أبو الفتوح : طبعة جديدة!

أبو الفتوح : طبعة جديدة!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

عقب رحيل الرئيس السادات رأيت عبد الرحمن أبو الفتوح لأول مرة في مقر مجلة الدعوة ، كان عائدا لتوه من حفلة التعذيب التي ذاق سياطها على يد الجلادين المتوحشين مع أبناء التيار الإسلامي الذين قبض عليهم  في سبتمبر 1981م ومعهم رموز الأمة وزعماء أطيافها المختلفة ، كان بقايا هيكل إنساني بعد العذاب الذي مارسه الجبروت المجرم ضد أبناء الوطن المعارضين لاتفاقية الإذعان في كامب ديفيد 1977م، كان رئيس وزراء العدو في الجانب المعادي يستثمر المعارضة لفرض مزيد من شروط الإذعان والإذلال على الجانب المصري ، وكان هذا الجانب يجدّ في تصفية المعارضة واستئصال التيار الإسلامي ، وتأسيس جيش الأمن المركزي لقمع الوطن وإخماده حتى يرضى الصهاينة القتلة وسادتهم في واشنطن وما هم براضين ولا قانعين . كان عبد المنعم من زعماء الطلبة في السبعينيات ، وفي لقاء بين الرئيس السادات رحمه الله ، واتحادات الطلاب ، قام طالب الطب عبد الرحمن أبو الفتوح وسأل الرئيس عن المنافقين الذي يستشيرهم ويستمع إليهم ، غضب الرئيس غضبا شديدا ، ورأى أن الطالب تجاوز حدوده مع رئيس الدولة ، ونقل التلفزيون في حينه رد الطالب المؤدب الذي استمسك بشجاعته وحاول إقناع الرئيس الذي لم يقتنع .

خرج عبد المنعم إلى الحياة العامة وتعرض للاعتقال والمحاكمة ، وكان المعتقل حضانته التي تؤويه بتهم سياسية ،أضافوا إليها مؤخرا تهما جنائية مثل غسيل الأموال والمشاركة في تنظيم دولي .. ولكن عبد المنعم لما يزل يواجه المحن بصبر المؤمن وإيمان الصابر المحتسب ، وهو يعلم أن جريمته الأولى تمسكه بالإسلام منهجا وشريعة ، ونظاما ومسيرة ، وفقها وعملا ، ويعلم أن جريمته في الفترة الأخيرة مقاومة الحصار النازي اليهودي المفروض على الشعب الفلسطيني في غزة ، وإغاثة المنكوبين في كل مكان بدءا من ضحايا الزلزال والدويقة إلى ضحايا الإجرام الصليبي في العراق وأفغانستان ..ثم وهو الأهم تقديم نفسه للمجتمع في صورة المسلم العريق  المتفتح الذي يتفاعل مع الآخرين أيا كانت رؤاهم وتصوراتهم ، وإقناعهم بعظمة الإسلام ، وإنسانيته ورحابته وسماحته .

ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يغيب فيه عبد المنعم بهيكله داخل البوابات الغليظة السوداء ، يخرج طالب طب آخر من مجاهل الدلتا ، ليعيد سيرة عبد المنعم ، ويواجه رئيس الوزراء المصري بأسئلة محرجة ، تناقش الواقع المتردي الذي تعيشه مصر ، ويواجه بشجاعة مماثلة لشجاعة الطالب عبد الرحمن – مع الفارق - رئيس الوزراء الذي يري أن الدنيا ربيع والجو بديع ، ولا مجال لحديث إلا عن الإنجازات العظيمة في وطن يفتقر إلى توفير رغيف خبز يليق بالآدميين ، ويتاح الحصول عليه دون قتال وتضييع أفضل ساعات النشاط اليومية والحيوية للمواطن المصري ؛ يقفها في الطوابير منذ الفجر حتى العاشرة صباحا أو ما بعدها ..

كان الطالب عبد الله بظاظو من مواليد دسوق بكفر الشيخ1989م ، ضمن الشباب  الذي التقى بهم رئيس الوزراء في معسكر الشباب في بورسعيد يوم الاثنين الموافق 2-8-2009م، وكالعادة في مثل هذه اللقاءات يتم مسبقا تحديد الأسئلة التي توجه إلي رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية  ، ويزاد عليها بالنسبة للقاء الأخير أن يتم التدريب على الإلقاء في تجارب عديدة تسبق طرح السؤال بالإضافة إلى صياغة الأسئلة صياغة إنشائية مطولة تعتمد الصور البديعية والبيانية ، ويقوم الطالب بحفظها جيدا وترديدها مرات عديدة حتى لا تفلت منه كلمة ، ثم يدخل إلى مجال التجريب قبل رؤية الرئيس .

ويبدو أن الأمر بالنسبة لرئيس الوزراء كان أيسر وأبسط قليلا مع أن الطلاب يتجمعون قبل موعد اللقاء بساعات يتلقون تعليمات الأساتذة المشرفين ، وأجهزة الأمن وموظفي الجامعة والمعنيين باللقاء بصفة عامة ..

بيد أن الطالب خالف السؤال الذي كان سيوجهه إلى رئيس الوزراء ، وهتف في مواجهته : "الفساد في كل مكان في مصر !" .

كانت هذه الجملة هي الشرارة التي أطلقت عقال التصفيق من مكمنه ، وتشجع الطالب الذي يحرص في أحاديثه الصحفية والتليفزيونية على الإعلان أنه لا ينتمي إلى حزب أو تنظيم أو جماعة ، وكأن الانتماء إلى الحزب الحاكم هو الحلال الوحيد المسموح به في مصر التعيسة .. وناقش رئيس الوزراء الذي لم ينفعل في أثناء اللقاء ، وبدا متقبلا للحوار ببساطة ، وإن كان فيما بعد أعلن عن غضبه وسخطه على ما قاله الطالب ..

  لقد قال بظاظو: ذكّرت نظيف بواقعة بكاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقوله: إذا تعثرت دابة في العراق فسوف يسأل الله عنها عمر، ثم سأله مباشرة : هل بكيت عندما سمعت عن غرق أكثر من ألف مصري في عبَّارة ممدوح إسماعيل.. ؟

وهل تبكي علي من يلقون مصرعهم بالجملة في حوادث قطارات السكة الحديد والطرق أو حتى الجنود علي الحدود المصرية؟

وفي أحاديثه للصحف والقنوات التليفزيونية أبدي بظاظو دهشته من عدد من ردود رئيس الوزراء علي الأسئلة خاصة حين قال: إن الاقتصاد المصري «فايق» جداً لأننا حضارة بناها المصريون القدماء من 7 آلاف سنة، وحين قال إن الغاز الطبيعي كنا بنحرقه زمان لأنه كان مخلوطاً مع البترول والآن مع التطور الصناعي أصبح عنصراً رئيسياً في الطاقة ونستفيد اقتصادياً من تصديره لأي دولة حتي وإن كانت إسرائيل وليس لنا علاقة بالسياسة فنحن نحقق من تصدير الغاز لإسرائيل دخلاً قومياً للبلاد ولا داعي للكلام الفاضي عما يسمي التطبيع مع إسرائيل ويكفي أن أي رئيس وزراء يتم انتخابه في إسرائيل لابد أن يزور مبارك ليعلم العالم كله أنه ذا ثقل سياسي لأنه زار مصر ذات الثقل السياسي بالمنطقة.

وقوله عن قضية القمح «مفيش حاجة اسمها قمح فاسد وهذا كلام الخبراء، ولكن ثلث الكمية المستوردة تحتاج إلي تنقية فقط»

بالطبع فإن دهشة الطالب في محلها ، فأجوبة رئيس الوزراء بعيدة عن التفكير السياسي الصحيح ، وتمثل حالة من عدم الوعي بظروف الوطن وطبيعة واقعه ومستقبله ومما يجري فيه ، ولكن المهم في المسألة أن الطالب يعرف شيئا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ويتألم لمصير الغرقى في  عبارة الهارب إلى لندن الذي تدافع عنه أبواق حكومية وطبول مأجورة دون أن تبكي على الضحايا البائسين في بلاد الغربة والعذاب الذين يمدون الفراعين في الحزب الحاكم بعرقهم وكدهم .

الطالب بظاظو يذكر من يستأصلون الإسلام ويطاردونه أنه ما زال حيا في ضمائر المصريين حتى لو لم يجدوه في المدرسة والتلفزيون وثقافة الحظيرة . هو في القلوب والصدور بفهم أو غير فهم ، لأنه لا يموت برغبة الجلادين والطغاة!

قد يختفي هذا الطالب في غمرة الحياة ، أو ينسى واجبه تحت الترهيب والترغيب ، ولكن طبعة أخرى جديدة من عبد الرحمن أبو الفتوح ، تدفع الثمن غاليا ، برضا وطيب نفس ، تظهر في الأفق وتذكّر الناس أن الشعب المصري المسلم لا يستكين ولا يستسلم للمؤسسة الاستعمارية الصليبية وقاعدتها الصهيونية ، ولكنه يستخدم قدرته على الصبر والامتصاص في تحمل المحن والآلام ؛ حتى يأذن الله بالفرج .