لله درّ القمع ما أعدله !

لله درّ القمع ما أعدله !

بمناسبة الاعتداء على أسرة المعارض السوري عارف دليلة

بقلم : محمد الحسناوي *

الشعب السوري بمجموعه يعاني من القمع طوال أربعين عاماً في ظل أحكام الطواريء ، والحزب القائد ، والطابع الأمني للنظام ، الذي جاء عبر انقلاب عسكري ، واستمر كذلك حتى يومنا هذا . لكن هناك شرائح سورية تعاني المأساة بشكل مضاعف ، مثل الإخوة الأكراد وجماعة الإخوان المسلمين والمواطنين العلويين المعارضين للنظام أيضاً ، نخص بالذكر أسرة المعارض السوري الدكتور عارف دليلة ، وابن خالته الناشط في حقوق الإنسان المحامي أكثم نعيسة ، والناشط نزار نيوف ، والشاعرالدكتور أحمد سليمان الأحمد أخا بدوي الجبل الذي ضرب في مطار أوروبي ، وزرق بجراثيم قاتلة ، توفي بعدها بها بشهور، وابن أخيه الشاعر منير الأحمد (صاحب برنامج مرحباً ياصباح الإذاعي ) الذي مات تحت التعذيب ، والمحامي حبيب عيسى الناطق باسم منتدى الأتاسي ، والطبيب الشاعر حسين صارم الممنوع من الخروج من سورية ، الذي استضافته الأجهزة الأمنية مرات عدة ، وأخيراً وليس آخراً الدكتور الخير الذي وصف بأنه سجين الرأي الأطول مدة في سورية .

ففي يوم 12/4/2005م نشر المحامي حسن دليلة والدكتور مصطفى دليلة نداء باسم أسرة الدكتور دليلة أكدا فيه البيان الصادر عن الأسرة حول العدوان الوحشي الذي تعرضت له الأسرة وما تزال : من قيام عناصر (الشبيحة) بكسر الباب الخارجي لمنزل الدكتور ، ومحاولة قتل متعمد لابنه شادي ، وضرب ابنته بالسكاكين الحادة والعصي ، عن سابق عمد وإصرار ، ورفض الشرطة والقضاء والمستشفيات القيام بدورها تجاه المصابين ، وإجراء تحقيق بالواقعة ، واعتقال المتهمين الذين ما زالوا يسرحون ويمرحون بحجة أنهم متوارون . أما ( أفراد الأسرة فقد أصبحوا كلهم ملاحقين وفق ضبط الشرطة ، وأقوال مجموعة من ذوي السوابق الإجرامية التي لا حصر لها ، والمثبتة في وقائع رسمية في أقسام الشرطة ، بينما لم تؤخذ أقوال شهود العائلة بالحسبان ، والتي تثبت وجودهم أثناء الجريمة بعيداً عن المنزل ) .

من الوقائع الفاجعة (نقل المصاب شادي من قسم العناية المشددة إلى الإسعاف العام ، وأغلق تقرير الطبيب الشرعي بسرعة مفاجئة وغريبة ، على الرغم من اعترافه بعمق الإصابة وخطورتها ....ثم نقل المصاب نفسه إلى الزنزانة فجأة ، على الرغم من أن تقارير جميع الأطباء في المشفى تؤكد ضروة تصويره ، ولم يتم التصوير إلا في اليوم الرابع .. وأفراد عائلة دليلة ملاحقون ، والمهندس غازي دليلة في السجن ) !!

من المعلوم أن الدكتور عارف دليلة ( أستاذ جامعي ما بين عامي 1982- 1998 ، وعميد كلية الاقتصاد ) ، مسرح من عمله لمعارضته ، وقد اعتقل وحوكم أمام محكمة أمن الدولة الاستثنائية مع نشطاء المجتمع المدني ، الذين شكلوا ما يسمى ( ربيع دمشق ) في حينه عام 2002م ، أمثال النائبين رياض سيف ومأمون الحمصي ، والمهندس فواز تلو ، والطبيب كمال لبواني ، والمحامي حبيب عيسى ، ورجل الأعمال حبيب صالح ، والطبيب وليد البني ، والمدرس حسن سعدو ، حيث حكم على كل منهم بالسجن من ثلاث إلى خمس سنوات ، إلا هو فقد حكم عليه عشر سنوات بجنايتي توهين نفس الأمة وإثارة العصيان المسلح . وقد تعرض في سجنه للضرب والإهانة وهو يعاني من أمراض مزمنة . وبالمناسبة كانت جريمة الدكتور دليلة ما صرح به من أن : ( 5% )من المواطنين السوريين يحتجزون ما مقداره ( 80% ) من الدخل الوطني ، وأن ما ينفق على أسطول السيارات التي تستخدمها أجهزة الدولة والحزب الحاكم وأزلامهم وأولادهم ومحاسيبهم يمكن أن تنهض برواتب جميع موظفي الدولة الشحيحة .

هذا يعني أن سجل حقوق الإنسان في عهد الرئيس الشاب لسورية لم يتحسن ، بل زادت الانتهاكات في السنة الأخيرة ، فقد أعلنت جمعية حقوق الإنسان في سورية في بيان لها بتاريخ 7/4/2004 أن ( 13 ) سورياً بينهم ( 11 ) مواطناً كردياً توفوا تحت التعذيب في عام 2004، في فروع الأمن المختلفة . ( خمسة من المواطنين الأكراد توفوا تحت التعذيب في فروع الأمن أثناء التحقيق، وذلك عقب المظاهرات التي جرت في محافظة القامشلي شمال شرق البلاد . كما سجلت الجمعية وفاة ستة من المواطنين المجندين الكرد أثناء تأديتهم الخدمة العسكرية في ظروف كثيرة للشبهة ، وتوفي مواطنان تحت التعذيب في فروع الأمن الجنائي التابعة لوزارة الداخلية ) . ... وذكرت الجمعية ( أيضاً استمرار ظاهرة الاعتقال العشوائي دون مذكرات قانونية حتى وصلت حالات الاعتقال المؤقت أو الدائم خلال عام 2004 م ما يقارب 445 مواطناً ) .

وفي وقت مزامن للاعتداء على أسرة الدكتور دليلة اعتدى مدير منطقة الحفة التابعة لمدينة اللاذقية العميد هاني عزيزي على المحامي فراس عابدين ، حين طلبه إلى مكتبه ، وأقدم على إهانته وضربه هو وعدد من رجال شرطته منتصراً لأحد عناصر الشرطة التابعين له وأمر باعتقاله . ولما اتصل به وفد من نقابة المحامين لمقابلته والاحتجاج على سلوكه رفض العزيزي مقابلتهم .

هذه الانتهاكات استمرار لمسلسل لانتهاكات منذ اربعين عاماً ، وهي في الوقت نفسه تحمل نكهة التشنج بعد قرار إخراج القوات والمخابرات السورية من لبنان ، من أجل قمع التململ الشعبي ، وموجة التطلع للخلاص من الكابوس الأمني .

المراقبون للوضع السوري صح توقعهم أن الفرج للشعب السوري سوف يأتي من لبنان ، فقد قمعت محاولات التغيير السلمية وغير السلمية بعنف مبالغ فيه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، كما قمع ربيع دمشق في مطلع القرن الجديد ، وحتى خطاب القسم الذي وعد فيه الرئيس الجديد بالإصلاح والتغيير ذهب أدراج الرياح ، وبعض القوانين الإصلاحية الحيية وئدت في المهد .

لماذا جاء الفرج من لبنان ؟

هناك عاملان في الأقل أسهما بالفرج ، أحدهما : النهج الأمني القمعي الذي مارسته القوات الأمنية والسورية في لبنان طوال ثلاثين عاماً ، ثانيهما: تدخل القوى الدولية أو ما يعبر عنه بالمجتمع الدولي لإخراج القوات والمخابرات السورية .

لقد ظل الشعب اللبناني الشقيق يشكو ويحتج مما يعاني منه طوال ثلاثين سنة الماضية ، وما من سميع ولا مجيب ، حتى التقت السياستان الفرنسية والأمريكية مؤخراً وصدر القرار 1559عن مجلس الأمن الذي ينص فيما ينص على خروج القوات الأجنبية من لبنان ، والمقصود القوات السورية ، ومع ذلك كانت السياسات السورية تصرّ على الزعم بأن هذا القرار لا يعنيها ولا يخصها ، كأنها هي التي صاغت القرار أو عملت على إصداره ، حتى بلغ التزييف ببعضهم إلى اعتباره انتصاراً في ذلك الحين ، وأي انتصار! وكان أحد أسباب صدوره هو التمديد للرئيس لحود وتعديل الدستور اللبناني لتسهيل التمديد ، هذا على السطح ، أما تحت الأرض فإن الضابط رستم غزالة ( الحاكم السوري المقيم في عنجر ) كان يختلي بالنواب اللبنانيين ، ويوجه لهم الأوامر بالترغيب والتهديد المصحوبين بماض قمعي مشرق ، وبحاضر تعبر عنه فوهة المسدس الذي يعبث به على منضدته تجاه المواطن اللبناني أمامه . حتى رئيس وزراء لبنان السابق الحريري لم يسلم من هذه الابتزازات والتهديدات ، التي رواها لبعض زملائه . ثم كان اغتيال الحريري تتويجاً لهذه السياسات .

اختلف الناس حول من اغتال الحريري ، ومن ذهبوا إلى تبرئة النظام السوري احتكموا إلى العقل والمنطق ، إذ ليس من مصلحة النظام السوري الإقدام على عملية تنهي وجوده ونفوذه في لبنان ، لكن السؤال: هل هذه الواقعة الوحيدة التي تخالف العقل والمنطق السليم ، وهل حكم لنبان وسورية بالقمع أو بالحديد والنار والسلب والنهب المنظمين طوال ثلاثين أو أربعين عاماً من أعمال العقل والمنطق السليم ؟

إن اغتيال الحريري يوم 14/2/2004م فجر في نفوس اللبنانيين الغضب المكبوت ، وأعاد إلى الذاكرة مسلسل اغتيالات زعمائهم في العقود الثلاثة الأخيرة ، مثل اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط عام 1977م والرئيس بشير الجميل والصحفي سليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث عام 1982 ، والرئيس رشيد كرامي 1987، ومفتي الجمهورية حسن خالد 1989 ، والرئيس رينيه معوض ، وزعيم حزب الأحرار مع زوجته داني شمعون في العام نفسه . وهذا غير اغتيال السفير الفرنسي لوي دي لامار ، والسكرتير الأول في السفارة الأردنية في بيروت نائب المعايطة . وغير عمليات الاختطاف ، والاعتقال والابتزاز بأنواعه . وللعلم إن مشكلة المواطنين اللبنانيين المعتقلين في سورية لم تنته بعد وهم بالمئات .

ربما لم يكن مستغرباً تصميم الإدارة الأمريكية على معاقبة النظام السوري قبل اغتيال الحريري وبعده ، فما الذي جعل فرنسة شيراك تصطف مع الإدارة الأمريكية ، وهي التي كانت تدافع عن النظام السوري ، وتسدي له النصح ، وحتى استقبل شيراك الشاب بشاراً ، خلافاً للعرف الدبلواسي قبل أن يصبح رئيساً لسورية .

إذا راجعت تاريخ العلاقات السورية الفرنسيبة تكتشف أن السوريين هم الذين أساؤوا لأنفسهم فأغضبوا الفرنسيين ، وألجؤوهم إلى اتخاذ سياسات معادية ، سواء بتحويل السوريين الصفقات الاقتصادية من فرنسة إلى الإدارة الأمريكية ، أو الاستمرار في اضطهاد الشعب اللبناني بإدامة التدخل في شؤون لبنان الداخلية ، وطبع هذا التدخل بالطوابع الأمنية القمعية ، التي لم تنفذ اتفاق الطائف ، وهو اتفاق صيغ بموقف عربي وتأييد دولي .

مرة أخرى تتساءل : لماذا اقترفت هذه الأخطاء القاتلة مع الرئيس شيراك وفرنسة بالذات ؟

الجواب هو منطق القوة العارية المجردة من الأخلاق ، التي ترى في الإدارة الأمريكية شريكاً أقوى وأغنى من فرنسة ، وملاذاً يمكن أن يحمي أتباعه من الشعب والمعارضة والاستحقاقات الدولية ، لكن أصحاب هذا المنطق ( القمع دائما، والرئيس إلى الأبد ) لم يلحظوا ، ولا يريدون أن يلحظوا ، أن هذا المنطق قد طلقته الإدارة الأمريكية (المحافظون الجدد) ، فباتت ترى أن الحكومات الاستبدادية في الشرق العربي هي السبب الأول في ظهور التطرف ، وما يسمى الإرهاب الدولي . وهكذا يجني المنطق الأعوج على أصحابه ، كما يجني الدب على صاحبه.

إن سياسات القمع التي مارسها النظام السوري وما يزال يمارسها على شعبه وعلى جيرانه بدأت تؤتي أكلها،بمعنى أنها انتهت به إلى العزلة داخلياً وخارجياً ، فليس بالقمع وحده تحيا الدول ، بل العدل أساس الملك. و(البلطجة) الدولية كانت مقبولة أيام صراع القطبين الدوليين : أمريكا والاتحاد السوفياتي ، أما أيام القطب الواحد ، فاللعبة محفوفة بالمخاطر .

أخيرا نفض النظام السوري يده من دعم الناشط الكردي عبد الله أوجلان ضد تركية ، ومن التدخل في الشأن العراقي بعد الاحتلال ، ومن التحريض على الجار الأردني بين الحين والآخر ، ومن عمليات التفجير في الدول الخليجية في الثمانينات ، وخرج أو اُخرج من لبنان ، فهل يستعيد قبوله في محيطه ؟

الجواب أن كل هذه التحولات جاءت متأخرة ، ولم تترافق مع تحولات بنيوية في جسم النظام نفسه ، ولا أدل على ذلك من استمرار النهج القمعي التعسفي داخل سورية حتى ساعتنا هذه .

إن إصرار النظام السوري على سياسات القمع والقوة العارية من الأخلاق داخل سورية وخارجها أوصلته إلى مواجهة المجتمع الدولي الذي أشهر لجنة التحقيق الدولية بوجهه ، وما أدراك ما لجنة التحقيق الدولية التي سوف تبدأ بقضية اغتيال الرئيس الحريري ، مروراً بالمعتقلين اللبنانيين في سورية والأموال المنهوبة من لبنان ، وانتهاء بمجازر تدمر وحماة وحلب ، وصولاً إلى رفع اليد عن انتهاكات حقوق الإنسان ، وما أكثرها !! فهل ينفع التنصل ما أفسده القمع ؟

إن جريمة الاعتداء على أسرة المعارض السوري الدكتور عارف دليلة الأخيرة .. نأمل أن تكون الأخيرة . كما نأمل أن يجازى مقترفوها ومن وراءهم بالقصاص العادل .

* كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام