لبنان بين الشاكوش والمنكوش

لبنان بين الشاكوش والمنكوش

حسن الحسن

[email protected]

مصيبة كبرى ذهاب العقل حقا، وصنوها فقدان التفكير السوي وغياب الوعي. قيل لصبي نبيه قديما، ألا تبيعنا عقلك بألف دينار من الذهب؛ أجابهم: وما عساي أفعل بحمقي بعد أن يُذهِبَ مالي؟ ( و قصد الصبيّ  أن حمقه سيبدّد ماله الذي قبضه مقابل عقله، فلا يبقى عنده بعد ذلك إلاّ الحمق).

 

يردد الناس ما يتلقفونه من أخبار ويتفاعلون تلقائيا مع الأحداث، مما يجعلهم عرضة لاستهلاك السياسيين والوصوليين والمتنفذين بالواقع الميداني، خاصة مع غياب قيادات نزيهة ترعى الناس وتحفظ حقوقهم، ومع فساد الوسط السياسي القائم بشكل لم يسبق له مثيل، مما يؤدي بأكثر الناس إلى اليأس والإحباط إثر استنفاذ طاقاتهم في محاولات عبثية للإصلاح أو التغيير. وبذا تغدو الحاجة ماسة للتدبر والتفكير العميق في الأحداث الدائرة قبل اتخاذ أي قرار أو تصرف قد يودي بصاحبه إلى الهلاك المحقق بسبب الارتجال أو ردات الأفعال العاطفية ...

شهدت الأيام القليلة الماضية التحاق رفيق الحريري الذي ملأ لبنان وشغل الناس به، بموكب الاغتيالات السياسية، التي قطفت رؤوس عدد من زعماء السياسة والدين في لبنان. والتي ما زال أكثرها غير واضح الأسباب لدى عامة الناس، فضلا عن جهل من يقف وراءها.

وقد غدا إمساك الفاعل المباشر في لبنان، كحال ما آل إليه عراق "اليوم"، أمرا هامشيا للغاية، في ظل كثافة التقاطعات المخابراتية، والخصومات السياسية، والارتباطات الخارجية، والولاءات الحزبية والعقائدية والعائلية والطائفية، والتحالفات المشبوهة التي تتأرجح وباستمرار من النقيض إلى النقيض،

رفيق الحريري

 أضف إلى ذلك حنكة اللاعبين الكبار في المسرح الدولي، وخبراتهم الواسعة في حبك جرائمهم، ومهاراتهم في تنفيذ مخططاتهم.

 

 فضلا عن أن لبنان وخلافا للعراق لا يُصرَفُ فيه "أن وراء كل شاردة زرقاوي"، لأن كافة الأطياف السياسية فيه على وعي بأبعاد الصراع وخلفياته، ولذلك لا يأبهون بالواجهة أو الضحية المقدمة فيه إلا إذا كانت تُوائم مصالحهم وتحقق لهم أهدافهم لعلمهم أنه غالبا ما يكون كبش فداء.

 

على كل ففي لبنان كما في دول الجوار، بل كما في سائر بلدان العالم الإسلامي، التي يصر زعماؤنا على تفتيتها وإفقادها لحمتها، ويصر بوش على التذكير دوما بتناسق تلك الأقاليم، فيجملها بالشرق الأوسط الكبير، حيث الجرائم أكبر وأفظع بكثير من مجرد قتل زعيم أو رئيس، بل أشد من اغتيال كافة ساسة لبنان وسوريا سوية وفي آن واحد معا.

 

تلك الجرائم، الجاني فيها معين بالاسم والسن والعنوان. متى قصدته تجده متلبسا بجرائمه النكراء، وأدوات الجريمة مجتمعة على الدوام بين يديه، لا يحسن مفارقتها، وليس لديه أي استعداد للاستغناء عنها.

 

نعم إنها جريمة اغتيال وطن بأكمله، يقوم الحاكم بمصادرته كاملاً لنفسه، رامياً ببعض الفتات منه لزبانيته شركائه في جرائمه، طامعا بتخليده وتوريثه لذريته، ساحقا بكعب حذائه أبناء شعبه، فارضا عليهم رحلة قسرية إلى المنافي، أو البقاء في موطن الضنك والشقاء.

 

بل أكثر من ذلك، ففي شرقنا هناك جريمة أعظم، محاولات دؤوبة لوأد أمة، استبدلت ذاكرتها المضيئة بترهات، وتاريخها المجيد بافتراءات قلبته رأسا على عقب، وصيغت جغرافيته على شاكلة الغراب بأصابع ماكرة، أنفذها عملاء وبلهاء، وكأنها وحي من رب الأرض والسماء. أمة تُخنق كل يوم بإعلام كذوب، وبمناهج دراسية بائسة عقيمة، وبقوانين مستقاة من شريعة الغاب، بغية إلغاء أي أمل لها في غد زاهر. البشر في شرقنا الكبير عبارة عن دمى تتأتئ، تتنفس القهر وتدمن الفقر، وتتفاعل فيه بمنطق اللامنطق، كأنهم سكارى وما هم بسكارى.

 

فخذ مثلا عراقنا الأشم، حاضرة الخلافة وعاصمة الرشيد الذي خاطب الغمامة في عليائها، أن امضي حيث شئت فستُرتَعين في أرضي ... ها هم سياسيوه الجدد ينقبون في حاضره وصولاً إلى تاريخه السحيق بِشَرَهٍ مبالغ فيه، ليستخرجوا منه كل أثر لعرق أو مذهب أو ناموس أو تاريخ لا ليتعرفوا عليه، بل ليفتتوا العراق بحسب أمزجة التنوع الفسيفسائي فيه!!! فلا تبقى له باقية، وليسقط صريعا كالهشيم تذروه رياح الغباء والجشع واللهاث المجنون وراء السراب.

 

لقد حولوه بنجاح إلى "عراك" صرف، فما هو بعراق بعدُ إذن، إنما هو كلدان وأشور وكرد وعرب وتركمان وفرس وصابئة وسنة وشيعة ومسيحيون ويهود، ونسوا أن يضموا إلى مكونات عراقهم الجديد ديناصورات العصر الحجري، التي ربما تكون أرحم به منهم. إن ساسة العراق الجدد ينحرون العراق و ينتحرون معه، بأيديهم الآثمة ونفوسهم المريضة وعقولهم العقيمة.

 

 أعود إلى لبناننا الذي لم يتعظ الآخرون بما جرى له ولم يرْعَوِ سياسيوه عن اقتراف الشائنات بحقه قط، هذا البلد الطيبة أرضه، الوديع أهله، الممزوجة أعراقه من كل أبناء الأمة وكل من تعانق معها، واستظل بفيئها ونعم بالعدل والطمأنينة في رباها.

 

 فبعد أن أثخنته حراب سياسييه، وارتضوا أن يمارسوا فيه كل أنواع الرذيلة باسم الفضيلة، وبعد أن نسخوا من ذاكرتنا بفضل إبداعاتهم حرب البسوس باللبننة، فيما عرف بحرب الكل ضد الكل، شهدت معها أرضه معارك ضروس في كل ركن منه، في الجبل والبقاع والشرقية والغربية والشمال والجنوب، وبين كل مكوناته الدينية بما فيه اقتتال أبناء الطائفة الواحدة بل أبناء العائلة الواحدة في لعبة قذرة مميتة، بممارسات بشعة من ثأر و نهب وتدمير، إلى ذبح على هوية يتيمة وتعليق الرؤوس على أعمدة الكهرباء بهمجية نادرة، تستطيب معها العيش مع قراصنة البحار وقطاع الطرق.

 

وفي ظل معمعة لبنان، لا يعي المرء مَن مع مَن ولا ضد مَن!؟ حيث التقلبات المستمرة والانقسامات الدائمة، التي لا تعرف سقفا ولا تتكئ سوى على مصالح آنية شخصية وعائلية وطائفية محضة، مهما جملوها ورفعوا لها  من شعارات براقة كتحرير الوطن والاستقلال والوحدة والحرية والديمقراطية والرفاه، مما ضحكوا به على الناس دهراً طويلا، لم يشهد أهل لبنان من جرائها سوى قرصات الموت المرعبة و الفقر المدقع والغربة القاتلة والشتات في الوطن والمهجر، وغرق لبنان في مزيد من الديون التي لا طائل من أكثرها، وبالتبعية الصريحة لا لسوريا هذه المرة، إنما لأمريكا وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل كما يدعي بعضهم على بعض بذلك. وبقي سياسيو لبنان رغم كل آفاتهم كما هم  وحيث هم، لم يعتذر أحد منهم عما بدر منه ،ولم يستغن أحدهم عن ثرائه المشبوه للناس، ولم يغادر منهم سوى من أجبره قطار الموت السريع على ذلك رغم أنفه، ليشكلوا بذلك طبقة مهترئة، لا ينفع فيها إصلاح ولا تحوكها إبرة خياط.

 

فمحترفو السياسة هم أنفسهم أمراء الحرب في لبنان، ينتقص بعضهم بعضا على الدوام، متهمٌ كلٌّ الآخرَ بالخيانة والعمالة والغدر والتقلب والمزاجية والطائفية والنفعية والتسلط والاستعانة بالخارج على الداخل، ذلك المرض المستعصي والمستأصل في جسد أحزاب لبنان وسياسييه باعترافهم. ويصور ساسة لبنان المشكلة خطأ لأتباعهم وأنصارهم، ليس لأنهم أغبياء، إنما لأنهم جشعون يطمعون بالسلطة والمحاصصة التي لم ولن ترضي أحدا منهم قط! ولو على حساب أقرب المقربين إليهم.

 

تخرج علينا السلطة بأنها دولة القانون والتوافق، وأنها الأكثر ديمقراطية في المنطقة العربية، وأنها تحاول الأفضل حيث لا يوجد إلا الأسوأ، وبالمقابل تخرج المعارضة بالنقد اللاذع إلى الدولة بأنها تابعة وفاقدة للشرعية، كما تدعو إلى إلغاء الحياة الأمنية التي تمارسها السلطة والأجهزة المختلفة وإنهاء الفساد المستشري  الخ ...

 

من مفارقات القدر في لبنان، أنه لا يكاد يوجد معارض بحجم سياسي فيه إلا وكان مواليا للسلطة يوما وجلس على كرسي الحكم أو قاد إحدى تلك الأجهزة المشبوهة، وكانت تلك الصفات التي يطلقها اليوم المعارض على خصمه، تلبسه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، والعكس منطبق تماما على من هم في سدة الحكم أيضا.

 

 فلبنان جرب الطبقة السياسية الحالية في الحرب وفي السلم ولعقود طويلة، في المعارضة والموالاة في التحالفات والانقلابات، وظل المشهد السياسي دائما قاتما و بئيسا، فلا أمل مرجو بسياسيي لبنان كلهم، هذه هي الحقيقة التي لا يريد أحد أن ينطق بها، لأنه يبنى عليها إلغاء لبنان ككيان لأنه قائم أصلا على هذه التركيبة الفريدة والتي لا تصلح لإنشاء كيان أيّاً كان فكيف بدولة تقف أمام العواصف والأعاصير.

 

كان حريا بسياسيي لبنان أن يعتزلوا السياسية بعد أن أساؤوا الأداء وأفحشوا به، فضلا عن أنهم كانوا يستأهلون المحاكمة والقصاص العادل على جرائمهم السياسية والاقتصادية والأخلاقية، الموالي منهم والمعارض.

 

إن الفساد والظلم المستشري في لبنان والتي تقوم بمباشرته الأجهزة الأمنية إنما غذته دوما الأوساط السياسية حيث يعتبر هؤلاء أس البلاء ورأس الفساد، والعلاج لا يمكن أن يكون بحال كما تدعي المعارضة بالاستغناء عن سوريا من أجل إلقاء لبنان في حضن فرنسا وإعادته سيرته الأولى تحت الانتداب كما عاد العراق إلى أتون الاستعمار من جديد، إنما حل مشكلة لبنان مرتبط بإزالة أساس المشكلة، أي إعادة صياغة لبنان من جديد كجزء من كلٍ في عالم إسلامي واحد ينعم فيه جميع أهله بالعدل والطمأنينة والاستقرار، ولا يتأتى هذا إلا إذا تحررت الإرادة السياسية في المنطقة، وبات قرار الأمة راجعا إليها، ولهذا كان ينبغي وضع المشكلة على صعيدها الصحيح والعمل الجاد والمركز على اعتاق المنطقة كلها من ربقة الارتباط والتبعية للأجنبي أمريكياً كان أم بريطانياً وفرنسياً.

 

ولا يمكن سلخ لبنان عن واقعه المحيط به لا ثقافيا ولا سياسيا ولا اقتصاديا لأنه جزء لا يتجزأ منه، هكذا كان ماضيه ويحتم حاضره ذلك، ولا يمكن أن يستثنى مستقبله منه، ولذلك كان لزاماً النظر إلى قضية لبنان ومشكلته على أنه جزء لا يتجزأ من مشاكل محيطه، وأن الداء كامن في النظم السياسية والممارسات القمعية البشعة التي يمارسها المتحكمون بالقرار فيها، ولن يحل المشكلة إعادة لبنان جزيرة تعبث فيها أهواء وأمزجة وتبعية السياسيين فيه.

 

 والناظر إلى سكان أي مدينة من مدن لبنان الكبرى يجد فيها العائلات المجتمعة من كافة أطياف بلدان العالم الإسلامي ومدنه، فتجد عوائل بيروت وطرابلس وصيدا من آل المغربي وآل الحمصي وآل الحموي وآل الحلبي وآل البغدادي وآل  طرابلسي (الغرب) وآل الطرطوسي وآل اللاذقاني وآل اليمني وآل المصري وآل العراقي وغيرهم كثير، مما يشير إلى ذلك التجمع من حواضر دولة الخلافة الإسلامية خلال وجودها 13 قرنا من الزمان، فلا يمكن جعل الاستثناء المرَضيّ القائم حاليا هو الأصل وسلخ أهل لبنان عن بقية أهلهم في المنطقة تحت أية حجة.

 

 وقد برهنت الأيام على فشل كافة الحلول المؤقتة والآنية والجزئية والمستوردة، ولا يمكن تجربة المجرب الفاشل إلا إذا كان المجرِّبُ عابثا وكان كمن يحارب طواحين الهواء، ولذلك ينبغي الاعتماد والتعويل على الحل الجذري للقضية ، والذي يخدم كافة قضايا المنطقة بما فيه لبنان وأزماته.

 

فلبنان وسوريا وتركيا والعراق وفلسطين ومصر وبقية كيانات الأمة التي انصهرت فيها القبائل والشعوب بثقافاتها في بوتقة الإسلام، الذي نظم عيشها تبعا لمنهجه القويم في الحياة قروناً طويلة من الزمان، لتتشكل لجميعهم حضارة زاهرة، كان صلاح الدين الكردي رمزاً مضيئا فيها، سبقه طارق بن زياد من البرابرة إليها، ليلحقهم في ذلك الأئمّة حُماة الأمة ، معتصمهم حاضر لا يغيّبه كل أراذل زماننا، إلى النيسابوري والأندلسي والصنعاني والأصفهاني وجهابذة دمشق وفقهاء بغداد وأوزاعي لبنان وغيرهم من سادة الأمة، الذين تقسم كل ذرة تراب من دار الإسلام على انتمائهم إلى الإسلام وحده، وأن ولاءهم لم يكن يوما لبنانيا أو عراقيا أو مصريا فضلا عن عروبي أو أعجمي أو عن فرعوني أو طوراني أو كردي أو فارسي.

 

ومن هنا كان ينبغي على المرء النبيه فض يد الثقة من الوسط السياسي القائم في لبنان بشقيه المعارض والموالي، وكفى الناس حصرما وعلقما.  وكان لا بد من العمل السياسي الجاد لتحقيق النهضة على كافة الصعد، ابتداء من استعادة الأمة لإرادتها من خلال تغيير الأنظمة السياسية القائمة فيها، ومن ثم إعادة صياغة المنطقة بكل معذبيها ومساكينها ومواطنيها الذين تاجر بهم سياسيوهم وزعماؤهم ردحا طويلا، حتى ينعموا بالخير والعدل والاستقرار والطمأنينة الذي طالما افتقدوه.