يا حكام العرب كونوا كالمعتصم.. ولا تكونوا كالمستعصم

يا حكام العرب كونوا كالمعتصم..

ولا تكونوا كالمستعصم

بقلم: الدكتور جابر قميحة

[email protected]


لم يبالغ ابن خلدون - في مقام تعريف «التاريخ», والغاية التي يحققها إذ قال: «هو فنّ عزيز المذهب, جم الفوائد, شريف الغاية: إذ هو يُوقفنا علي أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم, والأنبياء في سيرهم, والملوك في دولهم, وسياستهم حتي تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا
ويتفق «راوس» مع ابن خلدون في الفائدة المنشودة من دراسة التاريخ لأن معرفة ما كانت عليه المجتمعات في الماضي, وكيفية تطورها تبصر الإنسان بالعوامل التي تؤثر فيها, وبالقيادات والقوي التي تحركها وبالدوافع والمصادمات التي تشكلها عامة كانت أو خاصة.
ويري «راوس» في كتابه القيم (التاريخ: فائدته وأهميته) - زيادة علي ما ذكر - أن التاريخ لا يتناول حياة العظماء من الأفذاذ فحسب, بل إنه يتكون من رواسب حياة ملايين من الرجال والنساء الذين تقل أهميتهم, والذين لم يخلفوا اسمًا, بل قدموا فقط حصتهم من المشاركة, إن حياة هؤلاء لتجعل مادة التاريخ أشبه بالشّعَب المرجانية التي تتكون من حياة ملايين من المخلوقات البحرية الصغيرة القليلة الأهمية».
والقرآن الكريم يعرض شرائح من تاريخ الأمم والأنبياء والملوك, ورجالاً ونساء لا يرقون إلي مثل هذه المرتبة, وكثيرًا من الوقائع والأحداث, منها ما جاء مفصلاً, ومنها ما جاء علي سبيل الإيجاز.
وكل أولئك يهدف إلي أن يعتبر الإنسان, ويتعظ, ويهتدي, ويقتدي بالنماذج الصالحة الطيبة, ويتجنب دروب النماذج الكافرة الآثمة كفرعون وقارون وأصحاب الجنة وصاحب الجنتين, وأم جميل حمالة الحطب وغيرهم. فلا عجب أن تؤكد هذا الهدف آيات ترد في سياق الوقائع والأحداث, أو بعدها مثل قوله تعالي: {إنَّ فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ً} [ق: 37]. وقوله تعالي {لّقّدً كّانّ فى قصصهم ي عبًرّةً لأوًلى الأّلًبّاب} [يوسف: 111]. وقوله تعالي {.... فّاعًتبروا يّا أوًلى الأّبًصّار} [الحشر: 2]. ومن ثم كان علي المسلم أن يقرأ التاريخ قراءة استيعاب واستبطان وتدبر, لتحصيل المعارف, وزيادة العلم من ناحية, والانتفاع في مسيرة الحياة والتعامل والأخلاق والسلوك, من ناحية أخري.
وإليكم صورة المعتصم..
وانطلاقًا من هذه المقدمة, ونحن نري عراق المسلمين يحترق, وبغداد الرشيد وغيرها من المدن والقرى العراقية تضرب بالقنابل والصواريخ من الجو والبر , وتختلط فيها الأنقاض بأجساد الأطفال والشيوخ والنساء... نقدم لحكامنا - من هذه الأرض - نموذجين متناقضين لحاكمين:
الأول هو المعتصم بن هارون الرشيد ( 178 - 227- هـ).
والثاني هو المستعصم بن المستنصر بالله (609هـ - 656هـ).
الأول حقق انتصارًا من أعظم انتصارات المسلمين علي الروم, والثاني حقق أبأس هزيمة نزلت بالمسلمين وهي سقوط العراق وبغداد والدولة العباسية علي يد التتار سنة 656هـ.
ومن أغرب طرائف التاريخ الإنساني كله أن الرقم (8) ارتبط بالمعتصم ارتباطًا عجبًا. قال نفطويه والصولي: والمعتصم يقال له «المثمّن: لأنه ثامن الخلفاء العباسيين, والثامن من ولد العباس, وثامن أولاد الرشيد, وملك سنة ثماني عشرة, وملك ثماني سنين وثمانية أشهر, وثمانية أيام, ومولده سنة ثماني وسبعين, وعاش قرابة ثماني وأربعين سنة, وطالعه العقرب, وهو ثامن برج, وفتح ثمانية فتوح, وخلف ثمانية ذكور, ومثلها من البنات ومات لثماني بقين من ربيع الأول.
وقال عنه الذهبي: كان من أعظم الخلفاء وأهيبهم. وكان ذا همة عالية, وشجاعة فائقة, وحكمة وبعد نظر, كما كان يتمتع بقوة جسدية خارقة. قال وزيره ابن أبي دؤاد: كان يظهر ساعده, ويجري عليه الأسنّة فلا تؤثر فيه. وقال نفطويه: ومن قوته أنه كان يجعل زَنٍد الرجل بين إصبعيه فيكسره, ويصيد الأسد بيديه.
وكان يحب العمارة - أي تعمير الخلاء بالبناء - واستصلاح الأرض وزرعها. وينقل المؤرخون قوله «إن في العمارة أمورًا محمودة: فأولها عمران الأرض التي يحيا بها العالم, وعليها يزكو الخراج, وتكثر الأموال, وتعيش البهائم, وترخص الأسعار, ويكثر الكسب, ويتسع المعاش». وكان يعطي وزراءه الحق المطلق في «لا مركزية العمل والتنفيذ» إذا تبينوا وجه المصلحة والفائدة. ومن توجيهاته لوزيره محمد بن عبد الملك, «إذا وجدت موضعًا متي أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهما فلا تؤامرني فيه», أي نفّذ ما تري, ولا تستشرني.
وينقل لنا التاريخ أن «توفيل» ملك الروم زحف في مائة ألف, وحرق حصون المسلمين في الشمال وقتل الكثيرين من المسلمين, ومثل بأسراهم وقتلاهم وسمل عيونهم وصلم آذانهم, وجدع أنوفهم, وسبي ألف امرأة مسلمة. ويقال إن هاشمية أسيرة صرخت «وامعتصماه», فلما بلغ المعتصم ذلك هتف «لبيك لبيك يا أمة الله». وانطلق بجيش قوي إلي مسقط رأس «توفيل»: «عمورية». وهي أمنع وأحصن المدن وأقواها. وأنزل بالروم هزيمة نكراء, وشتت جموعهم, وخرب ديارهم, وفتح عمورية, وكانت أشرف عند الروم من القسطنطينية, وقتل من الروم ثلاثين ألفًا, وأسر مثلهم. وفي هذا الانتصار العظيم نظم أبو تمام بائيته المشهورة التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحدّ بين الجدًّ واللعبً
كان أبوه هارون الرشيد مهيبًا قويًا أشم أبيًا, لما هدده «نقفور» ملك الروم في رسالة وجهها إليه, رد الرشيد عليه برسالة صدّرها بقوله «من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلي نقفور كلب الروم....» وقاد بنفسه جيش المسلمين وأنزل بالروم هزائم ساحقة.
وورث المعتصم هذه الروح وتلك الملامح الشامخة عن أبيه: كتب إليه ملك الروم رسالة يهدده فيها, فرد عليه برسالة يقول فيها «... أما بعد: فقد قرأت كتابك, وسمعت خطابك, والجواب ما تري, لا ما تسمع, وسيعلم الكفار لمن عقبي الدار».
ولا تكونوا كالمستعصم
أما المستعصم (609 - 656هـ) فقد تولي الخلافة بعد أبيه المستنصر العباسي في جمادي الآخرة سنة 640, وكان - كما وصفه ابن طباطبا - مستضعف الرأي, ضعيف البطش, قليل الخبرة بأمور المملكة, مطموعا فيه, غير مهيب في النفوس, ولا مطّلع علي حقائق الأمور, وكان يقضي زمانه بسماع الأغاني والتفرج علي المساخرة... وكان أصحابه مستولين عليه, وكلهم جهال من أرذال العوام...».
هذه كانت صورته: خليفة ساقط الهمة, عديم الحزم, ضائع الهيبة, همه في حياته المتع والملاذ وجمع المال, دون شعور بالمسئولية والخطر الزاحف إليه من قًبَل التتار. لذلك سيطر عليه وملك قياده وزير خائن اسمه «مؤيد الدين العلقمي الرافضي», قال عنه بعض معاصريه: .. أهلك الحرث والنسل, ولعب بالخليفة كيف أراد, وباطن التتار (أي راسلهم سرًا), وناصحهم, وأطمعهم في المجيء إلي العراق, وأخذ بغداد». وتوالت رسل العلقمي الخائن إلي التتار, يطمعهم في البلاد, ويسهّل عليهم ذلك, وطلب منهم - في المقابل - أن يكون نائبهم في حكم العراق, فوعدوه بذلك, وتأهبوا لقصد بغداد. كل ذلك والمستعصم تائه في لذاته, غارق في متعه لا يطلع علي الأمور, ولا يدري, ولا يهتم بما يدور ويحاك حوله.
وفي المحرم سنة 656, وصل التتار إلي بغداد, وهم مائتا (200) ألف يقودهم هولاكو, وهزم جيش الخليفة هزيمة نكراء. وأقنع العلقمي الخائن المستعصم بأن يسعي العلقمي للظفر بالصلح, وخرج إلي هولاكو, واتفق معه علي القضاء علي الخليفة والخلافة, وعاد العلقمي إلي المستعصم لينفذ المخطط الحقير, فنقل إليه أن هولاكو قد رغب في أن يزوج ابنته بأبي بكر بن المعتصم, ويبقي في منصب الخلافة, وبعد تمام الزواج ينصرف هولاكو بجيوشه عن بغداد والعراق.
وأشار علي الخليفة بالخروج إلي هولاكو, فخرج إليه ومعه هدايا كثيرة من الدر والجواهر وغيرها, ومعه جماعة من الأعيان, فأنزلوه في خيمة. وأخذ العلقمي يدعو جماعات الفقهاء لشهود عقد الزواج, وقتلهم التتار جميعًا, ولم ينج منهم عالم أو أمير أو حاجب أو كبير عظيم. وسحقت بغداد علي مدي أربعين يومًا, وبلغ عدد القتلي ألف ألف نسمة أي مليونًا من البشر. أما المستعصم فقتله التتار رفسًا, أي دوٍسًا وركلاً بأقدام التتار. وبذلك أسدل الستار إلي الأبد علي الدولة العباسية بمصرع المستعصم. أما الوزير الخائن فلم يتم له ما أراد, وذاق من التتار الذل والهوان, ولم تطل أيامه بعد ذلك فأدركه الموت ذليلاً حقيرًا بعد أن خسر الدنيا والآخرة.
...
إنها صورة لحاكمين أنجبتهما بغداد, يفصل بينهما أكثر من أربعة قرون, عاشا علي طرفي نقيض, حقق الأول انتصارات من أعظم ما تحقق في تاريخ المسلمين, وحقق الثاني هزيمة ساحقة قضت علي الدولة وقتلت وشردت الملايين.