍ لا هم لها إلا المحافظة على مصالحها وزيادة نفوذها ولو خربت البصرة ومانراه من مصائب وأزمات ماكان ليحصل في ظل دولة القانون والمؤسسات ووجود المجتمع المدني.

والحقيقة التي لا مراء فيها أنه كان لمنتدى الأتاسي قصب السبق في علو الهمة ورفعة المنزلة في المنتديات الثقافية التي ترعى الحوار الوطني في سوريا هذا المنتدى الذي تديره الآن الدكتورة سهير الأتاسي وأعضاء مجلسها كان قد طرح قبل مواضيع عديدة ذا ت علاقة بالشأن الداخلي ،وتناولها بجرأة وموضوعية، وناقش فيها ما يعانيه واقعنا وشعبنا في ظل قانون الطوارئ ،وانعدام الأمن والحرية ،وغياب الديمقراطية والشفافية ،وعدم وجود سلطة القانون وحرماننا من المجتمع المدني حيث انتعش المنتدى حقيقةً بمواضيعه وطروحاته خصوصاً بعد التصريح الرسمي له من قبل السلطات بعد تسلم بشار الأسد ووعوده بالإصلاح فتنفس في المنتدى أرباب الفكر والقلم الصعداء إذ وجدوا فيه متنفسهم مستروحين فيه عبير الحرية وأنفاس الكرامة وتلاقح فيه الفكر بالفكر،وتعاضد من خلاله الزند بالزند ليتألق المنتدى ويفوح أريج الحرية فيه الأمر الذي عُرف  بربيع دمشق مما شجع آخرين من أرباب الفكر والمعرفة في بعض المحافظات على افتتاح منتديات أخرى ما لبثت يا وللأسف هذه المنتديات أن أغلقت من قبل الأجهزة الأمنية بعد التضييق والاعتقال ولكن منتدى الأتاسي ظلَّ على حيويته وإن أحجم الكثير من روّاده عن المشاركة فيه  مخافة المساءلة والمحاسبة وبقي الأمر بين أخذٍ ورد، وشدٍّ وجذب مع السلطات إلى أن أصدرت الأجهزة الأمنية قراراً يوم أمس الخميس بإغلاق منتدى الأتاسي للحوار الوطني رسمياً وأمرته بالتوقف عن نشاطه نهائياً وتم استدعاء مسؤولة المنتدى والمشرف عليه بمذكره من قبل السلطات الأمنية لإبلاغهما بالأمر واعترض المنتدى بأن الأمر ليس صادراً من السلطات الرسمية بل من الجهات الأمنية، وقد سبق أن اعتقل ثمانية من أعضاء  المنتدى قبل أكثر من شهر بتهمة نشر أفكار الإخوان المسلمين ولم يُطلق سراحهم إلا قبل أسبوع.

إن ما صدر من قرار من قبل الأجهزة الأمنية بإغلاق منتدى الأتاسي رغم طابعه السلمي الهادئ والموضوعي ليظهر  لنا بجلاء سطوة الأجهزة الأمنية ويظهر  النوايا الحقيقية للسلطة بشأن الإصلاح والتغيير والمحاسبة والفساد وذلك بإغلاق أي باب أونافذة تطل منها الديمقراطية، وتكميم الأفواه، وخنق الحريات، وإغلاق المنتديات وتعطيل الحقوق السياسية للمواطن، ومنعه من المطالبة بأي حقٍ من حقوقه المسلوبة أو المناداة بالديمقراطية والشفافية أوالطلب بسيادة دولة القانون والمؤسسات لرؤية شمس الحرية والكرامة فوق ربوع البلاد.

يبقى أن أقول في الختام إن طمست رياح السموم المعالم وهبت على البلاد بغبارها وسمومها،وعانى الكثير منها ولكن مهما طال زمانها فلا بد أن تزول الغبار وتهبَّ رياح التغيير، وتشرق شمس الحرية ليصفو الجو ،وتغرِّد بلابل الدَّوح بعد أن يعطر الياسمين الدمشقي  بأريجه جو الشام كل الـــــــشـَّـــــــام، ويصبغ  بصفائه ولونه الحياة السياسية فيها.