بين الحوار والمؤتمر
صلاح حميدة
ينشط المحللون والسياسيون هذه الأيام في الحديث عن الحوار الفلسطيني- الفلسطيني، وعن المؤتمر السادس لحركة فتح، ويتم تداول الحديث حول الموضوعين بشكل يومي في وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة، ويعتبر هذان الحدثان من أكثر الأحداث التي يبني عليها الكثيرون آمالاً بتغيير أوضاع الحركة السياسية الفلسطيني، والواقع الفلسطيني المعاش، في ظل حالة الصراع والانشقاق الداخلي الفلسطيني، وفي ظل هجمة غير مسبوقة من الاستيطان والتهويد، وتناقض البرامج الفلسطينية في كيفية التعامل مع هذه الهجمة.
لا يخفى على أحد أن الحوار الفلسطيني- الفلسطيني في القاهرة تحول إلى مفاوضات بين أطراف متناقضة، ولم يعد حواراً بين إخوة مختلفين على هوامش وتفاصيل، ولكنه مفاوضات بين أطراف متناقضة البرامج بشكل مطلق، ولا يخفى أيضاً أن هذا الحوار يعتبر إدارة لعلاقات عامة تخفف حدة الاحتقان على الساحة، وربما يأتي استجابة لضغوطات محلية وإقليمية رغبةً منها في إظهار لعبها دوراً مهماً في الاقليم، مضافاً إليه ما تعتبره حركة حماس إعذاراً لها أمام الشعب الفلسطيني بأنها لم تترك باباً للمصالحة إلا وطرقته، من خلال تنازلها عن أغلب مطالبها التنظيمية، وحقوقها التي منحت لها في الانتخابات، مع تأكيدها على رفضها الاعتراف ( الكريستالي) ب (إسرائيل).
من المهم أن يعلم الجميع أن هذا الحوار لن يصل إلى أي نتيجة، فالعامل الدولي والاقليمي يتحكم في الوضع الفلسطيني، وهذا العامل بالذات كان وراء إفشال الحكومتين التين كانتا نتاج الانتخابات التي تمت، وأظهر هذا العامل أن هناك سقفاً من المحظور على حركة حماس خرقه، وبالتالي، ما دام هناك طرف فلسطيني يقبل بهذا السقف، ويقاتل في سبيل جر حماس لتقبل به، فلن يحدث أي اختراق في هذا الحوار، ولن يصل إلى أي نتيجة.
برزت قضية الاعتقالات التي تقوم بها حكومة سلام فياض وحركة فتح ضد عناصر المقاومة بشكل عام، وضد حركة حماس بشكل خاص، برزت كمعيق رئيس لأي تقارب داخلي، ولفتت حركة حماس النظر وسلّطت الأضواء على هذه القضية، وبينت أن عناصرها يتعرضون لتعذيب غير مسبوق وإهانة غير معهودة وغير ذلك من الممارسات التي تخرج عناصرها من السجون إما (بعاهة جسدية أو بمرض نفسي)، كما نقلت الحركة على لسان أحد قادة الأمن الفتحاوي في أحد مدن الضفة الغربية، عندما كان يتوعد عناصرها.
حاولت حركة حماس أن تصل إلى حلول لهذا الملف تحديداً، وتم التوافق على لجنة فصائلية وحقوقية مقربة من سلطة فتح في الضفة لتحدد المعيار للمعتقلين السياسيين، ولكن أعلن أن فتح أعلمت حماس أن ملف الاعتقال ضد عناصر حماس هو التزام من حركة فتح تجاه ما تسميه المجتمع الدولي، وبالتالي فهو غير خاضع للحوار، بالرغم من قبول حماس إطلاقاً متبادلاً لكل المعتقلين من الجانبين، ومن ضمنهم من اتهموا بقتل عناصر وقيادات من حماس.
ملف آخر يقع في صلب ما يجري على الساحة، وهو ملف قديم جديد، وهو ملف فصل الموظفين وقطع الرواتب عن الناس، وهذه سياسة مستهجنة وغريبة على المجتمع الفلسطيني، خاصة في أن يتم استخدامها فلسطينياً وضد من يحمل فكراً سياسياً مخالفاً، فلم تتوقف هذه السياسة عند فصل من وظفتهم حكومة هنية ، ولكنها امتدت الى ما يعرف بقطع رواتب من لم يجلس في بيته في غزة وعمل مع الحكومة هناك، بل زيد على ذلك، فيما أصبح يقترب من أن يصبح ظاهرة في الضفة الغربية، فالمقرب من حماس أو من يحمل فكرها ممنوع من الوظيفة الحكومية، بل إن هذا امتد ليصل إلى بعض القطاعات الأخرى، فالمؤسسات المحسوبة على حماس التي سيطرت عليها السلطة في الضفة الغربية، أصبحت تنتهج فيها سياسة فصل تجاه الموظفين المحسوبين على حماس، وتضع مكانهم مقربين من فتح أو عناصر منها، وهناك خريجين من الصحافة والاعلام لا يجدون من يستقبلهم من المؤسسات الاعلامية لا للتدريب ولا للتوظيف، فهذا على سبيل المثال والده قيادي في حماس فلا إمكانية لاستيعابه، هذه السياسة البشعة من التضييق على الناس في أرزاقهم لا يمكن ولا بأي حال من الأحوال تبريرها لا بانقسام سياسي ولا بغيره، فما هي المصلحة بجعل الناس والعائلات عرضة للجوع والفاقة؟
فقد كانت حركة فتح تروج دائماً أن حصار قطاع غزة، والعزلة الدولية تسببا بقطع أرزاق الناس، وتسببا في زيادة رغبتهم في الهجرة من فلسطين، فهل قطع أرزاق الناس وفصلهم من وظائفهم التي تنتهجها سلطة فتح ستؤدي إلى تثبيتهم في وطنهم؟.
لا يمكن فصل أي ملف من ملفات الواقع الفلسطيني عن الأخرى، وهنا لا يمكن إلا التعريج على ملف المؤتمر السادس لحركة فتح، ولا بد من الانتباه إلى أن حركة فتح لم تكن في أي يوم من الأيام تنظيماً يحمل فكراً محدداً يجمع كل أفرادها كالتنظيمات الأخرى على الساحة من اليسار أو من الحركات الاسلامية، فحركة فتح حركة تضم بين ثناياها العديد من التيارات والاتجاهات، وهذه التيارات كان يضبط إيقاعاها دائماً رئيسها الراحل ياسر عرفات، فهو بما يمتلك من كاريزما، كان باستطاعته دائماً أن يضع حداً لأي طامح أو طامع أو متمرد، وبقيت كل محاولات التمرد عليه تحت السيطرة، ويتم إخمادها في مهدها، ولم ترقى لتصل إلى انشقاق يهدد وحدة الحركة، لأن كاريزما عرفات كانت تعزل المنشقين دائماً.
بعد وفاة عرفات، فقدت حركة فتح هذه الخاصية، وبقيت تعيش صراعاً مريراً بين اتجاهين رئيسيين فيها، هذا الصراع لم يكن منفصلاً عن ما يجري على الساحة بين حركتي فتح وحماس، وشكل الصراع مع حماس أحد أهم عوامل حسم الصراع الداخلي في حركة فتح، فقد كان الصراع على الساحة الفلسطينية بين تيارين متناقضين تماماً، وكان التيار الذي يسيطر على حركة فتح مالياً وعسكرياً، قد أحكم سيطرته على أطر الحركة في الداخل، ونوعاً ما على أطرها في الخارج، وكان الاتجاه الثاني في حركة فتح الذي يتقارب مع حركة حماس في نهجها السياسي يعيش أسوأ لحظاته، فخالد أبو هلال ومن معه، قرروا أنه لا أمل في إعادة تصويب حركة فتح لتلعب دورها المقاوم الذي أنشئت لأجله، فقرروا الإنفصال عن الحركة، وأسسوا ما اصطلح عليه ب (حركة فتح الياسر) نسبة لياسر عرفات، ثم ما لبثوا أن غيروا الإسم ليصبح حركة الأحرار الفلسطينية، وبذلك فصلوا أنفسهم نهائياً عن الواقع الفتحاوي.
أما القيادات التاريخية للحركة مثل هاني الحسن، فقد توارى عن الأنظار ولم يسمع له صوت بعد لقائه على الجزيرة بعد أن سيطرت حماس على قطاع غزة وهزمت مجموعات النائب محمد دحلان، أما القيادي في فتح أحمد حلس أيضاً فالظاهر أنه اعتزل العمل التنظيمي بعد الاشتباكات التي جرت بين عائلته وبين الحكومة في غزة على خلفية التفجير على شاطىء غزة، الذي تم من خلاله اغتيال أربعة من قيادات القسام وطفلة صغيرة.
العقبة الرئيسية أمام التيار الذي سيطر على حركة فتح، تمثلت في عضو اللجنة المركزية في الحركة وأحد مؤسسيها فاروق القدومي ومن معه، دار الصراع بشكل رئيس بين الطرفين على تغليب كفة أي منهما، من خلال تحديد مكان عقد المؤتمر، وعدد المشاركين، ونوعيتهم، والبرنامج الذي يجب أن يقر، هل يتضمن في ثناياه خيار المقاومة المسلحة أم لا، إضافة إلى المواضيع التي يجب أن يناقشها المؤتمر، وذكر من بينها قضية إغتيال ياسر عرفات مؤسس الحركة، والتي فجر القدومي جدلاً واسعاً حولها بعد أن تيقن أن عباس قرر منفرداً أن يعقد المؤتمر في بيت لحم بمن حضر، وبغض النظر عن موافقة القدومي ومن معه أم عارضوا.
هنا جرى الفراق بين الطرفين، وفقدت حركة فتح وحدتها( حسب رأي المحلل السياسي بلال الحسن)، وإذا تم عقد المؤتمر في بيت لحم، فإن هناك من يرى أن حركة فتح قد انفصلت عملياً إلى قسمين، قسم يسيطر على مال الحركة ويستخدمه في التطويع والتجويع، وهو القسم الذي يرفض المقاومة ويحاربها، وهو الموجود في الضفة الغربية ويسيطر على التجمعات السكانية والأطر الحركية فيها، والطرف الثاني الذي يريد المقاومة، ولكنه في الداخل مهمش ومحارب، وفي الخارج مهمش ومحاصر سياسياً ومالياً، وبعقد المؤتمر في بيت لحم سيفقد آخر أوراقه، وما يدلل على ذلك هو إعلان القدومي الأخير، وتفجيره قضية محضر ما اعتبره تآمراً على قتل عرفات من قبل خصومه في الحركة مع أرئيل شارون وشاؤول موفاز، فهذا إعلان من أحس بانه فقد أوراقه، ولذلك لجأ إلى سلاح القطيعة النهائية والحرب المباشرة، واستخدام كل ما عنده.
أي مراقب لما يجري على الساحة الفلسطينية، يلحظ أن صراعاً مريراً يتم على الساحة، وهذا الصراع بالأساس داخل حركة فتح، وعلى إرث حركة فتح، وتؤثر ارتداداته على بقية الأطر والأفراد في الساحة الفلسطينية والإقليم والعالم أيضاً.
ومن الواضح أن القوى الدولية والإقليمية تضع ثقلها بجانب الطرف الذي يرفض المقاومة ويحاربها، وتسعى لحصار والقضاء على الطرف المقاوم وتجفيف روافده بكل أشكالها، ومن الواضح أيضاً أن هذه الحرب لن تتوقف على المدى المنظور حتى ولو خبت قليلاً، ولكنها مستمرة ولو بعيداً عن الإعلام، عبر الحصار والحرب الناعمة على التمويل والفكر والتنظيم والهياكل والمؤسسات والأفراد.
أما فيما يخص الصراع في حركة فتح، والذي تجلى بوضوح في الإعلام في الأيام السابقة فهو أحد أشكال المخاض الذي تعيشه الحركة، ولا أعتقد أن أي تدخل من الخط الذي ينتهج المقاومة سيعدل كفة الميزان في هذا الصراع، وحتى لو تم التدخل ودعم الطرف الذي يتقارب مع خط المقاومة، فهو دعم له حدود معينة، ومع أن المنطق والمصلحة الوطنية والانتهازية السياسية، تقول أنّ الطرف المقاوم يجب أن يدعم الطرف الذي يقترب منه فكرياً داخل حركة فتح، إلا أنّ دعم هذا الطرف سيضعفه أكثر مما هو ضعيف، فالقاعدة الفتحاوية لم تعد القاعدة الفتحاوية التي كنا نعرفها، فهي معبأة ضد خط المقاومة الذي تمثله حركة حماس، ولذلك من العبث التدخل في الصراع القائم داخل حركة فتح، وأنا مع من قال:-
(دعوا حركة فتح تعيش مخاضها)
فما سيصيب خط المقاومة من نتائج المخاض هو ما يصيبه من سوء إن كانت النتيجة بغير ما يشتهي، أما إن كان بما يوافق رؤيته، فستكون المصالحة الداخلية هي أهم تجليات هذا المخاض، أما على الصعيد الفتحاوي، فحركة فتح هي التي ستدفع الثمن الإستراتيجي لخياراتها.