سرقات واختلالات في نظامنا الخائب

سرقات واختلالات في نظامنا الخائب

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في عيد الفطر الماضي سافرت إلى "المنزلة دقهلية" ـ مسقط رأسي ـ لأقضي بضعة أيام مع أهلي وإخوتي وإخواني في الله ، وحينما اقتربت بسيارتي من منزلي الريفي، رأيت عجبًا: عددًا من عجلات سيارات النقل، وقد أخذت مكانها أفقيًا في أماكن مختلفة من الشوارع، وتبين لي ـ كما عرفت من بعض الأهالي ـ أنها وضعت على بالوعات المجاري بعد أن سرق اللصوص غطيانها، فلجأ الأهالي إلى وضع "فردات الكاتشوك" مكان الغطيان لتحذير الأهالي ـ وخصوصًا الأطفال  حتى لا يسقطوا في هذه البالوعات.

وسألت بعض الأهالي:

ـ وأين المسئولون؟؟

ولم أسمع إلا الضحكات .. وتعليقًا واحدًا من رجل أميّ.

ـ يا سيدي مفيش حد قلبه ع البلد. دول مش فاضيين للغلابة اللي زينا .

 ثم علمت أن اللصوص يستخدمون "التوك توك" ـ وهو مركبة أكبر من الموتوسيكل ـ في نزع هذه الغطيان وحملها، وبيعها "لتجار الحرام".

**********

واعتقدت أن "لصوص المنزلة" قد اختصوا بهذا الابتكار، أو "الفكر الجديد" الذي ولّد لونًا جديدًا من السرقة، إلى أن قرأت في الصحف بعدها بأيام الخبر الآتي:

"سرقة أربعة آلاف غطاء صرف بالإسكندرية، والإسكندرية أصيبت بالشلل التام بسبب غرق شوارعها بالأمطار، في "نوَّة القاسم".(والنوة اصطلاح يتعلق بتقلبات الجو) .

   وأكد المحافظ الهمام أنه استدعى رئيس شركة الصرف، وسأله عن أسباب غرق المحافظة في النوة الأخيرة، فأبلغه بسرقة 4 آلاف غطاء صرف، وتصنيع نحو عشرة آلاف غطاء جديدة، لمنع تكرار ما حدث.(!!!!!!!؟؟؟؟) .

ومعنى هذا أن المياه غطت الأرض كلها، ومن السهل أن تبتلع فوهات المجاري من يمر بها؛ لأن المياه ساوت بين ما نزع غطاؤه، وبقية الأرض، وقد حدث أن ابتلعت فوة إحدى البالوعات طفلة بشارع كلية العلوم بمحرم بك بالإسكندرية الذي سرقت كل أغطية الصرف الصحي الموجودة به.

**********

وسرقة سور المحطة ..  وتوابعه:

ونستمر مع "الفكر الجديد" في السرقة .. وهذا ما فضحه النائب الإخواني: صابر أبو الفتوح، الذي تقدم بطلب إحاطة عاجل لرئيس الوزراء، ووزير النقل بسرقة السور الحديدي لمحطة قطار طوسون في أبي قير بالإسكندرية، وهو 150 مترًا مربعًا، بارتفاع ثلاثة أمتار، ووزنه 15 طنًا ـ وكذلك سرقة سيمافورات المحطة، والكشافات الكهربية، وكابلات الإنارة، وسرقة 16 غطاء من الزهر الخاص بآبار الكابلات الكهربائية.

وكتب الأستاذ محمد القدوسي (بتاريخ 5/12/2006م):

".. سور محطة قطار طوسون في أبي قير اختفى!!! صحا الناس فلم يجدوا السور الذي كان موجودًا في المساء.. والأمر هنا أسوأ من سرقة "الونش" الذي سرق من بضعة أعوام ؛ فالونش ـ على الأقل ـ يتحرك، ويمكن اللص أن يقوده، ويسير به .. و"الونش" يندرج تحت بند "المنقولات" ، أما "سور المحطة" فهو عقار ثابت في الأرض شأنه شأن المباني، وضياعه يعني أننا يمكن أن نسمع قريبًا عن صاحب عمارة حرر محضرًا بفقدان عمارته، أو ناظر مدرسة متهم بتبديد مدرسة بتلاميذها!!

... ثم هل سرقة السور هي النهاية، أم أنها مجرد بداية متواضعة لاقتلاع مزيد من الأسوار والجدران والمباني؟! وهل نستدعي صيحة الممثل عادل إمام على لسان "بهجت الأباصيري" الشخصية الأولى في مسرحية "مدرسة المشاغبين"  "كل واحد يخلي باله من لغاليغه" .

    ونحن نقدر انشغال النظام في التنصت على "دبة النملة" في الاجتماعات العامة، والخاصة والهواتف، أم نفترض أن نظامنا السعيد تخلص من السور عامدًا حتى لا يتاح للفرد أن يخبئ ابنه وراءه؟؟

**********

حقائق دامغة:

ونترك الأستاذ القدوسي بأسلوبه المر الساخر لنقرر عدة حقائق في هذا المجال: منها العام ومنها الخاص . ومن أهمها:

1 ـ أن الجهاز الأمني في مصر مهزوز.. مهزوز، يجعل همه الأكبر حماية "عرش النظام وحزب النظام" ، لا حماية المواطنين والشعب وممتلكات الأمة.

2 ـ أن "منطق التبرير" جاهز عند هؤلاء، فسرعان ما يسوق قادته ـ في القنوات التلفازية .. أن مثل هذه السرقات تقع في كثير من دول العالم، فلا غرابة أن يحدث هذا عندنا.

3 ـ أن كل دول العالم تؤمن بأن الوقاية خير من العلاج. أما "نظامنا المباركي" فيؤمن أن العلاج خير من الوقاية.

وإذا جاء العلاج جاء متأخرًا.. سطحيًا ..جزئيًا، يفتقر إلى التعمق، والدراسة، والشمول.

بل يأتي خائبًا، قد يؤدي إلى نتائج عكس المطلوب الناجع.

4 ـ استهانة "الكبار" بالمال العام، وإهداره كما يشاءون، كأنه ميراث آل إليهم من آبائهم وأجدادهم، فالغرْف منه دون مساءلة أمر طبيعي، لا يتعرض للوم أو نقاش.

فإذا اجتمع إلى هذا السلوك "خيبة الحل" آمنا بأن تفكير هذا "الكبير" لا يختلف عن تفكير "العوام" . وأعود بك أيها القارئ إلى سطور ذكرتها من قبل ونصها ".. وأكد محافظ الإسكندرية أنه استدعى رئيس شركة الصرف، وسأله عن أسباب غرق المحافظة في "النوة" الأخيرة، فأبلغه بسرقة 4 آلاف غطاء صرف، وتصنيع عشرة آلاف غطاء جديدة لمنع تكرار ما حدث.

ونسجل على هذه الجزئية الأخيرة الملاحظات الآتية:

أ ـ كنا نعتقد أن السيد المحافظ سيأمر بتحقيق قانوني مع رئيس شركة الصرف لتحديد المسئولية بصورة جادة، ولا يكتفي بمجرد "سؤاله عن أسباب غرق المدينة وضواحيها" وكأنه يسأل أحد أصدقائه: إيه رأيك في الكباب بتاع النهاردة ؟.

يا سيدي المحافظ إن مضمون هذه المسئولية: الاستهانة بأرواح المواطنين، والاستهانة بمال الشعب.

ب ـ وكانت إجابة رئيس شركة الصرف أغرب وأعجب "تم تصنيع عشرة آلاف غطاء جديدة لمنع تكرار ما حدث ".

ولم أفهم .. وقلبت المقولة على كل وجوهها، فلم أفهم أن صناعة عشرة آلاف غطاء جديدة يمنع تكرار ما حدث؟؟! هل زيادة عدد الغطيان يمنع سرقتها؟

أم يعطي فرصة أوسع مدى للصوص؟؟

يا أيها "المحترم الواعي جدًّا" إن اللصوص محترفون فنيون، والغطاء الواحد يحتاج اثنين أو ثلاثة يعرفون كيفية التصرف مع كل غطاء من  هذه الغطيان "بالنشر" أو "الصهر" . وللأسف لم يقبض على واحد من هؤلاء حتى الآن.

والخلاصة أنه لا بدّ من تدخل قوة أمنية رادعة عند حلول مثل هذه النوة.

**********

عن الحمير وسطوح القطارات:

وعلى سبيل الاستطراد ـ غير البعيد عن هذا السياق ـ ما قرأته من "حالات" من بضع سنين اكتفي منها بحالين:

1 ـ الأولى: ما برر به "زراعي كبير جدًّا" ارتفاع سعر اللحوم، وحصر "التبرير" في أن مصر فيها 2 مليون حمار، تحْرم المواشي من برسيمها، ويرتفع ثمنه. وما الحل يا عبقري؟؟ قال : الحل هو التخلص من هذه الحمير، ويستبدل بها عربات نقل صغيرة.

ولن أناقش هذا الحل العبيط؛ لأن الحمير المليونين زادوا واحدًا.

2 ـ الثانية:  الحلول التي قدمها" كبار جدًّا " لمنع تسطيح الركاب على القطارات، وخصوصًا قطار الصعيد، ورأوا أن أهم هذه الحلول "دهن" سطوح عربات القطار بالشحم . تصوروا!!

    ونسوا أن دهن سطح العربة الواحدة بالشحم يتكلف ما لا يقل عن 200 جنيه، والعملية تكرر كل أسبوع مرة، أي أن عربة القطار الواحدة يكلفها الشحم ألف جنيه كل شهر، هذا بالإضافة إلى تكاليف "غسل" سطوح القطارات من الشحم السابق بعد أن جمع من الغبار ركامات وركامات . وتوصل "الكبار جدًّا" إلى ترك الأمر على حاله، ولا يهمهم ما يرتكب فوق سطوح القطارات من جرائم الفسق واللواط والقتل.

*********

وما عرضته لا يعد شيئًا في مصر المخروسة (بالخاء لا الحاء) إذا قيس بمظاهر الفساد والسقوط والضياع الذي يأكل الوطن في ظل ما يسمى "الحزب الوطني الديمقراطي" . وحسبنا الله ونعم الوكيل.