إنها مُحرِرتي وبابي وحارستي الوفيّة
إنها مُحرِرتي وبابي وحارستي الوفيّة
كمال الخمليشي
أثناء مرحلة التحضير الذهني لهذه المقالة، وفيما أنا أنبش في الذاكرة، وُوجهْتُ بواقع كان له حضور وازن في حياتي، ومنذ فجر الطفولة، أي منذ بداية الإحساس بالذات ; ألا وهو واقع «الحُلم» (بمدلولَيْه الاصطلاحيّ والمجازيّ معاً).
ومن هنا أراني مجبراً على الاعتراف، ولو ببعض التردّد، بأنّ رحلتي مع الكتابة لم تكن في الواقع سوى رحلة مع الحلم، وبالتالي فإنّ كلّ خوض فيما عشتُه بين دروب الكتابة من تجارب لن يكون في نهاية المطاف سوى خوض فيما عشتُه من تجارب بين دروب الحلم.
ولعلّ أوّل حلم يستحقّ الذكر في هذا المقام، هو ذاك الذي راودني في المنام وأنا ما زلت دون الخامسة من العمر، وترسّخ فيما بعد في الذاكرة حتّى كاد يصبح المفتاح الوحيد لتلك البوّابة الكبرى التي انفتحتْ أمام ما كان ينتظرني من طريق في عالم الإبداع.
رأيتُني خلال ذلك الحلم الأوّل، وأنا أسقط من غياهب السماء، مُستشعراً بهَلَع آثار السقطة، ومُهيِّئاً جسدي لها، تخفيفاً للصدمة التي لا مفرّ منها، وبعد حين
وجدتُني فوق الأرض، جنب السرير، أبكي وأتحسّس رأسي الذي قرع الأرض مثل مطرقة.
هذا الحلم الذي دام في الواقع حوالي ثانية ـ وهي المسافة الزمنية الكافية لكلّ ساقط من سرير لا يرتفع فوق الأرض سوى بنصف متر ـ هو في الحقيقة إنذار سحريّ للذات الساقطة وتهيئ لها كي تتعامل مع السقطة في فترة زمنية وجيزة جدًّا، إن لم أَقُل مستحيلة، لا تتجاوز رمشة عين. وهذا دليل على ما للحدس والخيال من قدرة خارقة يتحوّل بفضلها العقل إلى مسرح حقيقيّ مفتوح على كلّ السيناريوهات حتّى الطارئة منها أو المباغتة.
أروي هذا الحلم، في هذا المقام، لأنّ كلّ الأحداث التي عرفَتْها حياتي من بعده، تمّ التعامل معها على هَدْيه; وهذا ما حذا بي دائماً إلى اعتباره «الحلم ـ المرآة»; أي الحلم الذي صار يتراءى من خلاله شريط أيّامي وأعمالي; حتّى الإبداعية منها; ما دام أنّ الإبداع هو بالأساس وليد المخيّلة وابنها البار.
لا أعرف ما سيقوله علماء النفس ومفسّرو الأحلام بشأن هذا الحلم الذي عاشه آخرون غيري بدون شكّ، ولكن ما أعرفه هو أنّ قراءاتي الأولى كانت ضرباً من الحلم الذي يحلم دوماً بالوقوع من سماء القراءة إلى أرض الكتابة. ولا أفشي سرًّا في هذا الباب إذا قلتُ إنّني كنت أحرص على مكتبتي الطفوليّة مثلما يحرص الحالم بالوصول إلى كنز على أدوات التنقيب.
فبداية الطريق كانت، إذاً، هي القراءة، باعتبارها كانت مَعْبَراً ضرورياً نحو الحلم بالكتابة; وهو الحلم الذي تحقّق مع الوقت، لكن بعد جهد جهيد، ومثلما تتحقّق أحلام المحبّ; تلك الأحلام التي تُستَوْلدُ دوماً من مكابدة التمنُّع الأنثويّ.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ علاقتي بالكتابة كانت وستظلّ علاقة حبّ بامتياز، ولعلّني بسبب ذلك، ولحدّ الساعة، أتهيّب الكتابة الإبداعية كلّما قاربتُها وحاولتُ الجلوس إليها; ففي كلّ مرّة يتهيّأ لي أنّني أُدشّن علاقة جديدة مع امرأة جميلة عصيّة المنال (بورخيس يصف أيضاً قراءة النصّ الجميل مثل الجلوس إلى جانب البحر، مُتَمَثلاً، فيما أظن، عظمة هذا الأخير في سعته وغموضه اللانهائيّ). وعودة إلى الحلم الذي رويتُه قبل قليل، أودّ أن أوضّح أنّني خلال وقوعي من غيابات السماء لم أكن أتوقّع نهايتي التي كانت بطبيعة الحال حتمية في نظر كلّ صاحٍ وواعٍ بخطورة السقطة، بل، وعلى العكس من ذلك تماماً، كنت أتهيّأ للنجاة منها بأقلّ ما يمكن من الأضرار. وهذا ما يفسّر ـ في نظري ـ طاقتي الكبيرة على الأمل وعلى النجاة حتّى في أحلك الظروف وأخطرها، كما يفسّر أيضاً وبالأحرى ميولي الروائية; والحال أنّ الرواية هي المجال الأرحب لتحويل المستحيل إلى ممكن مقبول ومُقْنع.
ومن هذا المنظور دائماً، تبقى الكتابة هي مُحرِّرتي وبابي الذي أغادر منه محابس النفس، وتبقى أيضاً هي حارستي الوفيّة وضابطة مساري الزمني في الحياة; بما تقتضيه هذه الأخيرة من مراجعة لإعادة إنتاج الذات حتّى وإن اضمحلّت اضمحلالاً شبه نهائيّ، بل وتبقى الكتابة بالنسبة لي وسيلة دائمة للتفكير في ذلك «المابَعْد» الذي يعقب كلّ سقطة تُضاهي السقطة التي عشتُها في ذلك الحلم الأوّل; وهو الحلم الذي تحوّل عندي، مع الوقت، إلى مختبر حقيقيّ للكتابة، بما يسعى إليه الكاتب من خلالها إلى التحرّر والانعتاق من بؤس الواقع ومن خطورته أحياناً، ولو بالعودة مُجدَّداً إلى الحلم، ما دام التحرّر الحقيقيّ لا يتأتّى إلاّ في الحلم.. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، وجدتُني وأنا أُحضّر لهذه المقالة، أمام السؤال التالي: كيف تتحقّق لي عملية الكتابة تَصَوُّراً وفعلاً ؟ (أو بصيغة أخرى : كيف أواجه فعل الكتابة إحساساً وإنجازاً؟)
وهو السؤال الذي لن يعرف جوابه، بطبيعة الحال، إلاّ بعد الوقوف على العلاقة الفلسفيّة (أو إن شئنا الصوفيّة) التي تربط الكاتب بالكتابة، والتي لولاها لَما أثمرت هذه الأخيرة وأعطت ذلك الأُكل الذي يتوخّاه كلّ كاتب ومُبدع.
فالكتابة من حيث هي تشكيل للحياة بالكلمات تنفرد بميزة تشغيل الحواس بأكملها ـ بما فيها الحواس الروحيّة ـ سواء لدى الذات الكاتبة أو لدى الذات المكتوب لها إن صحّ التعبير. ولا يمكن أن يتأتّى للكتابة هذا الأمر كما ينبغي، إلاّ إذا كانت مُوَلِّدة لفعل جماليّ يحظى بالترحيب من لدن القارئ الذي هو المستهلك الحقيقيّ لثمار الكتابة. وهذا الفعل الجماليّ لا يمكنه أن يُوَلِّد بدَوْرِه متعة لدى المتلقّي إلاّ إذا صدر عن روح سابحة في ماء الحبّ (حبّ الحياة وحبّ الآخرين وحبّ الكتابة نفسها الخ...)، فبدون هذا الحبّ لا يمكن للكاتب أن ينتج أعمالاً محبوبة وحاملة للعناصر الضروريّة الضامنة توليد المتعة لقارئها.
لذا فإنّني، وأنا أكتب، أضع دائماً في الحسبان ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين طرفي المعادلة; أي الكاتب والقارئ، وهي، في نظري، علاقة جدليّة وصوفيّة في ذات الوقت، تتحوّل معها الكتابة إلى ميثاق مفترض يُوقّعه الكاتب بكلماته التي يتعهّد ضمنيّاً، من خلالها، بتوفير تلك المتعة التي يبحث عنها كلّ قارئ (فعملية القراءة، كما يقول بورخيس، يجب أن تكون قبل كلّ شيء ممتعة).
لكن السؤال الذي يحيّرني وأنا في بحثي الدائم عن توفير المتعة لقارئ كتاباتي هو : ما هي الأدوات التي يجب أن يتمكّن منها الكاتب لكي يوفّر المتعة لقارئه؟
ولعلّه من الضروري ـ قبل محاولة الجواب على هذا السؤال ـ مقاربة مفهوم تلك «المتعة ـ الميثاق» المتوخّاة من الكاتب لقارئه، والتأكيد على أنّه لكي تكون هناك متعة في القراءة يجب أن تكون هناك جمالية في الكتابة; جمالية مُوَلِّدة لشعور محبوب ومؤثّر في وجدان القارئ لدرجة تحمله إلى عوالم اللانهائيّ وغموضه السرمديّ.
وأخيراً، أخلص إلى القول، تأسيساً على ما تقدّم، بأنّ رحلتي مع الكتابة ـ ورغم طولها الزمنيّ ـ هي، روحيًّا، أقصر ممّا يمكن أن يُتصوَّر; إذ أشعر دائماً أنّها تحقّقت لي في ظرف وجيز جدًّا لم يستغرق منّي سوى الخروج من عالم الحلم بالكتابة لولوج عالم الكتابة بالحلم.