الأوضاع الإقليمية المضطربة والسياسة السورية

المحامي عبد الله الخليل

الأوضاع الإقليمية المضطربة

والسياسة السورية

المحامي عبد الله الخليل

[email protected]

التوتر في عدد من الأوضاع الإقليمية المجاورة، آخذ في التصاعد. والمشرق العربي، على ما يبدو، يتجه نحو المجهول. فالعراق مقبل، في الأيام القليلة القادمة، على انتخابات عامة، من الصعب، الآن، تقدير النتائج التي ستترتب عليها، إن بسبب تعقد الوضع العراقي، أو لاختلاف (أو تعارض) الأهداف التي تتوخاها القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة فيه. نعرف أن ما يريده المحتلون الأمريكيون من الانتخابات، هو تحقيق جملة من الأهداف : أولاً، الحصول، وإنْ لاحقاً، على شرعية من الشعب العراقي للحرب العدوانية التي شنوها على العراق، وتدميرهم للدولة، وعلى شرعية للاحتلال القائم، بوصفه "تحريراً" و"نصراً للديمقراطية"، وثانياً أن تكون مخرجاً من مأزقهم الراهن، بما يمكنهم من تشكيل حكومة عراقية "منتخبة"، تتولى عنهم مسؤولية القتال ومتابعته ضد المقاومة الوطنية، وتطلب منهم(باسم الشعب العراقي الذي تمثله) البقاء في العراق،( في قواعد عسكرية يستقرون بها ويسيطرون من خلالها على البلد ومقدراته، في الوقت الذي يخفّ فيه احتكاكهم المباشر بالعراقيين)، وأخيراً أن تكون مدخلاً(من خلال حكومة ما بعد الانتخابات والمعاهدات التي ستعقد معها) للإخضاع السياسي والاقتصادي للبلد والسيطرة على بتروله. لكن حساب البيدر لن ينطبق على تقديرات الحقل. فالانتخابات التي ظُنَّ أنها ستكون خطوة نحو الانفراج ونحو الحلّ، تحولت إلى مشكلة، أو جزءاً من المشكلة التي تدفع بالأمور نحو المزيد من التأزم.

فهناك عزوف شعبي واسع عن المشاركة، ومقاطعة معلنة من قطاعات شعبية أساسية، مما جعل حتى بعض المتعاملين مع المحتلين يطالب بتأجيلها، إن بحجة فقدان الأمن، أو لاستحالة المشاركة الواسعة بها. البلاد تتجه نحو المزيد من الفوضى، بل إنّ شروط الحياة الأساسية تتردى باستمرار( يدخل في ذلك انقطاع الكهرباء، وندرة المحروقات في بلد النفط وأخيراً انقطاع مياه الشرب عن عدد من المدن )، وتستشري الميول الطائفية والاتجاهات التقسيمية والانفصالية، وينمو التفكك، ويمارس، على الأرض، نوع من التقسيم غير المعلن. هذه الحالة التي تلقي بعبئها الثقيل على القوى الوطنية والديمقراطية، وعلى قوى المقاومة الوطنية، لا تتطلب متابعة النضال المتعدد الأشكال والأساليب،لإخراج المحتلين وتحرير البلاد وإحراز الاستقلال وحسب، بل أيضاً العمل على تشكيل جبهة عريضة تؤمّن التوافق على صيانة وحدة البلاد، والاتفاق على برنامج وطني لإعادة بناء عراق جديد، وطني ديمقراطي، يضمن حقوق الشعب وحقوق مكوناته.

على الجانب الفلسطيني، لا تزال إسرائيل تمارس الحرب المفتوحة وتستبيح القطاع والضفة، وتستمر في بناء جدار الفصل، متسلحة بدعم غير محدود من الولايات المتحدة. الجديد واللافت للنظر، هو إشراك حزب الليكود الحاكم لحزب العمل في الحكم، أي تشكيل نوع من حكومة " وحدة وطنية ". ما هي الدوافع وراء هذا التشكيل، وما هي الأهداف المتوخاة منه ؟ بالتأكيد، ليس الهدف هو الحرب ضدّ الفلسطينيين لأن هذه الحرب مستمرة لم تتوقف منذ سنوات، وليس الهدف هو الوصول إلى السلام معهم، فإسرائيل تحبط كل فرص السلام، أو الصلح مع ما تبقى من العرب، أي السوريين واللبنانيين، وهي  تكرر رفضها التفاوض مع السوريين، الذين أعلنوا أكثر من مرة عن رغبتهم في العودة إلى طاولة المفاوضات بدون شروط مسبقة. هل للأمر علاقة بوضع شارون في حزبه وحاجته لدعم من حزب العمل ليقوم بخطته بإخلاء بعض المستوطنات المكلفة رغم معارضة مستوطنيها؟ بغض النظر عن هدوء نسبي يمكن توقعه في الفترة القادمة، ينبغي تذكّر أن حكومات "الوحدة الوطنية" في إسرائيل، هي حكومات حرب وشيكة أو حكومات إعداد لحرب مقبلة. فهل هناك ما يخطط له ضدّ لبنان أو سورية، أو ضدّهما معاً، أو ضدّ إيران؟

في لبنان تزداد الأوضاع توتراً، خصوصاً بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559الذي وضع حدّاً للوصاية السورية، والتزم بجلاء القوّات الأجنبية عن لبنان،( والمقصود بذلك القوّات السورية، فقد اعتبر أن إسرائيل قد جلت عن كامل الأرض اللبنانية). القرار يذكِّر بقرارات مجلس الأمن السابقة التي استغلّتها الولايات المتحدة في التحضير للعدوان على العراق. على أن اللعبة الدولية لا تنطلق من عدم، بل تستند على الواقع اللبناني المتدهور، وعلى اتّساع المعارضة اللبنانية ضدّ الهيمنة السورية، التي أقامت نظاماً يعمل لمصلحة دوائر وفئات محدودة سورية ولبنانية خلاف مصلحة الشعبين والبلدين، ويتحكّم في الشؤون اللبنانية الداخلية، ويتدخل في الصغير منها والكبير( وكان التمديد لرئيس الجمهورية مثلاً فاضحاً) بواسطة الأجهزة الأمنية السورية، التي تدأب أيضاً على تكوين ورعاية أوضاع أمنية لبنانية، معادية للحريّات، شبيهة بالأوضاع السورية. لقد ساهم نظام الهيمنة هذا بدور كبير في دفع الأوضاع في البلد الشقيق نحو التردي، وفي نشر الفساد وانتهاك سيادة القانون واستقلال القضاء، وبالتالي في الانتقاص من سيادة لبنان، مما وضع مطلب السيادة الوطنية أو صيانة الاستقلال على رأس مطالب المعارضة.

بدلاً من أن يصبح الوجود السوري قاعدةً ومرتكزاً لنمو وازدهار المصالح المشتركة بين البلدين، وهي كثيرة، وبدلاً من أن يساعد على توسيع قاعدة التفاهم والتلاقي، أدّت الممارسة العملية، خلال السنوات الطويلة، إلى الضدّ من ذلك، ودفعت بقوى سياسية مختلفة ومتعارضة، للتجمع في جبهة عريضة تحت شعار الدفاع عن السيادة الوطنية، وعن الحريات. بل إنّ قوى وشخصيّات سياسية لاشكّ في ولائها أو صداقتها للنظام السوري، أخذت تصرخ بالشكوى من هذه الحال، وتطالب بوضع حدّ لها.

*             *             *

هذه هي الأوضاع المحيطة بالبلاد من شرقها وجنوبها وغربها. وهي أوضاع مرشّحة، بجكم واقع القوى المتصارعة فيها، للتفاقم وللانتشار إلى الجوار، الأمر الذي يتفق ومخططات الولايات المتحدة في السيطرة على المنطقة،أو يوفر لها فرصاً ومجالات جديدة للتدخل، خصوصاً بعد أن أصبحت قوة إقليمية كبيرة لها قواعد عسكرية عديدة في الخليج وفي تركيا، وتواجد عسكري كثيف في العراق، وبعد أن جرى تجديد الرئاسة لجورج بوش بما يعنيه ذلك من تشديد سطوة وسيطرة "المحافظين الجدد" على مقدرات الولايات المتحدة وعلى سياستها، التي أصبحت الحرب الاستباقية مبدأً رئيسياً فيها. عشيّة انهيار الاتحاد الإتحاد السوفييتي، خاضت الولايات المتحدة حرب استعادة الكويت إلى سيطرتها المباشرة، وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي، خاضت ثلاث حروب، واحدة في أوربا واثنتين في آسيا، ومن المرجح أن حربها في العراق لن تكون الأخيرة.   

*             *             *

كيف تتعامل السياسة السورية مع هذه الأوضاع، التي  تطورُّها والتحكّمُ بها، يقعان خارج نطاق قدرة وإمكانات هذه السياسة، ليس لتعدد اللاعبين السياسيين وحسب، بل أيضاً وأوّلاً، لوجود لاعبين أقوياء، أكثر قدرة على الفعل والتأثير على مجرى الأحداث؟

تمارس السياسة السورية نوعاً من الذرائعية يعلي من شأن المنفعة العاجلة والمحدودة على المصالح العامة والبعيدة؛ الوسائل عنده، مهما كانت، مبررة بالغايات؛ ولا حدود "للمرونة" التي يمليها الإرغام؛ولا بأس من تغيير المواقف، إن استدعت المناورة ذلك، أو فرضتها قوة ما. لكن مشكلة هذه السياسة هي في الإمكانات القليلة والقوى الذاتية المحدودة التي تستند عليها، والتي هي أعجز من أن تحقق الأهداف المعلنة والمضمرة، بالأحرى في قصورها عن صيانة هذه القوى، فكيف بتطويرها. لذلك تفضل الطريق السهل، بالاعتماد على ما هو متوفر من القوى، أو موضوع من الغير تحت التصرف الموقت، لكن محكوم من هذا الغير.

لفترة طويلة ظلّ شعار "التحرير" قيد التداول الإعلامي،ثمّ جرى الانتقال إلى شعار "الصمود والتصدي". بانهيار المنظومة الاشتراكية، وتغير ميزان القوى الدولي،دفعت هذه السياسة إلى التداول بشعار "السلام هو الخيار الستراتيجي"، غير عابئة بحقيقة أن الحرب والسلام كأسلوبين للسياسة، يحتاجان، كلاهما، للقوة. وربما كانت القوة المطلوبة للسلام، أكبر من القوة المطلوبة للحرب. يطلق الإعلام الموالي على السياسة السورية في الوقت الحاضر اسم سياسة "الممانعة"، بوصفها نوعاً من الاعتراض على السياسات المعادية. لكنّ الممانعة تتضمن، إلى جانب الاعتراض، معنىً آخر يأتي في نهاية الممانعة، وهو الرضوخ أو الانصياع. مورست سياسة الممانعة تجاه الاحتلال الأمريكي للعراق، وانتهت مؤخراً في شرم الشيخ. ومع إسرائيل جرى الانتقال"بسلاسة ويسر" من التفاوض بناءً على ما أُنجز سابقاً (ما سمّي بوديعة رابين)، إلى عرض التفاوض بدون شروط مسبقة. فجاء رفض العرض السوري من إسرائيل، متبوعاً بدعم من رئيس الولايات المتحدة الذي وصف سورية بأنها "دولة ضعيفة"، وأن عليها الانتظار.

من غير الواضح ما ستكون عليه السياسة السورية تجاه لبنان في المستقبل القريب، وبعد صدور قرار مجلس الأمن 1559، وذلك نظراً لأهمية ورسوخ المصالح الخاصة لذوي النفوذ في البلدين، ولحجم القوى( في السلطة والمجتمع اللبنانيين) الممكن التصرف بها. مع ذلك لا بدّ من ملاحظة التغير التدريجي في الموقف من القرار المذكور. ربما هناك تصور بإمكان التملص من إلزامات القرار، أو من بعضها،أو تقديم تنازلات في أمكنة أخرى وقضايا أخرى والاحتفاظ بالمواقع ذاتها، أو التخلي عن جزء منها. سياسة من هذا النوع، لن يكتب لها، على الأرجح، النجاح، لأن قوى كبيرة وهامة في لبنان لم تعد تقبل بديلاً عن استعادة حرية القرار والتصرف. على أي حال، لم تعد المسألة مسألة موقف من قرار دولي( على أهميتها)، بقدر ما هي مسألة العلاقة بين شعبين شقيقين. ينبغي احترام سيادة لبنان. ينبغي رفع الهيمنة عنه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية. ينبغي عدم الدفع باتجاه انقسام شعبي( طائفي) في لبنان، سيلحق الضرر الكبير بكلا البلدين. كان من الممكن صيانة مصالح البلدين، بالتقيّد الصحيح بالاتفاقات المعقودة بينهما. المأمول أن لا يكون الوقت قد فات لرتق الخرق.

     

* افتتاحية الموقف الديمقراطي

النشرة التي يصدرها التجمع الوطني الديمقراطي   

التجمع خمسة احزاب معارضة في سوريا