الديموقراطية: مشروع استعمارٍ أم نهضة
الديموقراطية: مشروع استعمارٍ أم نهضة
م. حسن الحسن*
" بوش: يجب على سكان العالم الإسلامي أن يختاروا الديموقراطية."
"Bush: People of Islamic World Must Choose Democracy".
هكذا لخصت Kathleen T. Rhem من وزارة الدفاع الأميركية كلمة الرئيس بوش التي ألقاها في جامعة غالطة سراي في استنبول في 2004-06-29، والتي تناول فيها الحديث عن أهمية نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير.
ويُستخلصُ من كلمة بوش أنّ القضية ليست هي البحث عمّا يناسب العالم الإسلامي، أو ما يحبذه وينشده المسلمون لهم من منهجٍ للحياة عن رضىً وطواعيةٍ منهم، إنّما هي إملاءات يجب عليهم تنفيذها بغض النظر عن مدى موافقة الديمقراطية لعقيدتهم من عدمها، وبغض النظر عما إذا كان المسلمون بحاجة لهذه الديموقراطية أم لا. إنّما الواضح أنّ المطلوب أميركياً هو وجوب انصياع المسلمين لها رغم انفهم، وبغض النظر عن قناعاتهم، مع الخضوع التّام لها ولحلفائها في العالم الغربي.
وتحت هذه السياسة المعلنة تندرج تلك النداءات من بعض المبهورين بالغرب وبضاعته الفاسدة الداعية إلى دمج الديمقراطية بالإسلام، والحوار أو التوافق حتى التلاحم بين الحضارات، بالطبع لصالح الحضارة الغربية وسيادتها في العالم.
من هنا كانت تلك الجهود الضخمة والمنصبة على إلغاء كل الفوارق والفواصل والتعارض القائم بين الديمقراطية والإسلام، لِيُزَالَ التناقض الموجود حتما بينهما فيتحولا إلى توأمين، ذلك لأنَّ الإسلام يقف كالطود الشامخ أمام الفكرة الديموقراطية الرأسمالية، وهو الذي يمنع استتباب السيطرة لها على العالم الإسلامي، رغم ضعف المسلمين الحالي بسبب غياب الإسلام عن حياتهم ومكر حكامهم به وبهم، لذلك كان لا بدّ لهم من العمل على إزالته من الطريق، ولاستحالة ذلك، تمّ تبني تسوية تلك العوائق من خلال تأويل الإسلام ليقرّ بقبول الديموقراطية ويعترف بشرعيتها، وهو أمرٌ لن يشعر الغرب بالطمأنينة والسكينة والاستقرار وتحقق النصر الكامل له، قبل أن يجسد ذلك في العالم الإسلامي، حيث يراد تحويله إلى ما يشبه أميركا اللاتينية إن لم يكن أسوأ.
وعليه كان لا بدّ من استعراض بعض الأمور التي ينبغي تسليط الضوء عليها لبلورة أبعاد نشر الديمقراطية في العالم الإسلامي.
1. إنّ الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات كما يتوهم ويدندن لها البعض، بل هي وجهة نظرٍ في الحياة، تشتمل على ثقافةٍ وقيم ومفاهيم خاصة بها، تتناول الفرد والدولة والمجتمع. وأساس ما تقوم عليه وجهة النظر تلك، تقديس رغبات الإنسان وجعله السيد الأوحد في هذا الكون، وهذه هي القاعدة الفكرية للديموقراطية، والتي ينبغي أن تبنى كافة الأنظمة والقوانين على أساسها.
2. ليس الهدف من دمقرطة العالم الإسلامي استبدال الاستبداد والظلم والطغم الحاكمة فيه بالعدل والحق والخير (مع نسبية كثيرٍ من هذه المفاهيم)، إنما المقصود منها هو تغيير ثقافة الأمة وقيمها وتصورها للحياة، وبالتالي إتمام عملية ضم الأمة الإسلامية إلى حظيرة العالم الرأسمالي الغربي حضارياً بعد أن تمّ سياسياً.
3. إنّ غالب الأنظمة الطاغوتية الاستبدادية المتوحشة القائمة في العالم الإسلامي إنما هي أذرع الأخطبوط الأميركي الذي طالما ومايزال يستعملها لتحقيق مصالحه. وما تَفلّتَ من تلك الأنظمة من أميركا فليس بريئا بحال، إذ هو من بقايا المد الاستعماري القديم الإنجلو-فرنسي. ولو كان الغرب بريئا في دعوته إلى شعاراته لتخلى عن تلك الأنظمة المتعفنة، بدلاً من مدها بآلات القمع والتعذيب وأدوات التجسس على المواطنين وتغطية جرائمها طوال استمرار خدمة تلك الأنظمة لها.
4. إنّ انتصار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بمشروعهم الهادف إلى دمقرطة العالم الإسلامي، يعني إلغاء آخر الحضارات الممتنعة عليهم، والتي تشكل تهديداً حقيقياً لهم على المدى البعيد، والذي يبدأ مع بداية ظهور نقطة ارتكاز للأمة، تتمثل بدولة الخلافة التي تجسد مفهوم دار الإسلام. تلك الدولة التي تعني تقديم نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية بديلة لما عليه الغرب، وتحدّياً لأطماعه ووقفاً لنهب ثروات الأمةالإسلامية وغيرها من دول العالم المغلوب على أمرها.
5. إنّ العالم الحالي وبطبيعة سيطرة المبدأ الرأسمالي الديمقراطي عليه، يتحكم فيه معياران هما: القوة والمنفعة. وبما أن العالم الغربي هو من يتحكم بمفاتيح القوة وبمقدرات وثروات البشرية، فإنه الأقدر على الهيمنة والانتصار في ميادين الصراع في مختلف أنحاء العالم، وهو يفعل ذلك لتأمين استمرار استئثاره واستيلائه على مقدرات الأمم بغية تحقيق أعلى درجةٍ من المكاسب له، مما يعني نهاية التاريخ فعلاً لصالحه حضارياً ومادياً، كما تعني أيضا استقرار البشرية على الفكرة الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية الفردية الجشعة النهمة التي تنذر بسيادة شريعة الغاب في أبشع صورها على العالم.
إنّ ما سبق وليس تأويلات اللاهثين وراء تطويع الإسلام للديمقراطية، هو ما يفسر ذلك الإصرار من قبل الغرب عموماً على إكراه العالم الإسلامي على احتضان قيمه ومثله ونظرته إلى الحياة، بل وإلزامه بجعل الديمقراطية ومقتضياتها هي المعيار الأساس للحكم على مدى نهوض الأمة أو انحطاطها، بعد أن كان الإسلام وحده هو العامل الحاسم في تحديد ذلك.
واستناداً إلى ذلك يتم إدراك معنى دمقرطة العالم الإسلامي، الذي يسوسه الغرب بحسب قاعدة إما وإلا، بمعنى إما أن تقرّ الأمة الإسلامية بفكرة فصل الدين عن الحياة وإطلاق الحريات على النمط الليبرالي ومنح المرأة الحقوق الكاملة من منظور الفكر الغربي الديمقراطي الذي يجعل المساواة والتماثل في الحقوق والواجبات بين الذكر والأنثى هو الأساس، إضافة إلى بناء كل القوانين والتشريعات على أساس تلك القواعد الفكرية، وإلا فمنطق الإكراه المستند إلى قوة مطرقة الغرب هو من سيتكفل بمعالجة استعصاء العالم الإسلامي عليه، وهو ما سيمنح الغرب القدرة على التحكم بمناهج الأمة التعليمية وخطابها الإعلامي والسياسي والديني والثقافي عموماً، ليصيغها بحسب فلسفته هو لما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
ومن أجل ذلك تمّ بناء مراكز فكرية وثقافية وأكاديمية وإطلاق محطات فضائية لتسويق الديمقراطية ونشرها في العالم العربي والإسلامي، كما قامت مراكز قرارٍ غربية بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، بتمويل حركاتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ ودعم مفكرين ومثقفين وإبرازهم، بعد أن ارتضى هؤلاء تطويع الإسلام ودمج الديمقراطية فيه، بل وجعلها جوهر الإسلام وقلبه. وبغض النظر عن نوايا أصحاب تلك الحملة، فإن ذلك يصب مباشرة في جعبة الحملة لتغريب الإسلام وتفريغه من محتواه وجعله شكلاً بمكوناتٍ تنقضه عروة عروة.
وليس من قبيل الصدفة إطلاق صفة الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل المنفتح المتنور والمتطورعلى من يتبنى الترويج للديمقراطية ويعتبرها قضيته الأولى، فيما يعتبر من يفترض التضاد بين الديمقراطية والإسلام ويدعو إلى تطبيق الإسلام وجعله قضيته المصيرية الأولى متشدداَ متطرفاً وأصولياً متزمتاً.
ولذلك وجد أصحاب ما يطلق عليه التيار المعتدل الغطاء الإعلامي والسياسي والمالي وفسحة رحبة واضحة من المنابر التي انبرى من خلالها هؤلاء بالذبّ عن الديمقراطية وبتجميلها في أعين الناس، وذلك من أجل التأثير على شرائح واسعة من المسلمين، بخاصةٍ مع تطور وسائل الإعلام وسيطرتها على أذهان الناس وقدرتها الواسعة على التأثير في أفهامهم.
أخيراً، يتصورُ البعضُ أنّ مسايرةَ الغرب في فكرة الديمقراطية في هذا الوقت هو أمرٌ ضروري لازمٌ، إذ أن التغيير من داخل العالم الإسلامي أمرٌ ميؤوس منه، وأن مسألة التوافق مع الديمقراطية هي أمرٌ شكلي وأنها مجرد وسيلة لارتقاء سلم الصعود إلى السلطة، ويتساءل هؤلاء، ما الضير في استعمال أهداف الغرب لتحقيق مآرب نبيلة؟
يغفل هؤلاء حقيقة أنّ الغرب ليس بساذجٍ ليخدعوه بمثل تلك الانحناءات، بل إن الغرب يستعملهم وهو يعي نواياهم تماماً، وهو إنما يريد منهم إنفاذ مهمات محددة، وينتهي دورهم فور إنجازهم إياها، ولذلك فإنهم على رغم ادعائهم عدم مصادمتهم للغرب وقبولهم بقيمه وتسليمهم بديمقراطيته فإنه لا يثق بهم، وإنما يمتطيهم طالما أنهم يخدمون أهدافه الثقافية والفكرية بما لهم من وزنٍ لدى عامة الناس، هو نفسه الذي منح أكثرهم إياه، لإدراكه براغمياتهم وطريقة تفكيرهم، التي هو أكثر خبرة ودهاء في استعمالها، لأنها صنعته الخالصة.
والمستيقن حتماً هو أن الغرب لن يدع أحداً يصل إلى السلطة إلا إذا استوثق من أنه مؤمن فعلاً بقيمه محافظاً له على مصالحه، ضمن آليات يحرص على أن تكون مقاليدها الحقيقية بيديه، حتى يمنع من أن يعبث أحدٌ بمصالحه فضلاً عن أن ينقلب عليه.
لذلك فإنّ القضية ليست بتلك السذاجة التي يتوقعها البعض، فضلاً عن أن المراد هو تحرير الأمة جذرياً من التبعية للغرب وعتقها من ربقة استعباده لها، ولا يكون ذلك بشد وثاقها بحجج واهية إلى حضارته، وتمكين خصومها وأعدائها فكرياً وثقافياً منها بعد أن تمكنوا منها سياسياً، بل وعن رغبة وطواعية ودعوة مؤصلةٍ إلى تبني ثقافته وفكره ورؤاه!
من هنا أتت أهمية الحذر من الوقوع في فخ استدراج الغرب لتضليل الأمة من خلال شخصيات مرموقة لها وقعها على أسماع الناس. ولذلك كان لا بد من التنبه دائماً إلى ما يقال لا إلى من يقول.
وخلاصة القول إن الدعوة إلى الديموقراطية في العالم الإسلامي هي مشروعٌ استعماريٌ صرفٌ يدفع الأمة إلى الاستغناء عن هويتها الثقافية والحضارية وقيمها الخاصة بها، ودفعها نحو الذوبان في الغرب والانصهار فيه إلى درجة الانسحاق. بينما يكمن الحل الحقيقي الذي ينهض العالم الإسلامي في العودة إلى تعاليم الإسلام بنقائها وصفائها، وفي العمل من أجل تحقيق تغيير جذريٍ في الأمة الإسلامية بغية تحريرها من براثن الغرب وعتقها من الطواغيت والظلاميين ومن طواقم المستبدين، ودفع كل المجرمين الذين رهنوا مقدرات الأمة وماضيها وحاضرها لإعدائها إلى محاكم عادلة لينالوا ما يستحقونه جراء أفعالهم المشينة وجرائمهم الشنيعة بحق أمتهم ودينهم.
*نائب ممثل حزب التحرير في المملكة المتحدة 11 / 06 / 20005