جمال حشمت والضمائر الذبيحة

جمال حشمت والضمائر الذبيحة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

إنه يوم عجيب من أيام شهر أكتوبر سنة 2000... وما شاهدته في هذا اليوم جعلني أكاد أطير فرحًا, إذ رأيت في القاهرة «زحفًا» حقيقيًا من عشرات المصفحات وحاملات الجنود.. جنود الأمن المركزي يحملون الرشاشات والذخائر:

في فيلق فاق الخيالَ مضاؤُهُ          إن قيس بالحلفاءِ والألمانِ

واعتقدت أن هذه القوة المدرعة الرهيبة منطلقة لتحرير الأقصي والأرض السليبة, وأخذت أهتف لهم, وأحيي قائدهم «العميد».. ونظر إليّ الرجل وأنا أحييه وأحيي جنوده وأقول:

هيا جنود الأمن للأقصي الذي          أسرته غصبةُ قاتل شيطانِ

وكانت نتيجة حماستي وهتافي أن:

ضحك  العميدُ الشهمُ قائدهم, iiوفي
مـن غـفلتي وسذاجتي وبلاهتي
«بـل لـلأهـم قيامُـنا ومسارُنا
إنا إلي «أشمونَ» يمضي زحفُـنا



عـيـنـيـه كبرٌ ظاهرُ iiاللمعانِ
ومـضـي يقول بصوته iiالريان:
لـقـواعـد  الإرهاب iiوالعدوان
لـمـرشـح  بـجماعةِ iiالإخوان

* * *

إنها أبيات من قصيدة ساخرة بعنوان «الطريق لتحرير الأقصي», وقد جاءت في 36 بيتًا أشير فيها إلي مأساة أشمون, وما وقع عليها من عدوان الحكومة والأمن المركزي في انتخابات مجلس الشعب سنة 2000.
عطاء من الأدب السياسي

وما ذكّرني بها, وبظروف إنشائها إلا الكتاب القيم «مذكرات نائب من مصر» الذي كتبه الدكتور محمد جمال حشمت -أحد النواب الأشراف الأطهار بمجلس الشعب عن دائرة دمنهور.. وقد تآمروا وحرموا المجلس منه لأنهم لم يطيقوا طهارته ونقاءه وشموخه ودفاعه عن الحق, وحملاته علي الباطل, وعلي الدعارة الفكرية والأدبية.

والكتاب يعد قطعة من التاريخ السياسي لفترة تعد من أحلك عهود الحكم, وأشدها سقوطًا, وحرصًا علي التزوير والتزييف والاستهانة بإرادة الأمة.
والكتاب في منهجه يربط الخاص بالعام, ويخلُـص بعد عرض الوقائع إلي اعتصار الدلالات والدروس.

وكان الحديث عن الانتخابات ومتعلقاتها, وما صحبها من سقوط أخلاقي, وتزييف وتزوير ومغالطات وأكاذيب, واستخدام القوة الغاشمة ضد خصوم الحزب الوطني (حزب الأغلبية المدّعاة كذبًا وزورًا) وأخذت هذه القوة أقصي مداها, من اعتقال, وضرب, وقتل, ومنع الجماهير من الوصول إلي صناديق الاقتراع. والاستعانة بالبلطجية والمجرمين والعاهرات.

كل أولئك في مواجهة مرشحي الإخوان وأنصارهم . وكتاب الدكتور حشمت يغطي من الوقائع والأحداث ما يمثل عارًا, وإدانة فادحة للحكم المباركي -وللحزب الوطني- فتحدث عما نزل بسندوب وأشمون, ودائرة الرمل في الإسكندرية, والزرقا, ودائرة الدقي, وغيرها. وتحدث بتفصيل عن مؤامرة إبطال عضويته, وإعادة الانتخاب بتزوير كامل كان نتيجته نجاح النائب الوفدي «قلج».

وكتب الدكتور جمال كلمة من قلبه في «آفاق عربية» بعنوان: «مقعد في القلوب» قال فيها: «إن انتزعت الحكومة الفاشلة مني مقعدي تحت القبة, فيكفيني أن أتربع في قلوب الآلاف من أبناء دائرتي, وأبناء مصر في الداخل والخارج......».

طرائف من مجلس العار

وفي جلسة «إبطال» عضوية الدكتور جمال اجتمعت «جوقة» الحزب الوطني في قاعة مجلس الشعب, وبمشاعر ممزوقة مهتوكة, وضمائر ذبيحة مخروبة رفع أعضاؤهم أيديهم بالموافقة علي إبطال عضوية الرجل الشامخ الطهور. ومن حقك أيها القارئ أن تضحك معنا, ومع مؤلف الكتاب «للطرائف» التي عرضها, وهي إن دلت علي شيء فإنما تدل علي أن هؤلاء يتقدمون إلي الخلف, ويعلون ويصعدون إلي الهاوية, ويرقصون -في زفتهم- رقصة الطائر الذبيح. ومن هذه الطرائف ما يأتي:
- العضو فايدة كامل دافعت أثناء المناقشة عن الدكتور حشمت, ولكن عند التصويت رفعت يدها بالموافقة علي إبطال العضوية قائلة «لازم أرفع لأني حزب وطني»..... ولتنتحر الأخلاق يا فايدة هانم !!!
- أحد نواب الحزب الوطني من سوهاج -وهو لواء أمن دولة سابق- دخل الاجتماع, وهو يرفع يده دون أن يعلم علي ماذا يصوتون.. وبعد انتهاء التصويت خرج ليسأل فقيل له: التصويت علي إبطال عضوية الدكتور حشمت. فقال: والله ما أعرف, أنا لقيت الكل رافع إيده فرفعت.

شهوة الانتقام وتصفية الحسابات

ولكن شهوة الانتقام لم تتوقف عند هؤلاء, فكانت «الهجمة الحيوانية» مساء الإثنين 8/9/2003 علي منزل الدكتور جمال حشمت الذي كان غاصًا بأفراد الأسرة, وبعض إخوانه وزملائه, وبدأوا بالهجوم علي شقة صهره -أسفل منه- وكانوا كالثيران الهائجة, وقد شرعوا أسلحتهم. واعتدوا بالضرب علي ابنه خالد, ونهبوا أجهزة الكمبيوتر, وصادروا الأوراق والبحوث. وكتب الدكتور جمال في كتابه: «والجميل في الموقف المأسوي هذا, بعد أن قبّلت أولادي, وتبادلت السلام مع أهل بيتي وعائلتي, إذا بي وأنا في الشارع أجتازه للركوب في عربة خاصة مع ضابط أمن الدولة أن ارتفع الهتاف من كل الحاضرين: «الله أكبر ولله الحمد», وإذا بالزغاريد تملأ المكان من كل الشرفات التي ازدحمت بأهلها, فبدا المشهد كأننا في طريقنا إلي أداء فريضة الحج, أو أني ذاهب لأداء العمرة, فالأجر يعادل ذلك إن شاء الله, وكان ذلك مما زاد من حنق وغضب المقتحمين..».
ومضوا بالدكتور جمال إلي سجن استقبال طرة, ثم رُحّل إلي سجن مزرعة طرة, حيث كان إخوان الإسكندرية والمنوفية والدقهلية والشرقية والإسماعيلية, والتهمة التي وُجهت إلي الجميع لا مثيل لها في التاريخ وهي: تحرك الجماعة لإثارة الرأي العام, واستغلال بعض القضايا لتأييد وجهة نظرهم بأن الحكومة تتخذ مواقف سلبية تجاه القضية الفلسطينية والقضايا العربية, كما شملت خططهم الخروج في مسيرات ومظاهرات لتكدير الرأي العام, والتعدي علي الممتلكات العامة.. كما أنهم خططوا لاستغلال شهر رمضان لإقناع واستقطاب عناصر جديدة من خلال التردد علي المساجد."

من السمات والملامح

والدكتور جمال في كتابه هذا هو الدكتور جمال في واقعه وحياته وأخلاقه, فالكتاب يتدفق بالخلق العظيم والأدب الجم, فلم يجرّح واحدًا ممن أساءوا إليه, بل تعمد ألا يذكر أسماء كثير منهم. وهو يناقش الأمور والقضايا بحكمة ورزانة ومنطقية وعقلانية فاعلة. وقد تأخذه الحماسة أحيانًا, ولكنها لا تجور علي وقاره العقلي وسماحته واتزانه, وهي ملامح نفسية وخلقية معروفة عنه.

وأسلوبه يتسم بالترسل والتدفق, وعفوية العرض اعتمادًا علي الواقعية الميدانية والمرئية والمحسوسة, ومع التنزه الكامل عن التهويل والإسراف, حتي ليخيل للقارئ أنه يشهد هذا المعروض, بكل حركاته ونبضاته وحواراته حية تنتفض أمام عينيه.
وهذا الكتاب
«مذكرات نائب من مصر» الذي قارب 200 صفحة من القطع الكبير يستحق وقفات أطول من وقفتي هذه بكثير. جزي الله كاتبه خير الجزاء .