شاليط وأسطورة التحدي في غزة

د.مصطفى يوسف اللداوي

شاليط وأسطورة التحدي في غزة

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

شكل أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من على ظهر دبابته منذ الساعات الأولى تحدياً كبيراً للجيش الإسرائيلي، وللمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وللدولة العبرية بأسرها، وقد فضحت عملية الأسر هشاشة الإدعاءات الإسرائيلية، ومازالت قضيته بعد أن مضى عليها قرابة الثلاث سنوات تشكل أكبر تحدي على مختلف الصعد الأمنية والعسكرية، ولا يستطيع أي مراقبٍ أو متابعٍ لمجريات وتفاعلات عملية أسر شاليط، والقدرة الفائقة على الاحتفاظ به طوال هذه المدة، إلا أن يعترف أنه أمام حالةٍ أسطورية نادرة، وأنه في مواجهة تحدٍ وإرادةٍ جبارة، وأن أي محاولةٍ لتحريره دون إرادة آسريه لن تجدي، وأنها سوف تأتي بنتائج عكسية وغير مرجوة، تماماً كنتيجة محاولة تحرير الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان، فآسروا جلعاد شاليط ليسوا مجموعة عسكرية، أو تنظيماً مسلحاً، إنما هو أسير شعبٍ بكامله، دفع من أجل الحفاظ عليه ثمناً كبيراً، ومازال يقدم على أمل الإفراج عن معتقليه وسجناءه لدى سجون العدو الإسرائيلي.

أما جوانب التحدي في قضية شاليط فهي كثيرةٌ وعديدة، ولا يستطيع أحدٌ أن يقلل من أهمية جوانبها الأمنية والعسكرية، ومظاهر الشجاعة والتحدي التي بدت على آسريه، الذين اقتحموا معاقل الجيش الإسرائيلي الحصينة، واعتلوا ظهر دبابته المصفحة، واقتادوا من على ظهرها جندياً كان يصوب فوهة دبابته نحو سكان قطاع غزة، ولكن أشدها غرابةً وأكثرها تحدياً، هو قدرة قطاع غزة الصغير المساحة، المحروم من العمق الإستراتيجي، المحاصر من كل الجهات، والمراقب من كل الأجهزة الأمنية الإقليمية والدولية، والخاضع بالكلية للرقابة والمتابعة الإسرائيلية، ولغيرها من الأجهزة الأمنية الأخرى، على الاحتفاظ به طوال هذه المدة، بعيداً عن العيون المراقبة، والأجهزة الأمنية المتابعة، ولعل أي زائرٍ لقطاع غزة، أو أي عارفٍ بطبيعة القطاع سيسأل نفسه، كيف استطاع أهل قطاع غزة أن يحتفظوا بشاليط بعيداً عن العيون، وخارج دائرة الخطر طوال الوقت، فسكان غزة لا يعرفون عنه شيئاً، ويسمعون أخباره من وسائل الإعلام، ويترقبون أخباره كغيرهم، وحالهم حال غيرهم يتساءلون أين يحتفظ المقاومون بجلعاد شاليط، وكيف ينقلونه من مكانٍ لآخر، وكيف يؤمنون مكانه وطعامه وشرابه، وكيف يشرفون على صحته وعافيته، وهم يعلمون أن كل قطاع غزة تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فكل بيتٍ في غزة مستهدف، وكل مكانٍ مرصود ومتابع، فإسرائيل لم تألُ جهداً في البحث عنه، وفي الاستقصاء عن الأماكن التي من المحتمل أن يكون فيها، وقد اعتقلت الكثير ممن تعتقد أنهم يملكون معلوماتٍ عنه، وأغارت على عشرات المواقع التي توهمت أنه موجودٌ فيها، وهي تخضع كل وسائل الاتصال الفلسطينية، وتلك التي تجري ضمن شبكة الاتصالات الإسرائيلية للمراقبة والتنصت، ولكنها مازالت عاجزة عن تحديد مكانه، أو التعرف على أي دليلٍ قد يقود إليه، وهي تمني نفسها بأن تحرره من أسره دون أن تدفع ثمناً لتحريره، وقد تكون إسرائيل وكل أجهزتها الأمنية حالمة وواهمة عندما تعتقد أن الشعب الذي قدم آلاف الشهداء، ولم تلن قناته، ولم تضعف عزيمته، ولم تبكِ عيونه، ولم تولول أمهاته، أمام هول الهجمات الإسرائيلية، التي دمرت بيوته ومنازله وكل مقدراته الاقتصادية، أنه سيضعف وسينهار، ولا يعتقدن أحد أن مساحة قطاع غزة الصغيرة ستحول دون الحفاظ على شاليط فيها، فكثيرٌ من الفلسطينيين يعتبرون أن الحفاظ عليه وعلى حياته أمانةً وطنية، وتكليفاً شرعياً، فحياته تعني حياة مئات العائلات الفلسطينية، وعودته إلى بيته تعني عودة البسمة إلى شفاه آلاف الفلسطينيين، ولعل إرادة الغزيين أعظم من أن يتصورها أحد، فهم يدركون أن العيون كلها إليهم تتطلع، والقلوب بهم متعلقة، فلن يخيبوا الآمال، ولن يشمتوا بهم وبمحبيهم الأعداء.

وعلى قادة إسرائيل كلهم، عسكريين وأمنيين وسياسيين، الذين غرتهم القوة، فأصابتهم بالغطرسة والعمى، فاعتراهم عمى ألون وتيه طريق، عليهم أن يوفروا جهودهم ووقتهم، وأن يتيحوا الفرصة لشاليط ليعود إلى بيته وأسرته، وأن يكفوا عن كل محاولات المراوغة والتردد والتريث، وعليهم أن يتوقفوا عن الشكوى والأنين، فما أصابنا بلاءٌ عظيم، وعليهم أن يختصروا على الوسطاء الدوليين جهودهم، إذ لا حل سحري يملكون، وعليهم أن يقلعوا عن المماطلة والمراوغة، ووضع الشروط وخلق العقبات، والتنصل من الالتزامات والتفاهمات، وعليهم ألا ينتظروا معجزةً تمكنهم من استعادة شاليط دون ثمن، وأن يسلكوا الطريق الأسهل والأيسر، إذ لا طريق غيره، ولن يجدوا أحداً في غزة يساعدهم على سلوك طريقٍ آخر، فبوابة عودة جنديهم واحدة، وهي لهم ولغيرهم معروفة، ولا تغرنهم كثرة الدماء النازفة، والبيوت المدمرة، والشوارع المخربة، والحياة البئيسة التي يعيشها أهل غزة بسبب حصارهم، أنهم قد يحققون ما يتمنون دون ثمن، فهذا في غزة محال.

لك الله يا غزة ما أعظمك، وما أعظم صبر أهلك، وما أشد بلاء أبناءك، كيف تحتملين كل هذا العناء، وكيف تصبرين على كل هذا البلاء، وكيف يحتسب أهلك كل هذا الابتلاء، وكيف يصبرون على هذا الشقاء، رغم عظم الخراب وقسوة الفناء، فإن غزة الصغيرة كالكف، صلبةً كالمخرز تفقئ العين، وتنغرس في كل مكانٍ في الجسد، فما صمودك أمام هول التحديات سوى أسطورةٌ سيجلها التاريخ وسيحفظها الزمان، وليعلم قادة إسرائيل أن جنديها سيعود إليها فقط يوم أن تفتح زنازينها، وتفرج عن رجالنا، ليعودوا كما يتمنون هم لشاليط إلى بيوتهم، وحتى ذلك اليوم ستبقى غزة محتفظةً بمن أسرت في ميدان القتال، وستتطلع إلى مزيدٍ آخر، تنظف بهم السجون، وتحرر بهم الأسرى، وتطمئن بهم المقاومين والمقاتلين، أن السجون لا تبنى على ساكنيها، وأن المقاومة لا تنسى مقاتليها، وأنها لا تنام قريرة العين وأسودها البواسل رهن السجون والمعتقلات، فلك الله يا غزة كم عودتينا على أساطير البطولة والتحدي .

               

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني