الجامعات السورية: منارات تجهيل؟!
الجامعات السورية: منارات تجهيل؟!
د. حمزة رستناوي
أتذكر في شتاء 1994 حيث فوجئنا بإعلان في كلية الطب جامعة حلب عن موعد لمحاضرة إضافية سيلقيها الدكتور وجي السباعي أستاذ علم الأدوية و العقاقير الساعة الثالثة ظهراً, و هو الأستاذ المشهور بهمته العالية,و محاضراته الإضافية و الباكرة دائماً,حيث تبدأ حوالي السابعة صباحاً, أي قبل ابتداء الدوام الرسمي بساعة كاملة ,و لكن الشغف العلمي قادنا إلى موعد الظهيرة المحتوم, و كان الحضور دسماً بعون الله, و لكن فجأة و بدل أن يدخل الدكتور وجيه قام الزملاء أعضاء المكتب الإداري للإتحاد الوطني لطلبة سوريا و آخرين لم أتعرف ليهم بإغلاق أبواب المدرج الجامعي وتنبيه الطلاب من مغبة الهروب لأنه سوف ينعقد لمؤتمر السنوي للإتحاد في المدرج و هناك العديد من الضيوف الدسمين.
أتذكر و بعد عام من هذه الواقعة و في أحد الأيام المخصصة للتدريب الجامعي تم إبلاغنا فوياً بضرورة الدخول إلى المدرج الكبير , و أنه سيكون هناك تفقداً اسمياً , و كل من يتغيب عن لحضور سيتعرض للمسائلة و العقوبة , فرئيس الجامعة سوف يحضر مع أعضاء قيادة فرع لجامعة للحزب , و أعضاء المكتب الإداري للإتحاد الطلبة , و سيكون مهرجاناً خطابياً ركزياً مناسبة حرب تشرين التحريرية .
أتذكر الدكتور يوسف إبراهيم و هو في مختبر الأدوية في جلسة عملية , و هو يبتدئ الجلسة لعملية بكلمة " تخيلوا "تخيلوا لو أن هناك فأراً و حقناه بمادة المورفين و قمنا بتسخينه على فيحة معدنية , فإنه سوف يتأخر شعوره بالألم .
تخيلوا لو أن هناك قطعة من أمعاء أرنب و ربطنا نهايتيها بخيط , و أضفنا مادة الأستيل ولين إنه سوف.......
تخيلوا لو أن لدينا عضلة حمراء مخططة و حقناها بمادة السوكسنيل كولين و قمنا بإجراء خطيط عضلات كهربائي لها فإنه سوف .......
أتذكر عميد كلية الطب الأستاذ الدكتور منذر بركات أستاذ جراحة جهاز الهضم المادة المقررة في الفصل الثاني للسنة الرابعة , و أتذكر أنه بعد ما يزيد عن ثلاث أشهر و انتهاء العطلة لصيفية و بدء الدوام في السنة الدراسية الجديدة , و لم تصدر بعد نتائج امتحان مادة الجراحة "2" , و أن هناك العديد من الزملاء لا يعرفون مصيرهم معلقين بين السنة الرابعة و الخامسة نتظرون فرج الله و صدور النتائج , مما تسبب في إشكالات تخص الوضع القانوني لهؤلاء لزملاء . ؟!
فهل تغير الواقع كثيراً إلى الآن ؟!
في إطار تنظيري بحت يمكن وصف الجامعات و المعاهد الرسمية بأنها منارات ترفد المجتمع بالخبرات العلمية و التقنية و النقدية , و تعمل على إنتاج و تصدير الباحثين و العلماء و المفكرين في القطاعات المختلفة للمعرفة , لأنها و ببساطة صممت ليكون لها هذا الدور الريادي , و هي الأماكن الجدير بها أن تبقي على الحوار المفتوح و الحر بين الباحثين من جميع الاتجاهات و المشارب , ففي الجامعة يمكن للمتدين أن يحاور العلماني أو الماركسي على قدم المساواة , و يمكن للأبيض أن يحاور الأسود أو الأصفر على قدم المساواة , و يمكن للطالب الغني أن يحاور الطالب الفقير المعدوم على قدم المساواة و من المفترض بالجامعات أن تملك فضاء من الحرية يتيح المجال للمناقشة التعددية و الخلافية المبدعة في النهاية , فدائماً نسمع عن اكتشاف الدواء الفلاني أو الفيروس الفلاني في مخابر جامعة ما , و كذلك نسمع عن صدار موسوعات علمية أو اجتماعية أو اقتصادية تحت إشراف مجموعة من الباحثين في جامعة أخرى , وكذلك نسمع عن صياغة نظرية جديدة في النقد الأدبي على يد أحد الأساتذة المدرسين في جامعة ما , و كثيراً ما نسمع عن اعتصام الطلاب الجامعيين للمطالبة بحقوق تخصهم , أو تخص الجماعة في الإطار الوطني , و كثيراً ما ذكر لنا الأجداد عن المظاهرات المطالبة بالاستقلال و الجلاء المنطلقة من الحرم الجامعي في جامعة دمشق , أو المظاهرات المطالبة بالإفراج عن الزملاء الطلاب المعتقلين من قبل السلطات , أو المظاهرات المعارضة للانقلابات العسكرية , و المطالبة بالديمقراطية و الحريات العامة , أو المظاهرات المتفاعلة مع
ما يحدث في الساحة السياسية العربية من رفض حلف بغداد إلى العدوان الثلاثي على مصر, إلى المظاهرات المنددة باتفاقيات السلام العربية – الإسرائيلية و التطبيع و لكن للأسف فقد انطفأت هذه المنارات ؟!
بالتأكيد لم تنطفئ لنفاذ الوقود , أو لموت بروميثيوس سارق النار , بل انطفأت بفعل فاعل عن سبق إصرار و ترصد . حيث نظر إليها من قبل السلطة الحاكمة كمصدر تفريخ للمشاغبين , وحجر عثرة في وجه تحقيق مجتمع التقدم و الاشتراكية المنشود , و نظر إليها من قبل الأخوان المسلمين كحقل خصب لزراعة أفكارهم و الترويج لها بغية الوصول إلى السلطة.وفي النهاية تم اتخاذ القرار بتحويل الجامعات إلى مؤسسات موالية , إلى منارات لا تشع إلا الحداد , منارات تشعل نهاراً و تطفئ ليلاً , منارات يقصدها طلاب المستجدين طلباً للشهادة الصفراء و فرص العمل والرزق و السترة , لا طلباً للعلم و المستقبل الحضاري على الصعيد الشخصي والوطني , منارات وضعت خطأً وسط أبنية إسمنتية بلهاء و شوارع إسفلتية عمياء , يحيط بها و يعمل على سدنتها عمداء هبطوا من سترة الحزب و النضال , ودكاترة قضوا سنوات عسلهم في منتجعات الدول الاشتراكية الصديقة قبيل انقراضها , وطلاب لا هم لهم إلا تطبيق البنات و تشفيط السيارات , و طالبات يقتربن من هذا المضمون إنها منارات تجهيل لا تشع المعرفة إلا عرضاً , فكلية جامعية مصممة لتعليم و تأهيل مئة طالب يدخلها سنوياً خمسمائة طالب , فطاولة التشريح في مخبر الجثث مصممة لفئة طلابية لا تتجاوز العشرة يلتف حولها و على عدة دوائر الطلاب , الدائرة الأولى وقوفاً و الثانية وقوفاً على رؤوس الأصابع و الثالثة وقوفاً على الكراسي , و الدائرة الرابعة وقوفاً على الطاولات المجاورة , و سعيد الحظ من يتاح له رؤية الشريان الفلاني أو العصب العلّاني بالعين المجردة .
و تم إضافة مقررات جديدة تشمل الثقافة القومية الاشتراكية و اللغة العربية و التدريب العسكري بغية خلق جيل وطني ثورجي, وكذلك من أجل تصنيع طلاب يفورون بالوحدة و الحرية و الاشتراكية , طلاب عروبويون جداً , و ربما طليعة جنرالات يتقنون فن الرمي الدبابة و الكلاشنكوف و ملئ أوقات فراغهم تحت المظلات في معسكرات التدريب الجامعي الصيفية . و تم تسمين الطلاب السوبر وطنين من حملة البكلوريا بإطعامهم علامات و درجات إضافية تؤهلهم الدخول في الكليات التي يشتهون , ابتداءً بدورات المظليين و دورات الصاعقة و المعسكرات الإنتاجية و درجات الأعضاء العاملين في الحزب و الشبيبة , و أبناء الهيئة التدريسية و أبناء الشهداء و أبنا حملة وسام الجمهورية , و درجات الطلاب المدعومين المزورين في امتحانات الشهادة الثانوية . أهكذا يتم ربط الجامعات بالمجتمع ؟!
يتخرج الطالب " الطبيب " من كلية الطب و لم يمسك إبرة الحقن الوريدي بعد و يتخرج الطالب " المهندس " و هو يخاف من محرك السيارة و يتخرج الطالب من كلية الأدب العربي وهو لا يدري هل انقرض الشعر العربي في عام 1950 أم إنه استمر بعد ذلك و يتخرج الطالب من كلية الأدب الإنكليزي , وهو لا يستطيع التلفظ بجملة إنكليزية مفيدة عندما يفاجئه سائح و جده عاثراً في الطريق و يتخرج الطالب من كلية الجغرافيا , وهو يتأتأ ليلاً نهاراً آن شروق الشمس , و موعد أفول القمر مستفسراً عن المسابقة للتوظيف و أمين فرصة عمل و يتخرج الطالب " الفقيه المحدث " من كلية الشريعة ليجد نفسه و فجأةً في العصور الحديثة,و أنه لا يرى الصحابة و الشافعي و أنس بن مالك في الشارع و مقاهي المدينة فعلى مستوى المؤسسات تبدو الجامعات السورية مثلها مثل أي جامعة في العالم، فهناك أبنية ومخابر ومقررات دراسية وامتحانات وحلقات بحث وشهادات، ولكن على المستوى الإبداعي والبحث العلمي(علوم تطبيقية-بحتة- إنسانية) تبدو الجامعات السورية متمايزة تماماً عن جامعات العالم المعاصر ،فلو جلس رئيس جامعة البعث وتشرين وحلب وجامعة دمشق في مجمع أو مؤتمر علمي عالمي فماذا لديهم ليقدموه ؟!!!!!! .
بالتأكيد ليست المشكلة في الطالب، فالفرد (الطالب) السوري لديه إمكانيات كامنة عديدة وفي مناحي متعددة ، ولكنه في ضوء تخلف المنظومة التعليمية الجامعية السورية يتم العمل على إبراز وجه واحد لهذا الطالب يدخله في مناخ السلبية واللامبالاة ، ولكن هذا الفرد (الطالب) السوري ما إن يغادر أرض (الوطن)حتى تُفعّل إمكانياته الكامنة في إطار منتج وفاعل مما يجعلنا نفاخر بالسوريين المغتربين ، فنحن ليس لدينا شيء، وفي الوقت نفسه نملك كل شيء، فإلى أي مدى نحن مجرمين بحق مجتمعنا ومؤسساتنا.
و لنتساءل الآن لماذا يعبث " الوطن " بأعز ما يملك , و هل الجامعات السورية مختبرات تجارب ؟!
عميد الكلية يتم تعينه بقرار فوقي , و رئيس القسم يتم تعينه بقرار فوقي , و الموافقة على أطروحة الدبلوم أو الماجستير أو الدكتوراه تحتاج إلى موافقات من مؤسسات داخل و خارج الجامعة .
وأخيراً سأعود عشرة سنوات في الزمن لأتذكر أنه أشد ما كان يقلقني أثناء الدوام وحضور المحاضرات الجامعية هو عدم وجود دورة مياه نظيفة و صحية تليق بكلية الطب وأطباء المستقبل .
قديماً قيل إذا أردت أن تأخذ فكرة عن رقي مؤسسة أو منشأه ما و حضاريّتها عليك أن تذهب إلى دورة مياهها, فهناك تكمن الإجابة