... إنها دولة نفاقستان
... إنها دولة نفاقستان
أ.د/
جابر قميحة
من غرائب واقعنا اللغوي أن فعل "النفاق" فعل حيواني وهو في كل المعاجم
اللغوية منسوب في الأصل إلي حيوان من أحط أنواع الحيوانات, وهو "اليربوع", والعامة
تسميه "الجربوع" (وهي في مصر تطلق علي الرجل في مجال الذم والتحقير). واليربوع -أو
الجربوع- حيوان كالفأر, وإن كان ذنبه (ذيله), وأذناه أطول. كما أن رجليه أطول من
يديه. ومن عادة اليربوع أن يحفر "نفقا", له فتحة منها يدخل ويخرج, وللنفق فتحة أخري
يعمل اليربوع علي تغطيتها لإخفائها, فإذا أحس بالخطر فرّ منها, وفي هذه الحال يقال
"نافق اليربوع".
الإسلام والنفاق
والعرب في العصر الجاهلي لم تستخدم "النفاق" بمفهومه البشري الاصطلاحي, بمعني
إظهار الرجل خلاف ما يبطن من معتقد, كما أن المسلمين لم يعرفوا النفاق في العهد
المكي -أي قبل الهجرة" لأنه لم يكن هناك داعية تدعو إليه, فالذين أسلموا أسلموا
طواعية, وليس لهم مطمع دنيوي, ولم يكن هناك ظروف تجبرهم علي إظهار الإسلام, وستر
الكفر, وأغلبهم كانوا من الفقراء والمستضعفين.
إنما بدأ النفاق حقًا في المدينة. لذلك ليس هناك آية واحدة مكية فيها كلمة
النفاق, وما يشتق منها وكل الآيات التي تحدثت عن النفاق آيات مدنية. ومعناه: أن
يظهر الرجل الإسلام, وهو يبطن غيره (من كفر, أو عقيدة غير الإسلام), وقد فصلت
الآيات والأحاديث النبوية مفهوم النفاق, وملامح المنافقين. ومن أشهر الأحاديث
النبوية, قوله صلي الله عليه وسلم "أربع من كن فيه كان منافقًا, وإن كانت خصلة منهن
فيه كان فيه خصلة من النفاق حتي يدعها: مَنٍ إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا خاصم
فجر, وإذا عاهد غدر".
الكذب: إخلاف الوعد, اللّدَد أي الاشتداد والإسراف في الخصومة, والغدر والخيانة.
ألا ما أصدقك يا رسول الله!!.. وكأنما كنت تنظر إلي حاضرنا العربي من ستر رقيق.
خطورة النفاق
ولخطورة النفاق حكم الله سبحانه وتعالي علي النفاق بأنه كفر, وأن مصير
المنافقين والكفار سواء {... ) إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(النساء: من الآية140). وإن كان المنافق
أضر وأسوأ من الكافر, لأنه ساواه في الكفر, وامتاز عليه بالخداع والتضليل, ولأن
مواجهة الكافر حق لا غبار عليه, فهي عداوة صريحة لا ينكرها, ولكن المنافق يحميه
إسلامه -وإن كان ادعاء وتظاهرا. والأحكام في الإسلام تدور علي الظاهر, وعلي الله
السرائر. وأشهر المنافقين في عهد النبوة عبد الله بن أبيّ بن سلول, وقد وجد في
النفاق سبيله الأوحد للبقاء: فهو -من ناحية- يتقي القتل, وتعرض المسلمين له بالأذي
والمواجهة, وذلك بإظهاره الإسلام. وهو -من ناحية أخري- يضمن لنفسه ولأتباعه "العمل
السري" ضد الإسلام ورسوله, وانتهاز الفرص لتوجيه ضرباته.
صور من النفاق
والمنافق في كل العصور يحرص علي تحقيق أقصي ما يستطيع من نفع ذاتي, وغني,
ورفاهية, ومتعة, ولو كان ذلك علي حساب المصلحة العامة, والقيم الإنسانية, والكرامة
الشخصية, فهو كذاب إذا حدث, وهو مخلف إذا وعد, وهو فاجر.. فاجر إذا خاصم, وهو غدار
خوّان إذا عاهد. وأشهر الوسائل المعروفة تاريخيا: مجاملة الحكام, وتوثينهم, وكأنهم
من طينة غير طينة البشر, مع التهوين من شأن أعدائه, وأنهم أمام عبقريته وقوته "لا
شيء"... والنتيجة معروفة... إنها الهزيمة المنكرة.. لا للطاغية فحسب... ولكن للأمة
التي نافقته, ولم تضرب علي يده, ولم تعرّفه حقيقته... وقد صدق مطران إذ قال:
من يلمٍ نيرونَ? إني لائم
أمةً لو قهرته ارتد قهرًا
كلّ قوم خالقو نيرونهم
قيصر قيل له أو قيل كسري
وعندما دخل نابليون بحملته مصر سنة 1798م, خرج مراد باشا -الحاكم العسكري
لمصر- وعسكر بجنوده المماليك في إمبابة لقتال نابليون وحملته.. كان يعتقد أنها
"نزهة عسكرية", وأن الفرنسيين لن يصمدوا أمامه إلا ساعة, أو بعض ساعة, وهنا جاء دور
المنافقين الذين تقربوا إليه, وضخّموا في نفسه هذه الفكرة الغالطة, حتي قال له
بعضهم: "أيها الأمير.. إن هؤلاء الكفار لا يستحقون شرف الموت بسيفك, هلا أرسلت بعض
عبيدك ليأتوك برأس "بونابرطة" دون أن تلوث سيفك بدمه"... والباقي معروف: بدأت
المعركة... وهزم المماليك هزيمة مخزية بشعة نكراء, وفر مراد إلي الشام, تاركًا
وراءه مصر تحترق بنيران الفرنسيين, ونابليون "بونابرطة".
النفاق الجماعي
وفي عهد -أو عهود- الميمونة, التي لم تعرف مصر فيها إلا الحكم العسكري, نشأ
"النفاق الجماعي" في كل المجالات, وأصبحت "المجالس النيابية" لا تعبر عن نبض الشعب,
ولكن هم رجالها إرضاء الحاكم, ومنافقته, وتضخيمه إلي حد التوثين, حتي قال هاشم
الرفاعي -رحمه الله- عن مجلس الأمة مخاطبًا عبد الناصر:
ها همٍ كما تهوي فحركهم دُمًي
لا يفتحون بغير ما ترضي فما
إنا لنعلم أنهم قد جُمًّعوا...
ليصفقوا إن شئت أن تتكلما
بالأمس كان الظلم فوضي مهملاً
واليوم صار علي يديك منظما
وكان من مقتضيات النفاق: التهوين من شأن إسرائيل, ومن وراءها, ولا ننسي
العبارات "الضخمة" المكتوبة علي آلاف اللافتات القماشية: "حنحارب.. حنحارب" - "في
العقبة كسر الرقبة" - "عبد الناصر يا حبيب بكره عيدنا في تل أبيب"..... إلخ...
والباقي معروف... وما زلنا حتي الآن نسدد من أقواتنا وأقوات أبنائنا "ثمن"
الهزيمتين الساحقتين اللتين نزلتا بنا في عهد "خالد الذكر" كما يصفه أخي وصديقي
الأستاذ حسنين كروم.
وفي عهد السادات كتب مصطفي أمين في فكرة (15/8/1978) أنه كان يتمني ألا يهرول
النواب أعضاء مجلس الشعب للانضمام إلي الحزب الوطني الذي أعلن السادات ميلاده فجأة
حتي يقرءوا برنامج الحزب الجديد. بعدها مُنع مصطفي أمين من الكتابة وهاجمه السادات
ووزير الإعلام عبد المنعم الصاوي بشدة. وهنا يظهر المخرج حسام الدين مصطفي ليكتب في
الأخبار بتاريخ 17/8/1978, مهاجمًا مصطفي أمين زاعمًا أنه لا حاجة لبرنامج مكتوب
"لأن السادات نفسه بعظمته وبطولته هو برنامج الحزب الجديد"(??!!).
ثم عدلت المادة 76
أعلن الرئيس حسني مبارك من قبل, ومعه -طبعًا- قيادات الحزب الوطني أن "الاستفتاء"
هو "الباقي"... واتّهًمَ المطالبون بالتعديل.. اتهًمُوا بالعبثية والغباء
والعمالة.. و.... و.... وتوالت المقالات في الصحف المسماة بالقومية... وفي نفس
الدرب سارت... وهاجمت وجرَّحتٍ وفجأة أعلن الرئيس مبارك تعديل المادة والسماح
بالترشيح لرياسة الجمهورية ويكون الانتخاب بالاقتراع السري... وطبعًا تغيرت نبرة
"السادة السابقين" بدرجة 180. وسمعنا وقرأنا في وصف هذا التعديل عشرات من الأوصاف
لا يهضمها العقل, منها: أن هذا هو العبور الثاني -وأنه كضربة الطيران الأولي التي
شلت حركة العدو في السادس من أكتوبر 1973- وأنه بداية عهد ديمقراطي جديد لم تعرف له
مصر مثيلاً... وأنه.. وأنه.. وأنقل للقراء بعض سطور من مقال كتبه المستشار الدكتور
محمد مجدي مرجان يوم الأربعاء 3/3/2005 في الأهرام تحت عنوان "مبارك يا مصر": "...
منذ إعلان الخطوة التاريخية (تعديل المادة 76), والمزايدون في ذهول, فقد أفقدهم
الرئيس مبارك الوعي, فسحب البساط, وأفلست تجارتهم, وانصرف الناس عنهم, بعد أن
ألقمهم مبارك حجرًا, وقفز إلي أبعد مما كان يتصوره أو يحلم به أحد... بارت
المزايدات بينما انتعشت البورصة, والاستثمار والاقتصاد القومي بالمليارات
المتصاعدة.... إن ما فعله مبارك ابن مصر البار لأمه الحبيبة ولأبنائها خلال العقدين
الماضيين لم يحدث منذ مئات السنين, وعشرات الأجيال, ولو تدفقت الدماء في الشوارع
أنهارًا......".
كل ذلك يا سيد مرجان من أجل تعديل مادة في الدستور, وهو تعديل غارق في القيود
والشروط المستحيلة!!!???
فرض خيالي
وليسمح لي السيد مرجان أن أفترض فرضًا خياليًا, وهو أن الرئيس مبارك, فاجأنا
بالرجوع عن هذا التعديل, بمقولة إن "المعارضين لم يحسنوا الانتفاع بهذه الخطوة
لمصلحة الوطن... وعادوا إلي عبثيتهم, وبعضهم تلقي عشرات الملايين من الدولارات من
الخارج... و... و....".
أنا أقول إنه فرض خيالي, وأؤكد للجوقة المعروفة من "حملة المباخر" أنهم سيباركون
-بإسراف شديد هذه "الخطوة المباركة"... ولا أملك إلا أن أقول "لك الله يا مصر... لك
الله... لك الله".