البحث عن وطن قومي للعربي في أرضه1

البحث عن وطن قومي للعربي في أرضه (1)

بقلم: الدكتور جابر قميحة

[email protected]

قد يبدو عنوان هذا المقال غريبا مثيرا, ولكن يعلم الله أنني ما أردت غرابة, ولا قصدت إثارة, ولكني حرصت -ابتداءً- علي تصوير واقع نعيشه -نحن العرب- وتقييم هذا الواقع برؤية نأمل أن تكون صادقة, لا قصور فيها, ولا غلوّ ولا إسراف, ونحاول بهذه الكلمات أن تكون الرؤية شاملة حتي لا يفلت من دائرة النظر شريحة تنقض حكما -أو جزءا من حكم- خلصنا إليه بالاستقراء والوقوف, والتأمل, وهذا يقتضينا استصحاب بعض المعطيات اللغوية والتاريخية ذات الصلة الوثيقة بموضوع المقال. وأعتقد أن الوقوف عليها ضرورة ملحة في عصرنا الذي نعيشه, وخصوصا بعد قيام "الميمونة" سنة 1952. ذلك العصر الذي تاهت فيه الحقائق وضاعت فيه القيم, واختلت فيه المعايير, وضيعت فيه الأمانة, وكثر فيه الخبث, ووُسّد فيه الأمر غير أهله, ونري من ملامحه -كما قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- شحا مطاعا, وهوي متبعا, ودنيا مؤثرة, وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
تعالوا نعرف معني الوطن
الوطن -في كليمات كما نصت معاجم اللغة- هو محل الإنسان, ومكان إقامته ومقره, وُلد به أو لم يولد. ووصف الوطن القومي من الأوصاف المستحدثة -وهو ذو ارتباط سياسي وتاريخي نعرض له فيما بعد- يوسع من دائرة الوطن, وينقله من المفهوم الفردي إلي المفهوم الجماعي ليكون محل إقامة دائمة معتبرة لقوم أو جماعة تلتقي علي عقيدة معينة أو مصالح مشتركة, أو وحدة الجنس... إلخ.
وكتب الأدب غاصة بدرر عن حب الوطن, والولاء له والشوق إليه في حالي الابتعاد والاغتراب, وكان من أسبق أبيات الشعر إلي حافظتنا ونحن أطفال قول أحمد شوقي:
وطني لو شُغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
ومن أقدم ما قيل في الولاء للوطن والاعتزاز والتمسك به قول ابن الرومي الشاعر العباسي:
ولي وطنى آليتُ ألا أبيًعَهُ
وألا أري غيري لهُ الدهرَ مالكا
وأنبه القارئ إلي أن ابن الرومي لا يقصد بالوطن المفهوم المشهور الدارج, ولكن يقصد به بيته الذي استولي عليه ظلما وعدوانا واحد من "ذوي الحيثية" فشكاه للوالي "سليمان بن عبد الله" بقصيدة من أربعة وعشرين بيتا, تحدث فيها عن شبابه الناعم في منزله هذا, وعن ألفته له كأنه روحه أو جسده. فبعد البيت السابق مباشرة يقول:
عهدتُ به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
فقد ألفَتٍه النفسُ حتي كأنه
لها جسدى إنٍ بانَ غودرتُ هالكا
الإسلام .. ومفهوم جديد
كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب وطنه مكة, ويروي عنه -صلي الله عليه وسلم- أنه قال ما معناه مخاطبا مكة: والله إنك أحب بلاد الله إليّ, ولولا أن أهلك اخرجوني ما خرجت.. ويقال إن أحد الصحابة وصف مكة أمامه وهو في المدينة, فظهر التأثر علي وجهه وقال له: "... دع القلوب تقر".
فلما أصبحت مكة تربة رافضة للإسلام ذلك النبت الجديد. واشتد الإيذاء علي المسلمين أذن الله لهم بالهجرة إلي الحبشة, هاجر منهم اثنان وثلاثون, وفي الهجرة الثانية ثلاثة وثمانون, وعلل النبي -صلي الله عليه وسلم- اختياره الحبشة مهجرا بأن فيها "ملكا لا يُظلم عنده أحد". وكان هو أصحمة النجاشي الذي أواهم وأكرمهم . وبهذا الاختيار وهذه المقولة, يفتح رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عيوننا علي مفهوم جديد "للوطن", فلم يعد الوطن هو تلك الرقعة من الأرض التي يسكنها جماعة من الناس ويتعايشون فيها, وهذا هو المفهوم العادي الدارج السائد آنذاك, ولكن الوطن -كما أشار النبي صلي الله عليه وسلم- أصبح ذا مفهوم "قيمي".. فهو "وطن" بما يسوده من قيم العدل والتكافل والأمن والسلام.
وهذا المفهوم "القيمي" للوطن أرساه, ورسَّخه القرآن الكريم في سورة قريش, وهي مكية بلا خلاف.
الوطن وإشباع حاجات الإنسان
يقول تعالي:
{لإيلاف قريش  إيلافهم  رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنم من خوف } [قريش: 1-3].
والنظر المتأني لهذه السورة يقودنا إلي تبين الحقائق الآتية:
1- أن المذكورات فيها جاءت علي سبيل التمثيل لا الحصر, فذكر "الطعام" جاء تمثيلا للحاجات المادية. وذكر الأمان والشعور بالطمأنينة جاء تمثيلا للحاجات النفسية. يدل علي هذا ما ذُكر في سور وآيات أخري من ألوان النعم المتعددة: كإنزال الماء, وتسخير الأرض للزراعة, والبحر للتنقل, ومصدر من مصادر الطعام والحلي, والزواج لحفظ النوع, واستشعار المودة والرحمة والاستقرار والسكينة, وغير ذلك كثير وكثير.
2- أن الآيات ربطت بين تحقيق هذه الحاجات وإشباعها من ناحية, وبين السعي والتنقل والعمل من ناحية أخري, وذلك بالإشارة إلي رحلة الشتاء والصيف.
3- أن الآيات ربطت بين هاتين النعمتين -المادية والنفسية- وقيمة روحية عليا هي عبادة الله دون سواه, ويُستأنس لذلك بأن الله جعل البيت مثابة وأمنا. قال تعالي: )ا
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْء)(القصص: من الآية57). وأن هاتين النعمتين كانتا استجابة لدعوة إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام: ) رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)(ابراهيم: من الآية35), {..... ) رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(ابراهيم: من الآية37)
يقول الإمام الطبري: وكان أهل مكة تجارا, يتعاورون ذلك شتاء وصيفا, آمنين في العرب, وكانت العرب يُغير بعضهم علي بعض, ويقطعون طريق القوافل. وكان القريشيون إذا رحلوا قالوا: نحن من حرم الله فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية   وذلك لمكانة البيت فى نفوس هؤلاء جميعا.
والشعور بالطمأنينة والأمان والسلام النفسي يمنح الإنسان طاقة قوية للعمل والإنتاج والتقدم, وفي هذا المعني يقول (ديورانت): "... والحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق, لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف تحررت من نفسه دوافع التطلع, وعوامل الابداع, وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهض للمضي في طريقه إلي فهم الحياة وازدهارها" (قصة الحضارة 1/4).
العدل أساس الوطن والمواطنة
فالعقيدة السليمة النيرة البانية, والعمل الشريف والسعي الدائب, وإشباع الحاجات المادية من طعام وشراب وملبس وسكني, والحاجات المعنوية من تمتع بالعدل, والطمأنينة والاستقرار والسلام.. هذه المعاني والقيم في صورتها الصادقة النقية لا تكون الأرض وطنا إلا بها, وأهمها -بعد العقيدة السمحاء- العدل, ومازالت ترن في آذاننا وقلوبنا كلمات رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يوجه المسلمين للهجرة إلي الحبشة: "فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد":
- فبالعدل يتساوي المواطنون وينال المواطن حقه غير مغبون.
- وفي ظل العدل يشعر المواطن بالطمأنينة والأمان, ويعمل بهمة ونشاط, مع حبه عمله وإقباله عليه.
- وبالعدل يُخلص المواطن الولاء لوطنه, والحب والتقدير لحاكمه, ويسير في طريق التقدم المطرد إلي ما هو أحسن وأفضل علي المستويين الفردي والجماعي.
والظلم ظلمات ومهالك
وإذا كان هذا هو شأن العدل وآثاره علي الأفراد والمجتمعات تقدما وبناء ونهوضا, فإن الظلم يقف علي الطرف النقيض. قال تعالي -في حديث قدسي- "يا عبادي, إني حرّمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرما, فلا تظّالموا".
وقد نزلت الآيات تتري تُظهر عاقبة الظلم في الدنيا, منها علي سبيل التمثيل:
)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) ].
)وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) (الانبياء:11) - {¤ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)(القصص: من الآية59) .
ونلاحظ أن الآيات السابقة تتحدث عن عاقبة "ظلم جماعي", فهل يعني هذا أن هذه النتيجة لا تتحقق إذا ما كان الظلم محصورا في الحاكم أما الرعية فهي المطحونة تحت وطأة هذا الظلم? وفي الإجابة على هذا السؤال نستأنس بقوله تعالي: )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25)
ونستأنس بسؤال السيدة
زينب رضي الله عنها لرسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "... يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون? قال: نعم, إذا كثر الخبث" (والخَبَث بفتح الأول والثاني: الفساد والرذائل).
حالات.. وأحكام
وتواجهنا في هذا المجال عدة حالات, ولكل حالة حكمها:
الحالة الأولي: أن يكون الظلم آفة عامة وخليقة سائدة في المجتمع كله حاكما ومحكومين. وتكون النتيجة انهيار المجتمع كله وسقوطه.
الحالة الثانية: أن يكون الحاكم هو المستقل بآفة الظلم في مواجهة الرعية, فإذا كانت الرعية رافضة لهذا الظلم, مقاومة له بقدر ما تستطيع, وقع الوزر علي الحاكم. وإن أدي ذلك إلي إصابة المجتمع بالضعف والتأخر, لانصراف الناس عن أداء أعمالهم, وضعف إنتاجهم تحت وطأة الظلم والاستبداد.
أما إذا رضيت الرعية بظلم الحاكم, وأقرته, واستسلمت له, فجريمتها كجريمة الظالم في حكم الله. يقول تعالي:
{ انالَّذِينَ  تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الارص قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا .) (النساء 97) , فأقل ما يجب أن يفعله المظلوم, أن يهجر وطن "الظلم والجبرية" إلي أرض يجد فيها الأمن والسلام, ويستطيع أن يعبد فيها ربه, ويؤدي رسالته, ويحصّل فيها عيشه. كما فعل المسلمون بهجرتيهم إلي الحبشة, ثم بهجرتهم العامة إلي المدينة )وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) .