من يمنحني ذرة عقل حتى أفهم ؟؟

من يمنحني ذرة عقل حتى أفهم ؟؟

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

        مضطرًا أجدني أصدّر مقالي هذا بالوقوف لحيظات أمام رسالة شاذة. إنها رسالة تلقيتها ببريدي الضوئي من مجهول رمز إلي اسمه بـ(ن.ع) يقول فيها: «كيف تتهمون نظام الرئيس مبارك بالدكتاتورية, مع أن اتهامكم هذا, والسماح لكم بنشر مثل هذه الاتهامات, يدل علي أنكم تعيشون أزهي عصور الديمقراطية والحرية..».

مغالطة مرفوضة
         وما ذكره (ن.ع) ادعاء يكذبه الواقع في بلد يُحكم من ربع قرن بقانون شاذ ممسوخ اسمه «قانون الطوارئ».. بلد به 25 ألف معتقل لا يعلم أهاليهم لهم مكانًا, وكثير منهم انتقل إلي رحمة الله بالتعذيب. وفي أية لحظة, ودون تبرير يستطيع رجال الأمن اقتحام المساكن.. وتخريبها.. ومصادرة ما فيها من مال وأجهزة كمبيوتر, وحليّ النساء.. وكُتب الرجال والأبناء. ومن التهم الجديدة تهم «نفسية» لم يسمع بها أحد, مثل اعتناق فكر جماعة محظورة, أو ازدراء النظام القائم وتحقيره.. فيحاكم المدني أمام قضاة عساكر لمجرد مشاعر وأفكار حبيسة لم تأخذ صورة تطبيقية عملية.
والنظام المباركي لا يسمح بالنقد إلا كوسيلة من وسائل امتصاص غضب الشعب ونقمته, وتذويق صورته في أنظار الدول الأجنبية, وخصوصًا أمريكا و«العم بوش» إمبراطور العالم.
         علي أنك يا (ن.ع) لم تأت بجديد» فأنت إنما تردد بعض ما قاله ويقوله السيد «مرجان» في أهرام كل أربعاء من أننا نعيش أزهي عصور الديمقراطية والحرية في العهد المباركي.. حرية.. لم نعش مثلها من عهد الفراعنة, بل من قًبل العصور الفرعونية إلي ما قبل مبارك.. لذلك نراه يرجوه ويستحلفه, ويضرع إليه ألا «يتركنا للعواصف والأمواج العاتية, والحيتان.. والوحوش..» وإن تفوق عليه في «المنظومات النفاقية: القمص شينودوسيوس السرياني.
ولكن يبقي لهذا المرجان فضل السبق إلي جديد.. جديد.. جديد.. وهو أن رجال الأمن بهذا العدد الكثيف جدًا إذ يحيطون بمظاهرات المعارضة, ويمنعونها من مواصلة السير.. إنما يفعلون ذلك حماية للمتظاهرين من غضب الشعب» لأنهم لو تخلوا عنهم «لفتكت بهم الجماهير» وهذا نص عبارته.. وأكررها مرة أخري «.. لفتكت بهم الجماهير».
وبناءً علي هذه النظرية المرجانية الجديدة من حقنا أن نتهم جماعة الإخوان المسلمين (التي هي محظورة), وكذلك حركة «كفاية» وغيرها.. نتهم هؤلاء جميعًا بالعقوق والجحود دوإنكار الجميل» إذ كان عليهم -علي الأقل- أن يوجهوا الشكر لرئاسة الجمهورية.. ووزير الداخلية.. لأن رجالهم الأمنيين.. قاموا بحمايتهم من «فتك الجماهير».
إن هذا «الجديد المرجاني» يكاد ينسينا ما كتبه القمص السرياني من أن الله «قد بارك.. «مبارك» وأعده لحكم مصر, من أول أن كان جنينًا».
المظاهرة المباركية بالأزهر
    ويوم الجمعة : 15 من إبريل 2005 -بعد الصلاة مباشرة- قام قرابة مائتين في ساحة الجامع الأزهر, ورفعوا عشرات من «اللوحات الخشبية» تحمل صورة الرئيس مبارك, وعبارات التأييد له, ومنها: «نعم لمبارك», أما «الهتيف» قائد المظاهرة فقد «امتطي» كتفي واحد منهم, وأخذ, وأخذ يقرأ منها «الجمل» التي يهتف بها, علي قصرها, ولم يرفع عينيه عن الورق,ة مما يؤكد أنه موظف حكومي «استدعوه» للقيام بهذه المهمة, شأنه شأن العشرات الذين يرددون, ويهتفون بما لا يعرفون, ويصدعون بما يؤمرون. ولا تسلٍ: كيف سمح رجال الأمن بدخول هذه اللوحات الخشبية لعملاء الحزب الوطني دون غيرهم, وإن تحايلوا, ووفقوا في «تسريب» لافتات قماشية, وتهريبها.
وبدأت الهوجة
     دخل السيد الدكتور «صوان» محافظ الدقهلية.. دخل التاريخ من «.......» أبوابه, وأسٍمجها» إذ أعلن في حماسة وإصرار مرفوضين من أي عاقل ذي كرامة «أنه باسم خمسة ملايين من أهل الدقهلية يبايعون مبارك رئيسًا لمدة خامسة الآن.. اليوم... ولا داعي للانتظار».
   ومن أيام.. في احتفال صاخب.. وعلي رءوس الأشهاد رأينا قيادات صوفية, ومنهم أساتذة في الأزهر كبار يعلنون «باسم عشرة ملايين صوفي» مبايعتهم مبارك لمدة خامسة.. وبذلك تصبح الحصيلة المباركية 15 مليونًا, وهذا العدد «كفاية» ونص. ومعروف أن الطرق الصوفية عاشت ولا وعلاقة لها بالسياسة. وهناك سؤال يتردد في صدري, وعقلي, وقلبي, مؤداه: يا أيها المتصوفون.. هل لو امتنع مبارك عن الترشيح, وترشح ابنه جمال, أو «,الشاذلي» أو «الشريف» هل ستظل بيعتكم علي حالها? أم أنكم «وقفتموها» علي مبارك لشخصه دون غيره? هل أطمع في الإجابة من الدكتور أحمد عمر هاشم, وهو من أشهر رجال الصوفية, ويقال: إنه أشهر من ينتسب للسيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وعنا جميعًا.
لهفي علي هذا القماش!!!
      عندما عاد السادات من «كامب ديفيد» استقبله -وبتعبير أدق: أُرغم علي استقباله- عشرات الألوف أمام مطار القاهرة, ,منهم آلافًا الفلسطينيين.. وحمل هؤلاء آلاف من اللافتات القماشية الضخمة جدًا, وكلها تمجد «بطل السلام» أصابني هم ثقيل, وأنا أردد بيني وبين نفسي: أما كان فقراء مصر المطحونة أحق بهذا القماش ليصنعوا منه ثيابًا تقيهم برودة الشتاء, وحرارة الصيف? ثم شعرت بمسحة من الرضا والطمأنينة وأنا أهمس لنفسي: علي أية حال ستئول هذه اللافتات إلي الفقراء.. يغسلونها, ويزيلون منها ألوان الكتابة, ويتخذون منها ثيابًا. ثم تحطمت طمأنينتي, وذاب رضاي» إذ اكتشفت أن كل لافتة ذات عشرات من الثقوب الواسعة تفاديًا لمقاومة الهواء.. أي أن هذا القماش الفاخر مصيره القمامة.. أو تحويله إلي خًرق للتنفيض ومسح الأحذية.
     ويوم السبت الماضي مررت ببعض الشوارع والميادين فرأيت «بشاير» اللافتات القماشية بالمئات ذات مساحات واسعة, وبعضها لا يقل عن ثلاثين مترًا (في خمسة أمتار) وقد امتدت بعرض الشوارع, وعلي الشرفات, وهي ذات ألوان متعددة.. وكلها تقول: «نعم لمبارك» وكل واحدة منها تخرج لي لسانها من الثقوب الواسعة التي توزعَتٍها, وأغلبها يتحدي الواقع بعبارات غريبة مثل: «نعم لمبارك لاستكمال مسيرة العدل والسلام والرخاء» وأصرخ في صمت متسعر: يا ناس.. أين العدل وأين السلام وأين الرخاء? ثم عذرت الناس لأني علمت أنهم مكرهون علي ما فعلوا بأمر المحافظ, وقادة الحكم المحلي.. وأبحث عن عقلي فلا أجده, وهنا لم أعد أري إلا «لافتة واحدة» أراها ببصيرتي ومشاعري وآلامي, وقد كتب عليها: «من يمنحني ذرة عقل حتي أفهم??».