الدائرة تدور والإسرائيليون لا يدركون
الدائرة تدور والإسرائيليون لا يدركون
بقلم: د.عصام عدوان
جامعة القدس المفتوحة – فلسطين
لقد أوضحنا في مقالنا السابق (الدائرة تدور وحكام العرب لا يدركون) أن لله سننٌ في الكون يحكمها نظام الدورات، سواء دورات الطبيعة من كواكب وإلكترونات ونيترونات، أو دورات الماء والمادة والهواء، وكذلك حال الحضارات والدول، وهذا ما توصل إليه علم الاجتماع وأصبح قانوناً علمياً يحكم مسيرة الحضارات والدول، وقد شاهد بعض كبار السن كيف نشأ الاتحاد السوفييتي، وكيف قوي وبسط نفوذه في العالم، ثم كيف انهار وتفككت أوصاله، وكل ذلك في عمر إنسان واحد(1917-1990م).
إن علوّ إسرائيل الذي بلغ مداه في حرب عام 1967م، عندما هزمت ثلاث دول عربية واحتلت من أراضيها، ولم تتمكن تلك الدول من فعل شيء بل استسلمت لإسرائيل عندما قبلت قرار مجلس الأمن رقم 242، ومهما قيل من أن نفوذ إسرائيل السياسي والاقتصادي والإفسادي على مستوى العالم يمثل علوها الكبير، إلا أن التوسع الجغرافي هو الدليل الساطع على هذا العلو، وقد بلغ هذا التوسع مداه فقط في حرب 1967م، وكانت تلك لحظة تاريخية بكل معنى الكلمة.
لكن سنن الله لا بد أن تفعل فعلها، كما تفعل فعلها دائماً مع المسلم والكافر على السواء، وبدأت إسرائيل في التراجع، تميل باتجاه ربع الدائرة الأول نزولاً، رويداً رويداً، فساقها غرورها لأن تُحْكم سيطرتها على الفدائيين فكانت هزيمتها في معركة الكرامة في 21/3/1968م، ثم شرعت تتحصّن بأسيِجة إلكترونية تحمي بها نفسها من ضربات الفدائيين منذ عام 1969م، ثم فوجئت بالهجوم المصري السوري المباغت في 1973م، واضطرت لتنسحب من أجزاء قليلة من غرب سيناء، ثم انسحبت من حوالي نصف سيناء الغربي وفقاً لاتفاقية سيناء الثانية عام 1975م، ثم انسحبت من كامل سيناء بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر عام 1978م، وتهيأت إسرائيل لفكرة إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبصرف النظر عن سيئات كل تلك الاتفاقيات والحلول إلا أن التقلص الجغرافي يتحدث عن نفسه معبِّراً عن تراجع إسرائيل وعدم قدرتها على التوسع أكثر مما حصل عام 1967م. وهو ما حصل أيضاً عندما وافقت إسرائيل على منح الفلسطينيين حكماُ ذاتياً وفقاً لاتفاق أوسلو عام 1993م، حتى بلغ التراجع بإسرائيل أن صرّح إسحق رابين في عام 1994م بأن على إسرائيل أن تستبدل وسائل إقامة حلمها في إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات من الوسائل العسكرية إلى الجرار الزراعي، كناية عن الوسائل السلمية عبر معاهدات السلام مع الدول العربية المجاورة، وما ترتب عليه من انفتاح اقتصادي وسياسي. وما ذلك إلا إدراك من إسرائيل بضعفها، وتعويض لأحلامها السرابية.
وقد أوصلت انتفاضة الأقصى المباركة إسرائيل إلى حالة فقدان التوازن التي تسبق الانهيار وغدت إسرائيل على أبواب إتمام الاستدارة 90 درجة باتجاه السقوط، ولعل ما واكب هذه الانتفاضة من تراجعات على المستوى الإسرائيلي هو من قبيل إساءة الوجه التي توعّد الله بها بني إسرائيل قبل تدمير علوِّهم الكبير، فقد قال تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليُتبِّروا ما علوا تتبيراً} (الإسراء 7) فإساءة الوجه ستسبق دخول المسجد الأقصى، وقد حصل ذلك ويحصل، ومن مظاهره:
· تراجع الدول النامية عن التعاقد مع جنرالات إسرائيل المتقاعدين لتدريب قواتهم والاستفادة من خبراتهم بعدما وجدوا إسرائيل عاجزة عن الدفْع عن نفسها أمام أطفال الحجارة وأمام ضربات المقاومة الفلسطينية البدائية الوسائل.
· تراجع الدول عن صفقاتها لشراء دبابات المركافاه التي تفتخر بها إسرائيل بعدما رأوا كيف تصهرها وتفتتها ألغام المقاومة الفلسطينية البدائية الصنع.
· كان حاييم وايزمن قد تعهد في خطاب توليه رئاسة إسرائيل قبل عشر سنوات أن يشهد عهده بلوغ عدد اليهود في إسرائيل السبعة ملايين يهودي، وهو ما لم يحصل، بل أدت انتفاضة الأقصى إلى تنامي الهجرة اليهودية المعاكسة، أي من إسرائيل إلى الخارج، وامتناع معظم يهود العالم عن التوجه إلى إسرائيل. وهكذا فقد فقدت إسرائيل أو كادت، إحدى ركيزتين قام عليهما المشروع الصهيوني في فلسطين؛ وهما: الهجرة اليهودية والاستيطان.
· وبالنسبة للاستيطان فقد دفعت انتفاضة الأقصى إسرائيل إلى إعادة حساباتها وقررت الانسحاب من مستوطنات غزة وبعض مستوطنات الضفة. وهذه ركيزتها الثانية آخذة في التراجع.
· وفي الوقت الذي ينفتح فيه العالم على بعضه البعض وتُزال الحواجز والحدود والجدران بين الدول، لا تجد إسرائيل من وسيلة لحماية نفسها من ضربات المجاهدين إلا أن تحبس نفسها في غيتو صهيوني خلف جدار الفصل العنصري، الذي هو أسوأ ما قامت به إسرائيل تجاه مستقبلها. حتى انطبق عليهم قول الله تعالى: { لا يُقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصّنة أو من وراء جُدُر} (الحشر 14).
· ومن يتابع الصحف الإسرائيلية يلمس مدى الرعب والإرباك في المجتمع الإسرائيلي، مما أربك اقتصاده، وزاد في حالات الانتحار، والتردد على العيادات النفسية، وما شابه.
إن ما سبق يجعلني أُرجِّح أن إسرائيل سيكتمل إرباكها واختلال توازنها وبلوغها ربع الدائرة الأول نزولاً في الفترة ما بين 2007-2017م، وتكون إسرائيل قد صارعت حالة العلو الكبير منذ عام 1967م ولخمسين سنة، كمن يصارع المرض سنوات تنتهي بموته، وعندذاك ستتسارع عجلة التغيير لتكمل إسرائيل دورتها في ربع الدائرة الثاني لتصل إلى الحضيض والأفول في حوالي خمس سنوات تالية (حوالي سنة 2022م على وجه التقريب)، وهي عُشْر المدة التي صارعت فيها حالة العلو الكبير. ودون ذلك جهاد وتضحيات كبيرة. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله . {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف 21).