إدارة أوباما وتصفية قضية فلسطين
إدارة أوباما وتصفية قضية فلسطين
م. حسن الحسن
استعملت أميركا قضية فلسطين، كاستعمال أيِّ دولة كبرى تعتمد السياسات النفعية مناطق التوتر في العالم كوسيلة للتدخل فيها وإعادة صياغتها بحسب ما يتناسب مع مخططاتها، حتى لو أدى ذلك إلى تعميق الأزمة القائمة وتعقيدها وإطالة أمدها بدل معالجتها. يفسر هذا جانباً مهماً من عدم إنجاز الولايات المتحدة تسوية القضية الفلسطينية سابقاً، رغم تبلور مقترح حل الدولتين الذي تنادي به إدارة أوباما حالياً لديها منذ أمد بعيد. فقد كان يلزمها استمرار حالة التوتر في الشرق الأوسط كي تقوم بابتزاز حكام المنطقة وإخضاع القوى التابعة لمناوئيها ومن ثمّ إعادة هندستها وفق مصالحها.
إلا أنّ إخفاق أميركا بالتفرد في القرار الدولي عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراكم الأزمات العالمية في وجهها، وحاجتها إلى تخفيف الاحتقان في العالم الإسلامي تجاهها ولكسب المزيد من مساهمات حكام العرب في خدمة مشاريعها، أدت هذه الأسباب مجتمعة بالرئيس الأميركي باراك أوباما إلى اعتبار أنّ تسوية القضية الفلسطينية مصلحة استراتيجية كبرى للولايات المتحدة، وهو ما أكده الجنرال ديفيد بترايوس الذي اعتبر أنَّ حسم هذه القضية أساسيٌ لتسهيل إنجاز مهامه في العالم الإسلامي.
عقبات على الطريق
إلا أنّه ثمة عقبات تعيق هذه التسوية لا بد من تذليلها قبل إتمام تصفية هذه القضية. لا سيما على الجانب "الإسرائيلي" الذي يرى أنّ أي تنازل من جانبه يشكل تهديداً للأمن القومي للكيان الصهيوني. ولذلك فإنه يؤثر (إن تمكن) إجراء عملية سلام لقاء سلام ضمن رؤية نتنياهو "للسلام الاقتصادي" بدل الأرض مقابل السلام. ولهذا تحاول حكومة نتنياهو في إطار اندفاع إدارة أوباما الاستفادة من الانقسام الحاصل بين حركتي فتح وحماس، للتملص من ضغوط الإدارة الأميركية عليها بشأن التسوية المطروحة، بذريعة غياب الشريك الفلسطيني الجاهز "للسلام" ومتطلباته. رغمَ إدراك "إسرائيل" أنّ ذلك الشرخ بين فتح وحماس (رغم دمويته) فإنّه يتعلق بالقشور لا بالجوهر في إطار عملية التسوية.
فالمنظمتان قد سلمتا سلفاً بأنّ سقف النضال الوطني الفلسطيني "الواقعي" هو إقامة دولة فلسطينية على أراضي 67 إلى جانب دولة "إسرائيلية" يلزم الاعتراف بها "كحقيقة واقعة" أو "كحقيقة نهائية" أو بهما معاً. وقد ذهب كبار قادة حماس في مناسبات عدة إلى وصف مشروع الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة والقطاع بـ "الحلم الفلسطيني" في تماه واضح مع ما دأب على تكراره رموز حركة فتح وأركان منظمة التحرير الفلسطينية.
لهذا فإنّ اعتبار الانقسام بين المنظمتين عقبة أمام التسوية المزمعة بحجة أن إحداهما غير جاهزة لمتطلبات "السلام" وتعمل على تدمير "إسرائيل" ادعاء يجافي الحقيقة، فقبول حماس بدولة على 67 في سياق الشرعية الدولية والشرعية العربية وشرعية الميثاق الوطني (اتفاق مكة) تجعل الاعتراف بـ"إسرائيل" ضمنياً أمر واقع. إضافة إلى أنّهما – أي المنظمتين - رهينتا أنظمة سياسية إقليمية منخرطة في عملية "السلام" حتى النخاع، ما يعني أن تسوية الانقسام آت لا محالة عندما يحين الوقت المناسب، في إطار توافق إقليمي - دولي على تصفية القضية الفلسطينية ككل. حيث ستتم حلحلة الإشكاليات العالقة بين المنظمتين المعنيتين، وتوزيع أسهم السلطة الفلسطينية الميمونة بينهما، بما يعتبره كل فريق إنجازاً تاريخياً للشعب الفلسطيني وخروجاً من دائرة الاحتراب الداخلي تحت شعار لا غالب ولا مغلوب.
التحرك الأميركي
من الجدير ذكره، أنّ جدية إدارة أوباما الملحوظة في حل الصراع القائم لا يعني بالضرورة إنجازه بين ليلة وضحاها. فالمسألة بحاجة إلى تمهيد يتضمن ترويض أفرقاء الصراع للوصول إلى تسوية تتمكن كافة الأطراف بالنهاية من هضمها، ناهيك عن أنّ لدى أميركا الكثير من المشاكل والتحديات التي يعتبر التصدي لها ومعالجتها مُقَدَّم على قضية فلسطين. ولذلك اكتفى أوباما في هذه المرحلة بتقديم أفكار مجملة حول السلام (باستثناء التأكيد على الخطة الأميركية القديمة-الجديدة القاضية بإقامة دولتين لشعبين) بانتظار إيجاد الظروف المناسبة، معتمداً على السناتور جورج ميتشل الذي انتدبه كمبعوث خاص للمنطقة مفوضاً باسمه لإنجاز هذه المهمة.
وهكذا فإنّ إدارة أوباما تدأب على نسج خيوط تمكنها من دفع خطتها إلى الأمام ولو على نحو شكلي لإبقاء "الروح" في عملية السلام. وهو ما يفسر اعتبار أوباما مجرد لفظ نتنياهو قبول دولة فلسطينية خطوة إيجابية، رغم أنّ الأخير أفرغها تماماً من محتواها، ولم يبق لها من الدولة سوى مسماها، على خلاف رغبة الإدارة الأميركية التي نادت بدولة "قابلة للحياة". كذلك التقى جيمي كارتر مع ممثلي حماس في غزة، وتحدث عن مأساتها وأوجاع أهلها والتقط بعض صور الدمار فيها وأبدى شديد اهتمامه بدعم رئيس حماس خالد مشعل لإقامة دولة فلسطينية على أراضي 67 (ما يعني أن كارتر يعتبر ذلك اعترافاً ب"إسرائيل"، لأن إقامة الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها ستقدم ضمن شروط أولها الإقرار بحق "إسرائيل" في فلسطين ولن تكون هدية مجانية للفلسطينيين). رغم أنّ المطلوب أميركياً الاعتراف صراحة بأحقية "إسرائيل" في الوجود فضلاً عن يهوديتها، أي الاعتراف بالمشروع الصهيوني القاضي بـ "الحق التاريخي والديني" بإقامة كيان لليهود في فلسطين.
الفرصة التاريخية!
في هذا السياق، يعتبر البعضُ أنَّ مجيئ أوباما فرصة تاريخية لإحراج "إسرائيل" ويدعو إلى مد العون له من قبل العرب والفلسطينيين لإحراز تقدم جدي في مسيرة المفاوضات، غافلين عن أن تصفية القضية الفلسطينية إنما تأتي في إطار مشروع استعماري أوسع يحقق الغرب من خلاله مصالح استراتيجية ترتبط بـ: (أ) تثبيت كيان نهائي "شرعي" لليهود في قلب العالم الإسلامي (ب) خلق حالة من الاستقرار في منطقة استراتيجية تضمن للغرب استمرار نهبه النفط والغاز وثروات المنطقة الأخرى (ج) استنساخ كيان فلسطيني على هيئة الكيانات العربية الهزيلة المحيطة ليشكل درعاً واقياً جديداً لحماية أمن "إسرائيل" (د) ترسيخ واقع التجزئة السياسي في هذه المنطقة واستبدال الهوية الإسلامية بالهوية الوطنية الضيقة (هـ) تغطية وجه أميركا الاستعماري البشع بقناع زائف يحقق "الأمن" و"السلام" في المنطقة.
اللافت، أنّ قوى "الممانعة" قد التحقت بمجملها بقطار قوى "الاعتدال" في إطار الترويج لإدارة أوباما وسعيه إلى إجراء تسوية شاملة في المنطقة. ما يكشف أن تلك القوى تمثل أدوات ضغط لتحقيق المشروع الأميركي أكثر منها حركات تحرر أو ممانعة مبدئية ذات نظرة شاملة أو مشروع جذري. ما يزيد الأمر سوءاً هو سير بعض من يمثل المشروع الإسلامي في هذا الخط. ما يعني أن أية تسوية في هذا المجال ستُمنَحُ صبغة "إسلامية"، تضاف إلى الصبغة القومية التي تم تسويقها عبر الجامعة العربية والصبغة الوطنية عبر منظمة التحرير الفلسطينية، ما قد يعد إنجازاً غير مسبوق للكيان الصهيوني في تحقيق إقامة كيان مستقر له مستنداً إلى كل هذه "الشرعيات" إضافة "للشرعية الدولية" و"الشرعية التوراتية" المزعومة. كل ذلك لقاء إقامة دويلة فلسطينية على 18% من أرض فلسطين في أحسن الأحوال.
الغريب كذلك، ما تدعيه بعض "قوى الممانعة" من أن إقامة دولة فلسطينية هو مجرد خطوة تكتيكية على طريق التحرير الكامل ولو بعد حين. وكأنّ إقامة تلك الدولة سيجيء نتيجة تحرير قسري لا عن طريق المفاوضات والمساومات والاتفاقات الدولية التي تضمن أولاً وأخيراً سلامة "إسرائيل" ومحاربة مناوئيها وتدميرهم. كما أنّ هذا التكتيك "الخطير" يتم إذاعته علناً في وسائل الإعلام، أي أنه ليس بسر على أحد، وبالتالي فلن تمرره الدول الكبرى و"إسرائيل" إن لم تكن واثقة تماماً بأن ما يقال لا يتعدى بحال كونه خطاباً موجهاً لجماهير معينة. وهو ما دأبت على انتهاجه سابقاً رموز في منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح تحديداً أثناء سيرها في طريق المفاوضات. تلك التي تحولت لاحقاً إلى سلطة "وطنية فلسطينية" مهمتها حراسة أمن "إسرائيل" وخنق كل من يريد مقاومتها.
أضف إلى ذلك أن "قوى الممانعة" تمول وتغطى سياسياً من قبل قوى وأنظمة ذات ارتباطات دولية، تلك التي لن تتردد البتة في قطع الموارد ورفع الغطاء السياسي عندما تخرج تلك الحركات عن الخط المرسوم لها فضلاً عن أن تتمرد على ما يطلب منها، ما يؤدي إلى شد الخناق عليها حتى تخضع أو تضعف وتتلاشى. والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال لحصرها هنا. على كل فإن تقديم مثل هذه الذرائع ليس جديداً في عالم السياسة، وغالباً لا يتعدى ذلك محاولة الحفاظ على القواعد الشعبية التي ترفض المساومات على المقدسات والثوابت.
خلاصة
إنّ التسوية التي يزمع إجراؤها تجري في ظروف مختلة بكل معنى الكلمة ضد أصحاب القضية من أهل فلسطين وكل من يهمهم الأمر من طنجا إلى جاكرتا. وطالما أن الوضع بهذا السوء فلا داعي لتقديم تنازلات لا مبرر لها سوى إرضاء القوى الكبرى. لا سيما أن الأمة الإسلامية قادرة على إنجاز التحرير الكامل الذي يعيد الأمور إلى نصابها والأرض لأصحابها. وهي ليست المرة الأولى التي تُحتل فيها فلسطين، وقد طردت الأمة الغزاة منها مراراً كما حصل إبان التتار والصليبيين. ولذلك يجب أن يبقى التحرير الشامل لكامل فلسطين هو بوصلة العمل السياسي، لا سيما أنه حكم الإسلام القطعي في المسألة، كما أنه ممكن جداً بدليل أنّ قوى متواضعة نسبياً من أبناء الأمة استطاعت أن ترضخ أمريكا الدولة الأولى في العالم في العراق كما في أفغانستان. كما تمكنت من صد عدوان "إسرائيل" نفسها في غزة ولبنان. إلا أنّ ما يجدر ذكره هنا أن الطريق إلى ذلك (التحرير الكامل) يكمن باستعادة الأمة زمام أمورها واستخدام مقدراتها لصالح قضاياها من خلال إجراء التغيير السياسي الجاد والشامل في المنطقة.