بمناسبة مصافحة الثامن من نيسان المزدوج

بمناسبة مصافحة الثامن من نيسان المزدوج

حكم البابا

الانتقال بالأراضي المحتلة من المعنى الوطني إلى المعنى العقاري سواء كان خبر حدوث المصافحة المزدوجة بين الرئيس السوري بشار الأسد والاسرائيلي موشيه كتساف "نكتة بايخة"_ حسب تعليق المحلل السياسي السوري عماد فوزي الشعيبي لقناة الجزيرة الفضائية 8/4/2005 _ أو لم يكن نكتة بايخة، فإن أحداً لم يكن ينتظر من السيد الشعيبي أن يقول أكثر مما قاله، وأن لا يسخر بابتسامته الشامته من أخبار الإعلام العالمي الرخيصة، لأن السيد الشعيبي وفي كل تصريحاته يخلط بين دور (المحلل السياسي)، و(المحلل) في الشرع الاسلامي الذي يتزوج إمرأة طلقها زوجها ثلاث مرات، فأصبحت محرمة عليه مالم يتزوجها رجل آخر، يسمى حسب المصطلحات الشرعية (المحلل) ويطلق عليه حسب التعبير الشعبي الدارج (المجحّش).

وسواء كانت المصافحة المزدوجة التي حدثت بين الرئيسين السوري والاسرائيلي في روما "عرضية" _ كما وصفتها وكالة الأنباء السورية سانا 8/4/2005 _ أم لم تكن عرضية، وسواء "لم يكن لها أي مغزى سياسي"_ على حد تعبير سانا _ أو كان لها مغزىً سياسياً، وسواء كانت "لا تغيّر في مواقف سورية المستندة إلى الثوابت المعروفة"_ حسب مصطلح سانا _ أو تغيّر في مواقف سورية المستندة إلى الثوابت المعروفة، فإن أحداً لم يكن ينتظر من وكالة الأنباء السورية سانا، أكثر مما قالته، لأن هذه الوكالة التي تعتبر أحد أعمدة وثوابت الإعلام السوري، كانت تؤدي عملها الإعلامي دائماً على طريقة (السيريلنكيات) التي يعملن في خدمة المنازل، بفم ساكت وقلب خاشع وأجر ثابت.

وسواء كان "رفض الرئيس بشار الأسد مصافحة اليد التي مدت إليه سيسيء لسمعة سوريا" _ حسب ماقالته أوساط رسمية سورية لمراسل صحيفة النهار بدمشق 10/4/2005 _ أم لم يكن يسيء، وسواء كان ماقالته نفس الأوساط الرسمية السورية صحيحاً في أنّ "سورية التي يقولون عنها محاصرة ومهمشة ومهزومة شغلت الاعلام العالمي على مدار الـ 24 ساعة الماضية بسبب مجرد مصافحة بالصدفة يثبت أن دمشق تملك خيارات استراتيجية كبيرة وأن هناك أوراقاً كثيرة للمستقبل" أم لم يكن صحيحاً ، فإن أحداً لم يكن يتوقع من هذه الـ(أوساط الرسمية السورية) غير ماقالته، لأنها تتعامل مع أي حدث يقوم به أو تصريح يدلي مسؤول سوري، بالطريقة التي كان يتعامل بها حواريي المسيح مع السيّد المسيح، وبالطريقة التي حصل فيها أبو بكر على لقب (الصدّيق) في علاقته بالرسول العربي محمد.

وبالرغم من كل ماقيل وسيقال حول أسباب حدوث المصافحة ودواعيها، وماإذا كانت مصادفة أو مرتّبة، وماإذا كانت مجرد حدث برتوكولي عابر، أو خطوة تمهيدية لخطوات قادمة، وماإذا كانت لاتغيّر في مواقف سورية المستندة إلى الثوابت المعروفة، أو كانت تغيّر، أو بقيت الثوابت المعروفة ثوابتاً أصلاً، أو أنها جزءاً من خيار السلام الاستراتيجي لسورية، أو أن خيار المقاومة ودعم حزب الله اللبناني ومنظمتي حماس والجهاد الفلسطينيتين لم يعد مجدياً، أو أنها إعادة انتاج للأسلوب الفيتنامي الذي يحارب بيد ويفاوض باليد الأخرى، أو أن أجواء السلام والمحبة التي فرضتها جنازة الحبر الأعظم جعلت كل من حضرها ينصاع لقول السيد المسيح (أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم)، وبالرغم من كل مباخر الموالين التي ترش دائماً على الموت سكر، وتصيّد المعارضين الذي يجعل من الحبة قبه، فإن هذه المصافحة السورية الاسرائيلية على أعلى مستوى (البروتوكولية، المصادفية، سموها ماشئتم) تخرج من ذاكرتي كسوري تاريخاً من الجروح والآلام، من أول حماسيات العداء لاسرائيل (كانت في الماضي تسمى رسمياً وإعلامياً وشعبياً الكيان الصهيوني) ورميها في البحر، التي درسناها في كتب المدرسة، وأخرجنا في المسيرات المنظمة لنشجبها ونشنق دمى على شكل الرئيس المصري الراحل أنور السادات بعد توقيعه لاتفاقية كامب ديفيد، إلى آلاف الذين سجنوا وسحلوا وذبحوا على الجبهة الداخلية _ بتهمة خدمتهم للمشروع الصهيوني _ دفاعاً عن الجبهة الخارجية ، إلى مئات ألوف الذين ماتوا في الخطوط الأمامية والخطوط الخلفية من أجل تحرير فلسطين، إلى السنوات السوداء التي عاشها الناس وهو يترجّون ويتوسطون ويداورون ويناورون من أجل الحصول على قنينة زيت وعلبة سمنة وربطة مناديل ورقية وهم راضين مرضيين كون تجوعيهم جزء من تحقيق مشروع (التوازن الاستراتيجي) المعد لمحاربة اسرائيل، إلى القصائد والمقالات والمهرجانات الخطابية والمؤتمرات التضامنية التي كانت هي جبهة الحرب الوحيدة المفتوحة على اسرائيل، إلى أعمارنا التي ضاعت وثرواتنا التي نهبت وأعراضنا التي انتهكت، إلى أبنية المخابرات التي شيّدت وشهقت في العلو، والأقبية التي حفرت وخضعنا في للتحقيق فيها لأننا نلفظ مجرد لفظ كلمة ديمقراطية بسبب وجود هذه الـ(إسرائيل)، إلى الاتهامات التي كيلت لنا بسبب مقال كتبناه مرة لأن بلدنا يمرّ بحالة حرب مع اسرائيل ، ومرة لأننا نكتب في جريدة مثل (النهار) المرتبطة باسرائيل، إلى قصائد نزار قباني ومحمود درويش وممدوح عدوان وأمل دنقل.

ماذا سأعد لأعد وقد صرفنا أعمارنا بقصد لا بمصادفة، وبإيمان لاببروتوكول، وبمغزى سياسي لاعفو الخاطر ونحن مؤمنين بحقنا، ومطالبين بأرضنا، وكيف سأنظر إلى وجهي في المرآة الآن وأنا الذي اشتبكت (وسط بهو فندق شيراتون بغداد وأمام كل مخابرات صدام حسين) في شجار علني عنيف مع رئيس وفد تضامني ذهبنا به إلى العراق قبل غزوه بأيام معدودة، فقط لأنه حيا صدام حسين بحجة أن هذا معادٍ لأمريكا واسرائيل، وخرج عن هدف زيارتنا الذي اتفقنا عليه مسبقاً في دمشق في التضامن مع شعب العراق لا مع نظامه، وقلت له أن ماقاله كان يحتاج إلى موافقة الوفد بالاجماع لا بالأكثرية، وجمعت التواقيع على بيان يبرئ الوفد مما قاله، وكاد الوفد يصبح وفدين، ورفضت لقاء مع نائب رئيس الوزراء العراقي وقتها طارق عزيز ومصافحته رغم أنه عربي الوجه واليد واللسان، وأجبرت آخرين على رفضه، فانتهت زيارتنا على عجل وعدنا عند خروجنا لنقف على منفذ الحدود العراقي ونفتش بحجة تهريب الآثار، رغم أن نفس المنفذ فتح لنا قاعة الشرف عند دخولنا (!!).

حتى أكون منصفاً من الصعب على جيلي الذي ولد وتربى على العداء لاسرائيل أن يستسيغ أي صيغة سلام معها رغم كل الظروف التي أعرفها والتي لاأعرفها، وقد تتعامل أجيال أخرى بحدة أقل مع هذه المسألة، ولكن عقلي يستطيع أن يدرّب قلبي ويلجم عواطفي في حال عادت أراضي المحتلة كسوري إليّ، لابمعناها العقاري إنما بمعناها الوطني، وساعتها سأحاول ايجاد المبررات لنفسي، على الرغم من أن دم الذين ماتوا عداءاً لاسرائيل كان لاعادة الحق من دون أن يرفرف العلم الاسرائيلي على مبنى سفارة لها في سورية، ومن دون استقبال لأي اسرائيلي ومصافحته، وإذا كنت مستعداً لتدريب نفسي على قبول سلام مع اسرائيل مبني على إعادة الأراضي المحتلّة وللأسف هذه المرّه كعقار لا كوطن، فإنني بعد مصافحة الثامن من نيسان المزدوجة التي أراها تاريخية _ على عكس ماتراها وكالة الأنباء السورية سانا _ مصادفة وعرضية وبروتوكولية وبدون مغزى سياسي، فإنني سأدرب نفسي أيضاً كسوري على أن لاأقبل بعدها من يريد مصادرة ماتبقى من عمري، ويحجر على حريتي، ويمسخ انسانيتي، ويلغي مواطنيتي، ويعتبرني أجيراً لاشريكاً في بلدي بحجة المعركة المفتوحة مع اسرائيل .

عن "الرأي / خاص"