سورية المستهدفة
سورية المستهدفة
نبيل شبيب
سورية مستهدفة في المرحلة التاريخية الراهنة، ورأسُ الحربة في استهدافها هي ذاتها الجهة الصهيو-أمريكية التي تستهدف المنطقة الحضارية الإسلامية بأسرها، لترسيخ دعائم الهيمنة العدوانية فيها. وتشارك في استهداف سورية دول أوروبية بدرجات متفاوتة ولأغراض متعدّدة، رغم وصول التنافس بين حلفاء الحرب الباردة بالأمس إلى مستوى مقدّمات صراع على مراكز القوّة في نظام دولي مستقبلي جديد.
واستهداف سورية يعني العمل على تطويعها تطويعا كاملا، بعد أن انفرد بها الميدان الإقليمي عربيا، فلا يغيّر من ذلك شيئا ما كان لسورية من أدوار في مرحلة تاريخية ماضية، ولا الانسحاب من لبنان في المرحلة الراهنة، ولا الاستعدادُ لعقد اتفاقية سلام في مرحلة قادمة مع دولة الاحتلال بفلسطين، فالمطلوب أوسع نطاقا وأبعد مدى، وهو أن تتحوّل سورية تحوّلا كاملا، من حجر عثرة أو عائق إقليمي، إلى ركيزة من الركائز المحلية للعمل على تنفيذ المشاريع "الشرق أوسطية" تنفيذا كاملا في خدمة الهيمنة الصهيو-أمريكية الشاملة.
أمّا طرح شعارات برّاقة كنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وما شابه ذلك، فهي مجرّد محاولة تجميل الوجه الكالح لمساعي التطويع، وأمرها مكشوف لا يحتاج إلى "نقاش"، بل يتطلّب النظر المباشر في الصورة الدموية الإجرامية المأساوية التي أعطتها وما زالت تعطيها وقائعُ الاحتلال الهمجي في العراق وأفغانستان وفلسطين.
إنّ إرساء الديمقراطية بمفهوم سليم وتطبيق قويم، وترسيخ حقوق الإنسان وحرياته، في أيّ بلد من بلادنا العربية والإسلامية، أمر مستحيل التحقيق جنبا إلى جنب مع هدف التطويع للهيمنة الصهيو-أمريكية، وهو الذي يفرّغ الديمقراطية من سائر مضامينها، ويجرّد حقوق الإنسان وحرياته من قيمتها، ويبقي على قهر الإرادة الذاتية في الحاضر والمستقبل، إرادة المواطن الفرد وإرادة الدولة على حدّ سواء.
استهداف سورية هو استهداف سورية الأرض والشعب، وسورية التاريخ والحاضر، وسورية الدولة والمواطن، وسورية السياسة والثقافة، أمّا موقع نظام الحكم وموقع معارضيه من هذا الاستهداف، فلا يحدّده بمنطق الساعين لتطويع سورية، سوى ما يصلون إليه هم على طريق التطويع وكيفية تحقيقه.
نظام الحكم الذي يخضع للتطويع هو المطلوب، سواء كان استبداديا أو ديمقراطيا، علمانيا أو إسلاميا، حزبيا أو تعدّديا، متخلّفا أو متقدّما.
والمعارضة التي يمكن أن تسير على طريق التطويع -مثل عصبة الغادري- هي المطلوبة، دون السؤال عن لونها واتجاهها وحقيقة قوّتها أو ضعفها، ولا عن مواقفها من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته أو أيّ قيمة معتبرة من القيم، أو نهج ونظام للحكم.
ما يجري في الوقت الحاضر هو العمل على وضع سورية بين خيارين، إمّا الخضوع للتطويع الشامل أو التعرّض لمزيد من الضغوط العدوانية بهدف تحقيق تطويع قسري. وهذا –على الأقلّ- ما يفرض على سورية المستهدَفة أن تتحرّك نظاما ومعارضة لإسقاط هذه المعادلة الخطيرة، بأن يستوعب النظام ويستوعب معارضوه ضرورة التصرّف للحيلولة دون الانقياد لمفعول المعادلة المطروحة من خارج وجود سورية الحضاري والإقليمي والسياسي، والخطيرة على سائر الفئات والأحزاب والطوائف والجماعات والتيارات فيها، والبديل الوحيد هو العمل المشترك لتحقيق إصلاح داخلي شامل، يصنع جبهة متماسكة، هي المصدر الباقي لاستعادة القدرة على مواجهة استهداف سورية.
وإنّ تصعيد الحملة الجارية مضمونا وأسلوبا مع تصعيد سرعة التواتر الزمني للضغوط العدوانية عبرها، لا يترك فسحة ما للتردّد عن الإصلاح الشامل، والاكتفاء بخطوات إصلاح "مرحلية"، أو الاستعاضة بإجراءات تجميلية "جزئية" عن مبادرة جريئة وواضحة المعالم، لجمع الصفوف، سائر الصفوف، دون استثناء، إلاّ من ربط نفسه بعجلة التطويع الصهيو-أمريكية.
إنّ ما يجري –أو ما يدور من أحاديث- داخل سورية في الوقت الحاضر، يؤكّد استشعار حجم الأخطار الخارجية، واستشعار ضرورة المضيّ قدما على طريق الإصلاح الداخلي، ويجب أن يتحوّل هذا الاستشعار إلى نقلة نوعية، تحمل البلد وأهله، من خطوات متفرّقة محدودة حتى الآن، إلى خطوة حاسمة وشاملة، عناوينُها معروفة، تعديلا للشاذّ من الموادّ الدستورية والتشريعات القانونية، وإلغاءً لحالة الطوارئ وسائر ما يرتبط بها ممّا يبقي على سيف القمع الأمني مشرّعا وإن أعيدت بعض الحقوق والحريات لأصحابها، وكذلك الإفراج عن البقية الباقية من معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين، وإسقاط ما بقي من عراقيل في وجه عودة سائر من يريد العودة من السوريين في الاغتراب أو في المنفى، سواء كانت تلك العراقيل في صيغة "إضبارات أمنية" وُضعت في عهدٍ مضى، أو في شكل "شروط تعسفية ومراجعات مهينة" المفروض أن يدرك الجميع استحالة تحقيق فائدة ما منها.
أمّا الذين يستكبرون داخل سورية هذه الخطوات، ويطلقون عليها وصف "انقلاب أبيض" مستحيل التحقيق، فيسوّغون الإبقاء على أوضاع متصلّبة، أو الذين يتحدّثون من عالم آخر فينكرون طبيعة الهجمة الصهيو-أمريكية على المقوّمات الحضارية في بلادنا، ويغفلون عن محاولات توظيف التلويح بورقة الحوار مع الإسلام والإسلاميين لتكون من أوراق الضغوط على الأنظمة فحسب، وكذلك الذين يريدون استثناء هذه الفئة أو تلك -لا سيّما الإسلاميين- من أيّ إصلاح مرحلي أو جزئي أو شامل.. هؤلاء لا يستوعبون أو لا يريدون أن يستوعبوا على ما يبدو طبيعة المرحلة داخليا، ولا حقيقة الأخطار الخارجية، ويكادون يستسهلون التسليم تجاه "الآخر" الخارجي رغم عدوانيته، ولا يستسهلون الانفلات من عقلية الصراع ضدّ "الآخر" الداخلي وهو الشريك في الماضي والحاضر والمصير، كما أنّهم لا يقدّرون أنّ الفرصة الزمنية الراهنة لمواجهة الأخطار لم تعد متوفّرة لمزيد من المراوغات حول الإصلاح الشامل المطلوب.
لا يمكن أن يتحقّق الإصلاح ولا أن يستقرّ وضع من الأوضاع إذا ما استمرّ الحديث عن حقوق "الآخر" وحريّاته وكأنها سلعة من السلع، يملكها فرد أو فريق فيجعل من نفسه وصيّا على سواه من البشر، يعطي أو يمنع، ويمكن أن يستردّ فيحرم من جديد، ويوزّع الاتهامات كما يشاء، فيستثني من الحقوق والحريات مَن يريد.
ولا يمكن أن تستقرّ خطوات إصلاح ما، إذا بقيت لأي فئة من فئات الوطن الواحد مثل هذه الصلاحية، بنصوص دستورية أو قانونية شاذة، أو عن طريق التسلّط والقوّة المجرّدة، فلا بدّ من سيادة الدستور والقانون والقضاء، على ألاّ يكون شيء من ذلك مفصّلا لصالح فرد دون فرد، أو فئة دون فئة، أو حزب دون حزب، أو تيّار دون تيّار.
والإصلاح الجذري الشامل هو وحده الذي يعيد الاطمئنان إلى الجميع ألاّ يتكرّر في المستقبل ما وقع في الماضي، وآنذاك فقط يمكن أن تسري قاعدة "عفا الله عمّا سلف"، بدلا من توظيف مطالب المحاسبة والمحاسبة المضادّة مادّةً للمزايدات، أو استخدامها عقبة في وجه التحرّك الجماعي المطلوب، والمطلوب معه أن يكون آمنا متوازنا، وهذا أحد الأسباب التي تستدعي ضرورة أن تنطلق البداية الحقيقية لا الجزئية من جانب مَنْ يملك قوّة السلطة الآن.
إنّ التحرّك الجماعي المطلوب يحقّق هدف الإصلاح ويوصل إلى جبهة داخلية متماسكة، إذا كان واضح المعالم، متكامل الأبعاد، سريع الخطى، هادفا لبناء الوطن المشترك للجميع، لبناء سورية، دولة ومجتمعا، نظاما وشعبا، فكرا وثقافة، سياسة واقتصادا، على أسس قويمة، عنوانها المصلحة العليا المشتركة، لا مصلحة حزب أو فئة أو تيّار أو اتجاه، كائنا من كان، لا سيّما وأنّ استهداف سورية هو استهداف الجميع دون تمييز، وأنّ مواجهة الاستهداف بفعالية كافية مستحيلة دون أن تجمع طريق واحدة الجميع في وقت واحد وعلى قدم المساواة، وإنّما يستحقّ النبذ والإقصاء، مَن يختار لنفسه النبذ والإقصاء عبر رفضه "الآخر"، بل يضع نفسه بذلك في خانة توفير أسباب الخضوع والتبعية لمشاريع الهيمنة الصهيو-أمريكية، بقدر ما يجعل من نفسه عقبة على طريق الإصلاح الجذري الشامل وقد بات مفروضا على الجميع، بمختلف المقاييس الدينية والقومية والوطنية.