نظرة موضوعية لحوار الجار الله مع الرئيس

نظرة موضوعية لحوار الجار الله مع الرئيس

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في صحيفة «السياسة» الكويتية وفي صحفنا المدعوّة بالقومية قرأنا حوار أحمد الجار الله -رئيس تحرير السياسة- مع الرئيس حسني مبارك بالتفصيل, وكان ذلك يوم 14/5/2005. وقد عشت في الكويت عدة سنوات في مطلع السبعينيات, و«عرفنا» الجار الله جيدا, ورأينا -عن كثب- «موقفه»َ, بل «مواقفه» من مصر مما لا أجد داعية للتذكير.

ولكني أذكر القارئ «بلقاءات» عماد الدين أديب مع مبارك.. من بضعة أسابيع تلك التي نالت من الدعاية «القبْلية» ما لم تحظَ به الأفلام العالمية, وتجمع الملايين أمام «التلفاز» لمعرفة المفاجآت التي أعلن عنها.. ثم فُجع الناس بعد انتهاء الأحاديث في يومها الثالث بالمقولة العامية المشهورة «هًي ي ي يٍ.. عليك واحد»!!

فوارق واضحة

ومن السهل أن يدرك المتلقي -مُشاهدا أو قارئا- أن بين حوار عماد الدين, وحوار الجار الله فوارق واضحة, أهمها: الأول: فارق كمي, فالحوار الأول لا يقل عن ثلاثة أمثال الحوار الثاني» لذلك جاء في ثلاث حلقات علي ثلاثة أيام , وكل حلقة لا تقل عن ساعتين.

والثاني: من ناحية الشكل, فالأول كأفلام السينما التي استكملت كل العناصر الفنية من إخراج ومكياج ومونتاج وموسيقي تصويـرية... إلخ. ولا كذلك الثاني الذي جاء مادة مكتوبة.

ومن وجوه الشبه

ولكن هناك وجوه شبه أهمها: الأول: أن الأسئلة في مجموعها «مسالمة» هادئة تجنح للتسطيح, و«المسايرة», بعيدا عن المسائل الجدلية, ومنزهة عن «التعمق». و«منزهة» عن إدانة العهد المباركي. فلم نر سؤالا عن «اعتقال الألوف بلا محاكمات», ولم نر سؤالا من النوع «الإيجادي», أو من النوع «التوليدي» , وكذلك لم نر سؤالا مزودا بإحصائيات ميدانية أو شواهد مما كُتب عن العهد المباركي في تقارير دولية علمية... إلخ.. وكأن إرضاء «الرئيس» هو الهدف الرئيسي من الحوار.

ووجه الشبه الثاني: أن كلا من المحاورين (أديب والجار الله) كثيرا ما ينسي نفسه فيندمج في الدور كأنه عضو في ندوة وليس سائلا محاورا.

منهج الجار الله.. وطوابعه

وهذه السمة الأخيرة كانت عند السيد أحمد الجار الله -أجاره وأجارنا الله- أظهر وأوضح, فبصرف النظر عن مباشريته, وتسطيحه بسذاجة كثير من أسئلته, رأينا الرجل -ربما من فرط أدبه أو ظرفه , وربما من قبيل التعالم والاعتداد بالذات- يستهل كثيرا مما يمكن أن نسميه أسئلة بالإجابة , أو بجزء منها , أو بمعلومة جوهرية لها علاقة -أو لا علاقة لها- بالمضمون . وفي هذه السياقة انتقي ببعض الأمثلة ومنها:

س: سيادة الرئيس.. من يوم أن توليت سنة 1981, وحتي اليوم تم في عهدك بناء 4000 مصنع وفي هذه الفترة ظهر 31 ألف رجل أعمال... إلخ.

*    *    *

س: سيادة الرئيس قبل عدة سنوات, قال شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته «مصر تتحدث عن نفسها».

أنا إن قدر الإله مماتي

لن تري الشرق يرفع الرأس بعدي

والظاهر الآن أن رأس الشرق الأوسط كله غير مرفوع... فهل هذا..?

س: سيادة الرئيس لقد فتحت المجال لقيام حوارات وصلت حد البذاءة, والحرية المعطاة للحراك السياسي سمحت بالتطاول علي شخصك!! بماذا تفكر, وأنت تري أناسا يقولون «كفاية» وآخرين مش كفاية , مع أني أقول لك: إن هؤلاء المتظاهرين لا يشكلون إلا جزئية بسيطة من مجموع الشعب المصري, وجيد منك أنك كنت واسع الصدر, ولم تفرقهم بالقوة?!

 (لاحظ أيها القارئ كيف وضع الجار الله هذا نفسه موضع الحاكم المقرر الذي أعطي نفسه الحق في سب الشعب المصري, وتحريض الرئيس عليه أو علي بعضه , زيادة علي ما في العبارة من نفاق).

*    *    *

س: ما قصة فتح الأمريكيين لقناة حوار مع جماعة الإخوان المسلمين, مع أني أعرف أن ولي العهد السعودي الأمير عبد الله قد عاتبهم عليها..?

  (تعليق: يتحدث الجار الله عن مسألة كأنها حقيقة وقعت, وكل ما يريده من الرئيس مبارك هو تفصيل هذه «الحقيقة»)!!

قانون الطوارئ... والإرهاب

وقبل أن أتعامل نقديا مع هذا الحوار أحب أن أشير إلي أن السؤال عن قانون الطوارئ وضرورته أصبح متواترا. والإجابة أصبحت تقليدية متواترة: إنه وُضع -فقط- لمحاربة الإرهاب وتجارة المخدرات. ويظهر أن المسئولين الكبار.. والكبار جدا يجهلون أن «البانجو» يباع الآن -وخصوصا في القري- كما يباع الفجل والجرجير. ولكن الغريب العجيب أن الرئيس مبارك كان من مبرراته للعمل بقانون الطوارئ أنه «لا يوجد في مصر قانون لمواجهة الإرهاب» . ينقض الأستاذ المحامي الكبير فريد الديب هذه المقولة بقوله.. في مصر قانون بالفعل لمواجهة الإرهاب, إذ بموجب القانون رقم 77 لسنة 1992, المنشور بالجريدة الرسمية العدد رقم 29 مكررا بتاريخ 18/7/1992 تم تقسيم الباب الثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات الخاص بالجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل إلي قسمين: خصص القسم الأول منهما للإرهاب, ونصت المادة 86 الواردة في القسم الأول المذكور علي أنه يقصد بالإرهاب في تطبيق أحكام هذا القانون كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد, أو الترويع يلجأ إليه الجاني تنفيدًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بهدف الإخلال بالنظام العام, أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر, إذا كان من شأن ذلك إيذاء الأشخاص أو إلقاء الرعب بينهم, أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو منهم للخطر, أو إلحاق الضرر بالبيئة, أو بالاتصالات, أو المواصلات أو بالأموال, أو بالمباني, أو بالأملاك العامة, أو الخاصة, أو احتلالها, أو الاستيلاء عليها, أو منع أو عرقلة ممارسة السلطات العامة, أو دور العبادة, أو معاهد العلم لأعمالها, أو تعطيل تطبيق الدستور أو القوانين أو اللوائح.

ثم توالت مواد القانون بعد ذلك بشكل موسع في تجريم الإرهاب وفرض عقوبات شديدة علي مرتكبيه تصل في الأغلب الأعم إلي عقوبة الإعدام وبعد ذلك أتي نص المادة رقم 206 مكررا من قانون الإجراءات الجنائية المضافة بالقانون رقم 95 لسنة 2003 ليعطي للنيابة العامة سلطة الحبس الاحتياطي في جرائم الإرهاب المشار إليها لمدة تصل إلي ستة أشهر دون العرض علي أي قاضي.

 ويهتف الأستاذ فريد الديب بلسان الحق والحقيقة قائلا: «.. فكيف يقول السيد الرئيس إنه لا يوجد لدينا قانون لمكافحة الإرهاب, بينما يوجد لدينا مثل هذا القانون منذ 13 عاما?! ومن ثم تسقط حجة المبررين لبقاء حالة الطوارئ بدعوي مكافحة الإرهاب».

 من ثلاثين عامًا.. وزيادة نعرف السيد أحمد الجارالله جيدًا.. جيدًا جدًا. ونعرف جيدًا جدًا موقفه.. بل مواقفه السابقة من مصر والمصريين وقد عرضنا آنفًا طريقته ومنهجه في حواره مع الرئيس حسني مبارك, ورأينا كيف كان الرجل «مسايرًا» وشريكًا في الإجابات.. وكيف كان «التسطيح» من أظهر مطروحاته. مما يجعل حواره متخلفًا عن حوار «بيير يروسلان» رئيس الشئون الدولية بصحيفة لوفيجارو الفرنسية . وقد نشرته الأهرام في 25/3/2005. ويتفوق عليه بمراحل حوار «تشارلي» مندوب الـ«بي. بي. إس. الأمريكية» مع الرئيس مبارك.

 تحريف الأهرام وترشيح جمال مبارك

 ولكن دعك من هذا يا قارئي. فهناك مسائل خطيرة جديرة بالتوقف عندها, لتبين وجه الحق فيها بقدر ما تسمح المساحة المتاحة لقلمي, وأولي هذه المسائل ماصدّرت به الأهرام صفحتها الأولي.. إذ كتبت بالنص «قال الرئيس مبارك: إنه بعد تعديل المادة 76 من الدستور, وبعد أن أصبح باب الترشح مفتوحًا لمن تكتمل فيه الشروط, وبعد أن أصبح الجميع سواسية في هذا الجانب أصبح بإمكان ابنه جمال أن يترشح أو لا يترشح, وبالتالي لم تعد لديه حساسية من هذا الموضوع وكونه يتعلق بالتوريث». وأضاف: «ابني يترشح كأي مواطن وأنا أصبح بإمكاني أن أقرر براحة إن كنت سأنتخب, أو لا أنتخب, ويارب ألاقي مرشح غيري».

    وفي يوم الأحد 15/5/2005 (أي في اليوم التالي لنشر حوار الجار الله) نشرت الأهرام والصحف القومية اتهام رياسة الجمهورية للأهرام «بتحريف» نص الحديث, ومجانبة الدقة في النقل. ويقال: إن الاتهام سببه المقولة السابقة بصفة خاصة.

اتـهام فـي غير محلـه

وأعتقد أن رياسة الجمهورية لم توفق في هذا الاتهام, أو هذا التكذيب:

1- لأن الأهرام ليست هي الصحيفة التي تحرف الكلام بما يسيء إلي الرياسة , لأنها الصحيفة المباركية الأولي, وهي «تربية الحـِجْر» كما يقول التعبير العامي, وفيها من الأجهزة البشرية القادرة علي «التمييز» بصورة أوضح وأقوي من الصحف الأخري.

2- ولأن ما نسبته الأهرام للرئيس يعد تحصيل حاصل, وتردد كثيرًا علي ألسنة كبار الوطني وخصوصًا أحمد نظيف. ومن لم يصرح يعلم أن هذا جزء جوهري من السيناريو المستقبلي.

ولا حرج في أن يقول «الأب» الرئيس ذلك, ولكن الحرج, بل الكارثة أن يرشح جمال مبارك نفسه في ظل حكم قهري, آلياته السجون والغش والتزوير. أما في ظل عدل وحرية وديمقراطية حقيقية فسيظهر في الساحة المصرية عشرات كلهم جدير بحكم مصرنا الحبيبة.

3- ومما يؤكد صدور العبارة السابقة من الرئيس ما صرح به أحمد الجار الله نفسه في حوار أجرته معه قناة «الأوربت» مساء الأحد 15/5/2005 إذ قال: " من  المعلوم أن أي رئيس يمكنه أن يصرح للصحافي بأشياء ليست للنشر.. ولكن ما هنالك أن الأهرام نشر ما قاله الرئيس لي في الحوار طالبًا عدم نشره..». وهذا الاعتراف -مع ما سبق أن ذكرناه- يقطع بأن الأهرام لم تقع في تحريف أو تغيير.

مظاهرات بشويّة فلوس!!

وربما كان من أسباب اتهام الأهرام بالتحريف ما نسبته لمبارك من قوله للجار الله من أن مظاهرات حركة كفاية مدفوعة الثمن, وكان بإمكاني تنظيم مظاهرات بحفنة فلوس تهتف «مش كفاية» وللحق نقول:

1- إن اتهام حركة كفاية بالعمالة, وأن مظاهراتها مدفوعة الثمن اتهام في غير محله , لأنها حركة تجمع صفوة من كبار المفكرين والكتاب والصحفيين من أحزاب مختلفة, وأن هذه المظاهرات لا تكلف أصحابها إلا القليل جدًا من النقود ثم ما الدليل علي أن هناك ثمنًا مدفوعًا? ولمن    دفع هذا الثمن?

2- لو كان هدف رجال هذه الحركة «ماديًا» لاندمجوا في صفوف الحزب الوطني, والهباشين والهبارين من حملة القماقم في «بني يورو».

3- ما قاله الرئيس «أو ما نسب إليه» بلسان الإمكان والمستقبل, إنما هو قائم بالفعل في شكل ما يسميه الناس «بالمظاهرات العشرينية» -نسبة إلي العشرين جنيها- التي يتقاضاها كل بلطجي من «متعهد» معروف لإفساد المظاهرات المضادة, واستعمال أسلوب التهريج, والكلمات السوقية الساقطة في هتافات مثل: «غير مبارك مفيش مفيش, غيره غيره  ما يلزمنيش.. إلخ» وخد يا رقص.. ويا تصفيق.. ومصادمات «ثيرانية». ووالله أصبت بالغثيان وأنا أري في التلفاز «مظاهرة حريمي» ضمت نسوة يرتدين أسمالاً بالية, ويظهر أن بينهن وبين الماء خصامًا, ورأيت منهن من تحمل رضيعها بطريقة «امتطاء» إحدي كتفيها.. وفي يد كل منهن صورة ورقية لمبارك. كل هذه البهدلة مقابل 15 جنيها في اليوم بعد خصم عمولة المتعهد. ونسيت رياسة الجمهورية أن مثل هذا المشهد الجمعي الفقير الدميم البائس يعد إدانة وإهانة فادحة للعهد المباركي, والخلاصة أن هذه المظاهرات هي التي يجب أن توصف بأنها مدفوعة الأجر.

الإخوان.. وحزب سياسي

وفي حديثه لمندوب الـ«بي. بي. إس» الأمريكية يصرح الرئيس مبارك برفض قيام حزب للإخوان «بحجة أن القانون يمنع قيام أحزاب دينية, أو علي أساس ديني».

وهو يلح علي هذا المعني في أغلب أحاديثه.. ولكن الجديد الذي قاله للجار الله ونشرته الأهرام في صدر الصفحة الأولي: الإخوان يريدون السلطة, وإذا حكموا فسيحكمون للأبد, ويسببون القلق وهم سيبدءون بمهادنة الحاكم كخطوة أولي, ثم يبدءون بإثارة الفوضي السياسية, ثم القفز علي الحكم.

وفي نقاط سريعة مكثفة أقول:

1- إن إرادة السلطة لا تعد مأخذًا مادام الهدف هو تحقيق المصلحة العامة «لا الهبر والهبش وسرقة أموال البنوك وتحقيق الأمجاد الشخصية والمظهرية الكاذبة».

2- لم أفهم ماذا يريد الرئيس بكلمة «الأبد»?!

3- الإخوان -علي مدي ثلاثة أرباع قرن- عاشوا محنًا عاتية: سجنًا ومطاردة وإعدامًا.. إلخ, ومع ذلك ازدادوا قوة وانتشارًا باهرًا ولو هادنوا ونافقوا لحكموا علي أنفسهم بالانتهاء الأبدي , فالبقاء للأصلح والأقوم يا سيدي..

4- وأعتقد أن القول بأنهم سيحدثون القلق والفوضي السياسية للقفز علي الحكم.. اتهام بلا دليل.. ويشهد بحرصهم علي النظام وإتقان العمل والحرص علي المصلحة العامة أداؤهم في النقابات المهنية والمجتمع, خصوصًا عند حلول الكوارث.

عَبـْر أحزاب مرخصة!!!

ومن أغرب ما قاله الرئيس للجار الله «ومع ذلك يسمح للحزب الديني «الإخوان» بالعمل عبر أحزاب أخري مرخصة..» أقول: إنني حتي الآن لم أفهم معني «يعملون عبر (أي من خلال) أحزاب أخري مرخصة».. ومضطر أنا أن ألجأ إلي الافتراضات محاولة مني للخلوص إلي الفهم:

1- والافتراض الأول أن يلتحق الإخوان جماعة بحزب كحزب الوفد مثلاً, محتفظين بهويتهم وأيديولوجيتهم وهذا طبعًا ما لا يقبله الحزب الأصيل كما أن الحظر القانوني يظل قائمًا» لأن التغير شكلي بحت.

2- أن يتم هذا الالتحاق «الجماعي» مع الانسلاخ من الهوية والأيديولوجية وهذا مستحيل الوقوع, ولا يمكن تصوره لعقد الرابطة الإخوانية الجامعة.

3- أن يلتحق الإخوان بهذا الحزب «أفرادًا», وهذا لا مشكلة فيه, وليس هو موضوع الجدل والخلاف, ونكون قد درنا في حلقة مفرغة, ويظل الإخوان بلا حزب سياسي يمثلهم,وأعضاؤهم يعدون  بالملايين.

ثم إن الإخوان قد أعلنوا -ومازالوا- أن الحزب الذي يريدون تشكيله حزب سياسي ذو مرجعية دينية. والدينية هنا بمفهومها الوسطي العادل الشامل المؤسس علي القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق. فأين التعصب المدعَي وإحداث الفتن الدينية بقيام حزب تتسع عضويته لذوي الديانات الأخري??!!