عن الديمقراطية ومؤسسات...
عن الديمقراطية ومؤسسات... " السجن العربي الكبير
غسان تويني
معه حق الزميل الدكتور كلوفيس مقصود حين يقول، في افتتاحيته أمس، أننا "نواجه اليوم مأزقاً فكرياً وسياسياً وعاطفياً في تعاملنا مع المشهد الانتخابي في العراق". وصحيح، بل الأصح أن "سرعان ما يبدو الموقف الواضح القاطع منها مستحيلاً".
...إلا بالمقارنة، والمقارنة العربية بالذات. فمع التسليم اللا بدّ منه بأن انتخابات العراق أبعد ما يمكن أن تكون عن الانتخابات المثالية في حريتها و"قوميتها"، إلا أنها تظل أفضل من نصف قرن عراقي كامل من دون انتخابات، ولو "مرهَبة" (من إرهاب) وفي ظل استعمار... داخلي، أو ما كان بمثابته من مشتقات الاستبداد!!! ثم أنها لا تختلف كثيراً، في الجوهر، عن بقية الانتخابات العربية، حيث تجري، وخصوصاً تلك التي تنتهي، كما في "دولة المؤسسات" السورية السعيدة الذكر، و"السعيدة ببعثها"(؟!؟) حيث الحزب الحاكم يحتفظ لنفسه سلفاً بأكثريةٍ من المقاعد تتقرر على صعيد الحكم الأرفع، ثم يعمد الحزب الحاكم إلى "ترشيح" نوابه لهذه المقاعد، تاركاً للشعب انتخابهم بحرية، إنما من دون منافس وبالتالي من دون اختيار ، باكثريات نادراً ما تنزل عن التسعين في المائة.
* * *
ومع احترامنا الكلي لرغبة الرئيس البشار في القيام بتغيير "ربيعي" – قيل أن طليعته (المتأخرة) ستكون تعددية حزبية – نسارع ونرجوه أن يتذكّر أن الروسيا التي زارها وفرحت به كما فرح هو بزيارتها، لم تعد الاتحاد السوفياتي الستاليني الذي كان حليف "سوريا حافظ الأسد".... بل هي "الاتحاد الروسي" الذي نشأ من ثورة مضادة، وبقرار من مجلس نواب كان قد فقد الحزب الحاكم (أي ما هو بمثابة "البعث" السوري، والعراقي من قبل) سيطرته عليه أمام زحف شعبي تقدّمه بوريس يلتسين ممتطياً دبابة كانت آتية لقمع الشعب، فحوّل يلتسين اتجاهها... وباقي القصة معروف... ومعروفة أسباب التردد الروسي، وبعضها معضلة الإرهاب الشيشاني.
وإذا استزادنا مستزيد وصفَ "دولة المؤسسات" التي تحدث عنها الرئيس الأسد الابن، هازئاً مستهزئاً بلبنان ورغبته أو قدرته على "بناء دولة مؤسسات"...
إذا استزادنا مستزيد، اضطررنا، مرة ثانية وربما ثالثة إلى أن نذكّره بأن مجلس الشعب السوري (ذي "الديمقراطية الشعبية" ) هو الوحيد الذي ألغى الحصانة النيابية ليسمح باعتقال نواب، سيق أحدهم مباشرة من المجلس إلى السجن لأنه كان قد احضر معه أكياس قمح أو طحين فاسد ليبرهن حسياً عن التقصير المجرم في نظام الإعاشة أو ما هو بمثابته... فبدل إسقاط الوزير المسؤول "ديمقراطياً"، ظل الوزير وزيراً ينتظر تعديلاً وزارياً صورياً (من فوق، ولا "تغيير ربيعي" بعد) وظل النائب في سجن "السجن العربي الكبير" إلى أن قامت ضجة عالمية اضطرت بعدها الدولة "البعثية" إلى بعثه من السجن...والقمح لم يتغيّر، ولا الاقتصاد...
لم يتغيّر "الاقتصاد البعثي الاشتراكي" بشهادة نائب آخر مسجون، ولا يزال من سنتين، وقد تجرأ وصرح من داخل السجن انه اعتقل لأنه "فضح احتكار" الهاتف الآلي، وهو الآن مستمرٌ سجنه (هكذا قال) خشية أن يفضح بقية الاحتكارات التي يقبض على زمامها "أصحاب الثروات الطائلة" من أهل الحكم.
* * *
أوَنزيد؟... لا، لن نزيد.
فقط أمر واحد: أن المؤسسات البالية في لبنان ("البالية" بفضل وضع اليد المخابراتي السوري –اللبناني الذي فضحه الزعيم وليد جنبلاط، ويلح ويكرر...) - المؤسسات البالية التي يعيّرنا بها الرئيس البشار يجري الآن تدريبها وتجهيزها - على يد الوصاية السورية المعروفة - بالعدة القانونية والفجور الغلماني الذي يمكّنها من إحكام أسوار "السجن العربي الكبير" على البقية الباقية من لبنان الحرية.
وحتى الآن، لم يُسجن بعد ولا نائب واحد.... فقط حاولوا اغتيال أحب النواب إلى قلب الديمقراطية اللبنانية. ومع ذلك لم يخط تحقيق العدالة العضّومية الباسطة هيمنتها على ملفات "المدينة" المتعددة... و المؤسَّسة سورياً - لم يخطُ التحقيق ولا خطوة جدية على طريق اكتشاف المجرمين حتى صارت الناس تتساءل عما إذا كان مروان حماده يجب أن يكون سعيداً لأن العدالة إياها لم تلاحقه هو بعد بتهمة إنقاذ نفسه منالاغتيال، ثم الحضور، قبل النقاهة، إلى مجلس النواب ليقول انه يكون فخوراً لو كانت محاولة اغتياله وما أصابه من جرائها فداء لتمتع لبنان بالربيع الذي يحلم به. والسرّ في ذلك كله أن الديمقراطية اللبنانية التي كان من ابلغ تعابيرها كلام مروان حماده، ومن قبله، ثم بعد ذلك، كلام وليد جنبلاط – هذه الديمقراطية تحرسها البقية الباقية من ارث الحرية الذي كان مشتركاً بين لبنان وسوريا (والعبرة في المشانق العثمانية التي لم تميّز بين الشهداء) إلى أن...
إلى أن ادخل حلفاء الستالينية لبنان، وبتفويض أميركي كذلك، كما قال الوليد – برؤية نادرة الشجاعة – إلى جانب الشعب السوري في "السجن العربي الكبير"!!!
* * *
وفي المناسبة، لا بد من التذكير بأن الوليد فضح كذلك كيف صارت الدول العربية، كلها أو بعضها، لا أسيرة السجن العربي الكبير فحسب، بل أسيرة "لعبة الأمم"، تظن انه في وسعها أن تلعب دولة عظمى ضد الأخرى، فإذا بهذه "تتفق" علينا وتحوّلنا أدوات في حروبها، فنصير كلنا نخوض، كما في لبنان خصوصاً، ومرات، حروباً أهلية "من أجل الآخرين"...
* * *
... وآخر تلك النماذج، ولعله أبرزها، واحد يعود موضوعه اليوم بالذات إلى الواجهة، وهو "التفويض" الأميركي للبنان كي يستدعي الجيش السوري لضرب القصر الجمهوري حيث كان يعتصم الجنرال عون، والاستحصال من إسرائيل على الأمان الجوي للطيران السوري حتى يحلّق في السماء اللبنانية ويقصف بعبدا وسواها من المواقع.
... كل ذلك لأن سوريا كانت قد وافقت على الاشتراك العسكري الرمزي إلى جانب أميركا في الحرب الأولى على عراق صدام ("البعثي"، تذكّروا...) واليوم، حين تؤكد واشنطن أن لا "مبادلة خدمات" على حساب لبنان والانسحاب منه... – اليوم لا يسعنا إلا أن نهنئ سوريا بأنها فتحت أقلام اقتراع على أرضها حتى يصوّت العراقيون اللاجئون إليها بحرية وأمان. وأملنا أن تصير هذه العملية نموذجاً لا لمزيد من الانتخابات العربية، بل للانتخابات السورية المقبلة، وبالأحرى الانتخابات اللبنانية، فلا يطوّقها ويزوّرها القانون الذي هو قيد التصنيع في مجالس الحكم المسترهنة للشقيقة سوريا، بحجة عجزنا نحن – أو تلكؤنا – عن بناء "دولة مؤسسات".
* * *
أفكثير علينا، نحن اللبنانيين أن نصرخ كما بعضنا مرات من قبل: "ارفعوا أيديكم عن لبنان... وطننا ليس للبيع ولا للإيجار"!؟
ثلاث ملاحظات قبل ختام هذا المقال:
أولا: ترحيبنا الكلي بقرار الجنرال عون العودة إلى لبنان، وترحيبنا – إذا صحّت الأخبار – بأن تكون الدولة اللبنانية العليّة (ولا بد أن تكون، إذا صحّ الخبر، قد استأذنت سلطانها!!!) قد قررت رفع الموانع القضائية التي كانت تحول دون عودة الجنرال. وأملنا، أياً تكن حسابات السلطة والمتسلطين عليها، ألا تظن هذه أو تلك أنها هكذا ستساهم في قلب المعادلات الانتخابية والتأثير على المواقف السياسية المبدئية. فالجنرال عون ملتزم مواقف ثوابت لا قدرة للسلطة على "هضمها" أو التحالف معه على أساسها!!
ثانياً: ترحيبنا بانتصار "حماس" في الانتخابات البلدية في فلسطين غزة، وفي ذلك تأكيد أن حتى الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أن يفسد ديمقراطية، ولو بلدية الإطار، حين تأتي من ضمن تعاقد شعبي على إعادة بناء وطن... واللبنانيون (كما الأتراك من قبل) سيتعظون...
ثالثاً: حين نتطلع إلى تاريخ ما ترتَّب على انتخابات أريد بها بناء مجتمعات ديمقراطية (كما يقال أن ذلك هو حال العراق) لا يسعنا إلا التعلّم مما صارت إليه الهند، اكبر ديمقراطية برلمانية في العالم المعاصر (مليار إنسان وأكثر) ومتعددة الدين والعرق، بما في ذلك عدد من المسلمين يفوق مجموع سكان باكستان الإسلامية.
وقد بدأت مسيرتها الديمقراطية في ظل آخر أكبر إمبراطوريات القرن العشرين، هي بريطانيا العظمى.
وصارت الهند، إلى ديمقراطيتها، وربما بسببها، إحدى كبرى دول الصناعات – الالكترونية، تضاهي أميركا وأعظم من بريطانيا سيدتها السابقة. فضلاً عن كونها دولة نووية ومصنِّعة للصواريخ.
وما يصح عن الهند يصح مثله عن اليابان: فرضت عليها أميركا – عقب احتلالها بعد الحرب–الديمقراطية والانتخابات، فاستلهمت اليابان من تراثها القديم ما أخرجها من وضع المهزومة في الحرب العالمية لتصير تنافس المنتصرين عليها.
* * *
وأخيرا أخيرا، كم نتمنى لو أن الرئيس العزيز لشقيقتنا العزيزة سوريا يكلف نفسه، ما دام صار يهوى السفر، عناء القيام برحلة إلى الزمن الماضي، فيقارن بين حال ألمانيا الغربية التي صارت ديمقراطية، (ديمقراطية حقة، وليس "ديمقراطية شعبية") وديمقراطية المانيا الشرقية "المُتسفْيتة" (كما سوريا!)... اذذاك كان يدرك لماذا سقط جدار برلين "السجن الأوروبي الكبير"، ولماذا ابتهج الألمان بوحدتهم، بمن فيهم ألمان الغرب الذين دفعوا ويدفعون كلفة تنمية "المجتمع الشرقي" حتى يصير الشعب الواحد في الدولتين واحداً حقاً بنظامه وبرقيّه، وفي طليعة الأحرار.
رسالة أخيرة إلى الخائفين على لبنان ومؤسساته: لبنان الشعب أقوى من المؤسسات، وللمؤسسات منه أي من الشعب العنيد العريق ضمان نهضتها وتحرّرها...وضمان سلامة الجنرال عون كذلك، حين يعود، كما أعلن هو نفسه ! فليطمئن المتخوّفون علينا، والخائفون من بيننا ! مفهوم؟...
"النهار"