من قتل الحريري؟ هل يجدي الصمت بعد؟

من قتل الحريري؟ هل يجدي الصمت بعد؟

أنس العبدة

[email protected]

من قتل رفيق الحريري؟ باكر جدا الجزم بهوية قاتليه، لكن معظم الادلة والقرائن تشير الى احتمال تورط اجهزة امنية لبنانية وسورية او جهات تابعة لها مباشرة او غير مباشرة. ليس في هذا القول من تجن او مبالغة، فالاثر يدل على الطريق. لقد رفضت عائلة الحريري والكتلة المتحالفة معه من نواب الشعب اللبناني مشاركة السلطة لها رسميا في تشييع جنازة الفقيد او في مأتمه. كما ان القول بان العملية كانت في منتهى البشاعة لا يكفي على الاطلاق لوصف ما حدث، فكل التعابير والمفردات تعجز عن وصف ما حدث. لقد كان الاحتراف واضحا ومرعبا في آن واحد، ولا ريب ان الايام المقبلة ستكشف المزيد من المعلومات التي ستعزز اقتناعنا جميعا بأن من يقف خلف هذه العملية تتوافر له امكانات دول لا جماعات.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو دافع هؤلاء القتلة الى استهداف ابرز رمز سياسي سني في لبنان، لا يحظى باحترام الطائفة التي وفد منها فحسب بل جميع شرائح المجتمع اللبناني وطوائفه، ويمتلك شبكة علاقات عربية ودولية مكنته من حيازة لقب رجل الدولة الذي قل وجوده في ظروف كظروف لبنان القاسية والمعقدة؟ لا بد من ان تكون الاجابة انه بات يشكل تهديدا واضحا لعدد من مراكز القوى الفاعلة في لبنان. فقد اتهمته مراكز في الدولة اللبنانية عبر كثر من ابواقها بانه مايسترو المعارضة الحقيقي، وانه من سعى الى استصدار القرار 1559 واقنع صديقه الرئيس جاك شيراك بمتابعة تنفيذ هذا القرار وفي شكل كامل. مع العلم بأنه كان اكثر اطياف المعارضة اعتدالا وحرصا على استمرار الحوار الوطني الداخلي. لكن الابرز في هذا المجال هو اقتناع المؤسسة الرسمية اللبنانية الموالية لسوريا بأن الحريري كان على وشك ان يقطع صمته وينظم الى المعارضة الوطنية في شكل رسمي، وبفعله هذا سيكون قادرا على اكتساح الانتخابات النيابية المقبلة كقائد فعلي لتلك المعارضة.  مما سيمكنه من العودة الى موقع رئاسة الوزراء في شكل اكثر قوة وصلابة في اطار برلمان لبناني تسيطر عليه المعارضة. هذا السيناريو بدا راعباً للناقمين عليه والمعارضين لسياسته، لذا ليس غريبا ان تبحث السلطة  اللبنانية بطاقمها الحاكم عن وسيلة ما لتأجيل الانتخابات البرلمانية وربما تمدد ولاية مجلس النواب الحالي،  كما مددت للمؤسسة الرئاسية من قبل،  وفي امكان هذا الطاقم ايجاد اكثر من مبرر لذلك. ومجلس النواب الحالي جاهز للمصادقة على قرار كهذا.

مع تعاظم الضغط السياسي الدولي والاقليمي اصبحت القوى المنتفعة سياسيا وماليا وامنيا على اقتناع كامل بأن القيادة السياسية في لبنان وسوريا لا تمتلك الكثير من اوراق المساومة وان مساحة المناورة باتت محدودة، مما يعزز احتمال لجوء تلك الاجهزة الامنية، وهي صاحبة القرار الحقيقي في كلا البلدين، لان تصعد مباشرة لافشال اي محاولة قد تقدم عليها القيادات السياسية الحاكمة لتقديم تنازلات مؤلمة في ما يتعلق بالقرار 1559، وان تضع الجميع في لبنان امام خيارين لا ثالث لهما: اما الامن واما القرار 1559. وقد اشار الى ذلك وزير الخارجية السوري فاروق الشرع قبل ايام عندما قال بأن القرار الدولي سيزعزع الامن في المنطقة ككل. كما ان التهديدات التي اصدرها رئيس الوزراء اللبناني عمر كرامي في كلمته المشهورة (حنفرجيهم) والاتهامات المتتالية من بعض الوزراء الحاليين للمعارضة بالتخوين والعمالة، مهدت الطريق لاحتقان شديد افرز الكثير من المظاهر السلبية التي توجت بهذه العملية الاجرامية. والاحتمال الاخطر من هذا كله ان تكون القيادة السياسية في كلا البلدين فقدت السيطرة على اجهزتها الامنية، واصبح دور الوزراء والنواب لا يعدو كونه رشا لمساحيق التجميل من اجل تحسين الصورة التي تزداد قبحا يوما بعد يوم، كأن الاجهزة الامنية تريدها على قاعدة: عليّ وعلى اعدائي.

من قتلوا الحريري ارادوا ان يرسلوا ثلاث رسائل:

الرسالة الاولى عبارة عن تحذير شديد اللهجة وارهاب منقطع النظير الى اطياف المعارضة اللبنانية، وذلك بعدما تبين ان محاول اغتيال النائب مروان حماده لم تؤت أُكلها ولم تؤد الهدف المطلوب منها، بل ازدادت المعارضة قوة واتحادا بعد تلك العملية الفاشلة، فاختار الحشاشون الجدد ان يرفعوا سقف الارهاب حتى يصل الى ما كان يعتبر خطوطا حمراء تحمي الرموز الوطنية البارزة. ومفاد هذه الرسالة ان من قتل الحريري قادر على الوصول الى من هم مثله او دونه في سلم المعارضة بلا استثناء او اعتبار.

اما الرسالة الثانية فهي موجهة الى الشعب اللبناني بكل فئاته ومفادها ان ثمن التغيير واستعادة الحرية والسيادة وتطبيق حد معقول من الديموقراطية ومحاربة الفساد هو الخراب الامني، وان رموز الوضع السياسي الحالي للمؤسسات الرسمية اللبنانية بكل تشعباتها لن يسملوا بسهولة لارادة انتخابية شعبية مقبلة.

الرسالة الثالثة وصلت فورا الى العواصم الدولية وخصوصا تلك التي رعت القرار 1559 واصرت على تطبيقه. فهذا القرار بعيون من كان وراء عملية الاغتيال هو مدعاة لزعزعة الامن والاستقرار، ليس في لبنان فحسب بل في كامل الشرق الاوسط. ولعل الاخطر في هذا المجال ان لبنان يستدعى من جديد ورغما عنه ليكون ساحة تصفية الحسابات بين لاعبين دوليين واقليميين، تماما كما حدث ايام الحرب الاهلية التي اججها اطراف كثر من خارج لبنان.

اما ما قيل عن ضلوع جماعة جهادية مجهولة الهوية وراء الاغتيال، فليس اقل من مسرحية يائسة وبائسة لا تستحق حتى مجرد المناقشة. لكن اللافت محاولة استخدام ورقة الاصولية والارهاب لذر الرماد في العيون، بعدما اصبحت الاسطوانة الاسرائيلية مشروخة وربما لم يعد يسمح باستخدامها رسميا. وقد حاول العديد من المسؤولين السوريين واللبنانيين، ومنهم السفير السوري في لندن في مقابلة مع الـ BBC، الافادة من هذه المسرحية المكشوفة لاقناع العالم بأنهم مستهدفون مثل غيرهم من الجماعات المتطرفة. لكن هذه المسرحية لم تنطل على احد، رفضها اللبنانيون على لسان الشيخ مفتي جبل لبنان الشيخ الجوزو وكذلك رفضها كل المعلقين على امتداد العالم العربي. العملية هي من التعقيد بمكان يجعل من اي حركة جهادية بمنأى عنها،  ناهيك بأن الحريري لم يكن على عداوة مع الحالة الاسلامية في لبنان.

لقد خسر لبنان كثيرا بفقد زعيم وطني رجل دولة مثل الحريري تمكن من تجاوز الحدود الطائفية، فكان اعز اصدقائه يتوزعون على مختلف فئات الشعب اللبناني. ولا ريب في ان السنة في لبنان يشعرون بخسارة مضاعفة كما قال مفتي لبنان بأن اغتيال الحريري هو استهداف للمسلمين السنة ولدورهم وكرامتهم. مرة اخرى يشعر السنة بأنهم الحلقة الاضعف وان رموزهم الدينية والسياسية يتخطفها الموت والاغتيال كما حدث للشيخين المفتي حسن خالد وصبحي الصالح والزعيم السياسي رشيد كرامي. هكذا كانت دوما سياسة اصحاب العلاقات المميزة وهي ألا يبقوا للبنان رجالا كبارا بل مجموعة من الدمى السياسية يسهل التعامل معها.

رغم هذه الخسارة وهذا المصاب الجلل، فان الجميع في لبنان، وعلى اختلاف توجهاتهم السياسية، مطالبون بالتفكير العميق والسليم في سبل الرد على هذا الارهاب. ولعل افضل رد على اغتيال الحريري هو تكريس الوحدة الوطنية والاستمرار في مسيرة السلم الاهلي والمطالبة بلبنان حر ومستقل.

من حقنا كعرب وكمجموعة تنتمي الى الدائرة الانسانية ان نعلن وبكل وضوح اننا لم نعد نعاني عمى الالوان السياسي والامني، ومع كل جريمة ترتكبها اجهزة امن الانظمة الشمولية العربية تصبح الصورة اوضح. فلم يعد من السهولة استغلال، واستغباء، عشرات الملايين ممن ابتلوا بهذه الانظمة الوبائية. فهل تتمكن شعوبنا من استئصال الوباء ليبقى الجسد معافى؟