انتخابات فلسطين : قراءة سورية

مركز الميماس للثقافة والإعلام

      قيد الإنشاء

ميشيل كيلو *

ليست سورية مستهدفة إمبرياليا وصهيونيا أكثر من فلسطين . ولا تخوض سورية معركة مسلحة يومية ضد الاحتلال الصهيوني للجولان ، بينما تقاتل فلسطين منذ أربعة أعوام – هي تقاتل في الحقيقة منذ نيف ومائة عام – ضد احتلال يستخدم القسم الأكبر من جيشه العامل في معارك يومية ضدها . وليس تخريب الوحدة الوطنية السورية مطلوبا أكثر مما هو مطلوب تخريب وضرب وحدة فلسطين الوطنية .

وليس الشعب السوري أقل ثقافة أو وعيا أو استعدادا للنضال من شعب فلسطين . ومع ذلك ، لا تعرف سورية الانتخابات الحرة ، تارة بحجة التصدي للإمبريالية والصهيونية ، وطورا بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية ، وتأخذ الانتخابات فيها أشكالا محددة ومراقبة رسميا ، تأتي بنتائج منضبطة رسميا. بينما انتخبت فلسطين رئيسها باقتراع حر ومباشر وسري وشخصي ، انتقيه من سبعة مرشحين تقدمت بهم الأحزاب السياسية ومنظمات المقاومة وهيئات المجتمع المدني ، خاضوا معركة انتخابية حرة وعلنية طيلة أسابيع ثلاثة أعلن كل منهم خلالها برنامجه وخططه ، وانتقد من وما أراد انتقاده ، وعبر عن رأيه دون خوف أو قلق ، ونال حصة مساوية لحصة غيره في الإذاعة والتلفاز – بما في ذلك الرسمي منه – وقال كل ما أراد قوله ، سواء ضد مرشح السلطة أو ضد سواه .

بعد انتهاء الحملة الانتخابية ، انتخب الشعب الرئيس في مراكز تضم 800 مندوب عن هيئات دولية منها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي – لا يسمح النظام العربي لجامعة الدول العربية بالاهتمام بقضايا تافهة كالحرية والديموقراطية - ومئات المندوبين المحليين ، الذين راقبوا نزاهة الانتخابات وشفافيتها . في حين أدلى المواطن الفلسطيني بصوته في أماكن رحبة ، نظيفة وحسنة الإضاءة ، مكنته من اختيار الرئيس بسرية تامة ، حيث وضع ورقته في صندوق شفاف ، بعد تقديم بطاقته الشخصية إلى موظفين بحثوا عن اسمه في قائمة انتخابية مطبوعة ، وشارك الأسرى في سجون ومعتقلات العدو في المعركة الانتخابية تأييدا لهذا المرشح واعتراضا على ذاك ، وبعثوا رسائل إلى الرأي العام تعبر عن مواقفهم ، بل وأعطوا من داخل زنزاناتهم مقابلات صحفية بواسطة الهاتف إلى الفضائيات والصحف العربية .

هل أضعفت الانتخابات الحرة والديموقراطية فلسطين أم قوتها ؟. وهل هدد التباين في وجهات نظر المرشحين التماسك الفلسطيني أم عززه ؟. وهل أضر الاختلاف في إطار الوطنية بمعركة شعبها اليومية أم خدمها ؟. عززت الانتخابات الديموقراطية وحدة الشعب ، وقوى الاختلاف في إطار الوطنية التماسك الفلسطيني ، وشدت الديموقراطية أزر المقاتلين في سبيل تحرير وطنهم من الاحتلال . ولم يسجل أحد واقعة واحدة تنتهك أو تهدد التماسك السياسي والوطني ، رغم أن الفلسطينيين ينضوون في أحزاب واتجاهات ومنظمات مقاومة متنوعة إلى أبعد حد ،واختلفوا علنا وصراحة على شخص الرئيس ، وعلى برامج المرشحين والسياسات التي لا بد من انتهاجها مستقبلا ، لبلوغ أهدافهم الوطنية ، المختلف أيضا على سبل الوصول إليها!.

هناك أراض سورية محتلة منذ أكثر من سبعة وثلاثين عاما ، لم تطلق رصاصة واحدة في سبيل تحريرها بعد عام 1974 ، أي منذ أكثر من ثلاثين عاما . وقد أثبت الشعب السوري وعيا متقدما بوحدته الوطنية ، قبل وفاة حافظ الأسد عامة وبعدها بصورة خاصة. وليس هناك مفاوضات حول الأرض المحتلة منذ أوقفها المرحوم حافظ الأسد قبل قرابة سبعة أعوام ، ويرجح أن لا يكون هناك مفاوضات حولها قبل الموعد الجديد ، الذي حدده جورج بوش لقيام الدولة الفلسطينية ، وهو عام 2009 ، أي بعد نيف وأربعة أعوام . مع ذلك لا يعرف السوريون الانتخابات منذ حوالي أربعة عقود، لأن النظام الأمني يعتقد جازما أن وحدتهم الوطنية لا تصان إلا في ظل الاستبداد وسياسة العصا الغليظة ، ويرى في الحرية صاعقا سيفجر الوطن وسيقضي عليه ، ويؤمن بجد أن الشعب السوري ليس أهلا للحرية ، ولا يجوز أن يؤتمن على قضاياه سياسيا ووطنيا ، وأن أي هامش ديموقراطي / تعددي سيكون في صالح العدو الإمبريالي / الصهيوني حكما . نتيجة لهذا المنطق ، بقيت الأرض السورية محتلة ، وبقي النظام الأمني عاجزا عن استردادها حربا أو سلما ، وبقي الشعب محروما من حرياته الأساسية . لذلك ، يتفرج السور يون اليوم بحزن شديد على ما يتمتع به الفلسطينيون من حريات ، ويقارنون أحوالهم بأحوال اخوتهم هناك ، فيجدون أن من هم أصعب حالا بكثير - أي الفلسطينيون – يرتعون في أجواء من الانفتاح والديموقراطية والتنوع والحرية ، بينما يرتعون هم في الخوف والصمت والانغلاق على الذات ، أو في المعتقلات والمنافي ، لا يحق لهم اختيار حتى نائب في "مجلس الشعب "، ولا يعرفون معنى الاقتراع السري أو الحر ، والتنافس المفتوح – وهو غير التنافس المصطنع والمضبوط ، الذي يقوم على ترشيح واحد هنا وواحد هناك ، وعلى جعل خطاب المرشحين مختلفا في بعض مفرداته بعضه عن بعض وعن الرطانة السائدة - وليس عندهم خيارات انتخابية متنوعة – فالأغلبية الساحقة نواب مسبقي الصنع ، فبركتهم المخابرات - ، أو غرف سرية ، أو صناديق شفافة ، أو رقابة دولية ومحلية ، أو جداول انتخابية ، في حين يحق لهم ، بالمقابل ،أن يخوضوا بحرية معارك انتخابية مزورة ، ينتخب الواحد منهم خلالها مرات كثيرة في أماكن مختلفة ، مثلما يحق لأجهزة الأمن المشرفة عليها وعليهم تزويرها بالطريقة التي تحلو لها ، خاصة بعد أن أدخلت الكومبيوتر إلى المعمعة ، وأخذت تزعم أنه يشرف شخصيا ع لى الانتخابات ، وانه لا يغلط ، لعدم وجود مصلحة له في الغلط !.

تقوض الانتخابات الفلسطينية جميع حجج ومواقف النظام الأمني في سوريا من الحريات ، وتنقض ما يزعمه منذ نيف وأربعين عاما حول تقدميته ، وحول استحالة التوفيق بين الحريات والديموقراطية وبين تحرير الجولان المحتل . وتظهر كم تقادم هذا النظام ، وتعاظم خطره على بلاد أضعف مجتمعها ودولتها ، وأوهن

أحزابها ، وأرهب مواطنها ، وبدد ثرواتها ، بينما يستلقي المحتل بأمان منذ نيف وثلاثين عاما فوق هضاب الجولان وسهوله ، مستمعتا بنعم الواقع السوري البالي !.

ثمة وقائع دولية وإقليمية وداخلية كثيرة تذكر النظام بأوضاعه ، التي تقادمت ولم تعد صالحة لحماية الوطن أو تحقيق أية مصلحة للمجتمع والدولة والسلطة .

واليوم ، تشير الانتخابات الفلسطينية إلى الاتجاه ، الذي علينا السير فيه ، قبل أن نسقط في الهاوية ، في زمن لن يكون بعيدا على الإطلاق ، إن بقينا أسرى نظام أمني لا يعرف شيئا غير ممارسة القمع والكبت ، واحتجاز وطننا في قيوده الثقيلة ، بينما العالم من حولنا يتغير ويتقدم !.

        

* كاتب وناشط سياسي سوري