صبرا وشاتيلا.. كأنها في كل يوم

صبرا وشاتيلا.. كأنها في كل يوم

عصام سحمراني

[email protected]

لبنانيّ أنا، ولدت كذلك قبل ثمانية وعشرين عاماً. حتى والدي الذي يبلغ من العمر اليوم سبعة وسبعين عاما ولد بالهوية نفسها. ووالدتي لبنانية أيضا، ولدت بهذه الصفة والجنسية، وهما فخوران بلبنانيتهما. قبل ذلك، جذوري العربية تعود إلى الحجاز من جهة أمي، وقد تعود إلى اليمن من جهة أبي. استوطن أسلافهما في هذه البقعة من بلاد الشام، المسماة بجبل عامل ساحلا وداخلا. وتغير الحال بمشيئة القدر الذي أراد للسلطنة العثمانية أن تهزم، وأن تندحر من بعدها الثورة العربية بغباء قادتها الحالم بأنّ المستعمرين الجدد ينوون السماح لهم بالأحلام. ذلك القدر جعلني لبنانيا ببركة «ردّ الأراضي التي سلخت عن لبنان» بحسب ما جاء في كتاب التاريخ المدرسي.

لبنانيّ أنا إذاً، وبعيداً عن نظرية العِرق اللبناني لا يمكن لأحد أن ينكر لبنانيتي. وأكثرية من يسكنون هذه الأرض لبنانيون أيضاً. يثبت ذلك تعايش وحروب، وشباط ونيسان وأيار وحزيران وتموز، وجواز سفر كحلي، وهوية زاهية الألوان، وكذلك اصبع انتخابي.

لكن بلد الوحدة والانصهار الوطني ذا الوجه العربي يعيش على أرضه من لا يحمل الهوية اللبنانية ولا يتفاخر بلبنانيته. فعلى هذه الأرض يتواجد سوريون وعراقيون ومصريون وسودانيون وآخرون أتوا لأسباب متفرقة وبظروف مختلفة، وحلوا في هذه البلاد يعملون ويكدحون ويعودون إلى بلادهم كل أسبوع ربما، أو في كلّ عيد. أو ربما يفكرون يوماً ما في عودة تبقى في عداد خياراتهم وأهدافهم، يتحكمون بها كيفما أرادوا، ويخططون لها متى ما شاءوا، ولا أحد يمنعهم عنها.

لكن على أرض هذا البلد يعيش فلسطينيون أيضاً. فلسطينيون يحلمون بالعودة. يحلمون فقط. يصرّون عليها أكثر من الجميع، ولو تهيأت لهم منذ اليوم لتركوا كل شيء وراءهم وعادوا إلى وطنهم. إلى حلم وطنهم الذي تاجر الجميع به وبقضيته.

أكثر المتاجرين كانوا من العرب، ولا سيما من اللبنانيين. وبعض المتاجرين كانوا من الفلسطينيين أنفسهم. لكنّ أم أحمد مثلاً لم تتاجر ببلدها. هي تحلم فقط بالعودة إليه رغم أنها ولدت خارجه. ولدت في مخيم شاتيلا، هي وآلاف غيرها ولدوا قبلها وبعدها، وساهمت هي نفسها في ولادة آخرين، وما زالت تعيش في المخيم حتى اليوم، وتتنقل داخله، وتنسجم مع كل شيء فيه و... تحلم بالعودة.

في لبنان فلسطينيون قُتلوا قبل سبعة وعشرين عاماً في صبرا وشاتيلا. فلسطينيون قتلوا ببركات الاجتياح الصهيوني لبيروت وترحيل منظمة التحرير. قتلوا على أيدي لبنانيين بدعم من العدو وشراكة معه وتغطية منه. لكنهم قتلوا على أيدي لبنانيين، وصمت لبنانيين آخرين. كان ذلك قبل سبعة وعشرين عاما بالتمام، لكن ذلك التاريخ ليس الوحيد في جرائم اللبنانيين ضد الفلسطينيين، فقد سبقته تواريخ ولحقته أخرى.

الصهيوني أنشأ كيانه العنصري فوق أرض فلسطين. هو محتل ومغتصب أرض وقاتل ومهجِّر شعب. هو العدو الأول والأخير. لكن اللبنانيين  الأشقاء أو الأصدقاء أو حتى الجيران فحسب  أيضا أمعنوا في قتل الفلسطينيين عن سابق تصميم. أمعنوا في ذلك، بل أكثر، فقد كان هنالك من يقف مع الفلسطينيين مرة ويعيد قتلهم هو نفسه في مناسبة أخرى! كأنهم يتبرأون من وقوفهم مع الفلسطيني في لحظة كفر بلبنانيتهم.

هل سأل أحد ما مثل هذه الأسئلة على بساطتها: كيف يتعامل اللبناني مع الفلسطيني كل يوم، ويتحول فجأة إلى قاتل له؟ ما السر خلف ارتكاب مجازر بحق الفلسطينيين في لبنان ربما تعادل ما ارتكب على أيدي المحتلين في فلسطين؟ لماذا ترك الفلسطينيون في لبنان لمواجهة مصيرهم؟ من حمى مرتكبي المجازر ولماذا؟ هل يحق للفلسطيني أن ينتقم؟ لماذا منع الفلسطيني من امتلاك القدرة على الرد؟ لماذا من تملّكوا واستملكوا طيلة تلك الفترة القدرة على رد جزء بسيط من الحق للفلسطيني لم يحققوا له شيئا؟ لماذا توقف كلّ شيء منذ زمن بعيد، وبات اللاجئ الفلسطيني سجيناً لا أكثر، بعدما كان صاحب قضية؟

والسؤال الأهم: ماذا قدم اللبناني للفلسطيني سوى الموت والدمار والتهجير حتى مما هجّروا إليه؟ ربما تضيق بعيون البعض أراضي المخيمات الفلسطينية حتى، فيطلقون عليها مصطلحات وصفات تصل بهم حد العنصرية. لكن ألا يخجل اللبنانيون وهم يستبدلون حلم اللاجئ بالعودة إلى فلسطين بحلم العودة إلى مخيم نهر البارد فقط لا غير!؟

ربما كنت مراهقاً في السياسة، ولا أفقه حلولا لتلك الأسئلة. أفكر في حلول غبية للغاية لها، حلول تثبت كلها تورط اللبناني في ذبح الفلسطيني وحرمانه من حقوقه الإنسانية والوطنية على مدار كل تلك السنوات.

لكنني لبناني رغماً عن الجميع وعنّي. لبناني لا يفتخر بهوية يشترك معه فيها من قتل فلسطينيي صبرا وشاتيلا، ولبناني لا يفتخر بهوية ترتكب كل يوم مجزرة جديدة بحقوق الشعب الفلسطيني تحت خداع اسمه التمسك ب«حق العودة».