جبلة... مدينة التاريخ والمعاصرة...

جبلة... مدينة التاريخ والمعاصرة...

تاريخ متجذر بالعراقة

سلوى عباس‏

جبلة..تلك العجوز المتجددة الشباب..تلك المدينة الجميلة الفواحة بالشذى، التي تشيع في الروح مزيجاً من السحر والألفة يتغلغل في وجداننا، ويأخذنا في عالم المتعة والنشوة..حيث تستقر وادعة دون استكانة، ومتواضعة باعتزاز..ونظراً لأهميتها التاريخية والأثرية، فقد القى الباحثان: ملاتيوس جغنون وعمار تبريزي محاضرة في مهرجان عاديات جبلة عرّفا من خلالها بهذه المدينة الصغيرة بمساحتها، والكبيرة بروحها وحياتها...وهي تقع وسط الخليج المفتوح الذي يرسم خط اللاذقية قلعة المرقب الساحلي، وتفصلها عن اللاذقية مسافة ثمان وعشرين كيلومتراً..وقد حافظت على اسمها المشرقي الأصلي مع بعض التحريف البسيط منذ نيف وثلاثة آلاف عام، فقد عرفت باسم جبعلا..أما في العصور ما بين المكدوني قبل المسيح بثلاثمئة وثلاثين عاماً، وبعد المسيح بثلاثمئة وثلاثين عاماً مروراً بالأدوار السلوقية والرومانية ثم البيزنطية التي تلت العصور الكلاسيكية، فقد أصبح اسمها يلفظ على شكل «جابالا» لانعدام حرف العين في اللغتين اليونانية واللاتينية. وحسب دراسة الباحثان، فإن أقدم ما عرف عن تاريخ جبلة أنها تبعت مملكة أوغاريت أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ثم أنها تعرضت وعبر عصور متلاحقة للكثير من الغزوات والاجتياحات، وعند قدوم الاسكندر المقدوني عام 333قبل الميلاد الى الشرق كانت من جملة المدن التي آلت اليه، وبعد وفاته في بابل كان وريثه في سورية سلوقس الأول مؤسس السلالة السلوقية التي دامت حتى عام 64 قبل الميلاد حين أتى بومبيوس، وبقدومه أصبحت جبلة جزءاً من الامبراطورية الرومانية، مثل بقية مدن شرقي المتوسط، والى الدور الروماني يعود انشاء مسرحها الأثري الشهير، كما يعود الى الدور السلوقي الذي سبقه تخطيط الجزء الأكبر من المدينة القديمة. تبعت جبلة وجميع مدن سورية الى الامبراطورية الرومية الشرقية لتدخل في ما أصبح يعرف بالدور البيزنطي في العام 324م، وقد نشطت مدينة جبلة بشكل لافت في هذا الدور، وازدهرت واشتهرت بتجارتها الواسعة، وبضاعتها الممتازة من الأقمشة المتنوعة، ويسلط الباحثان الضوء على تاريخ جبلة المسيحي نظراً لندرة ما عرف أو كتب عنها، حيث يبدو من الظاهر ان جبلة قبلت البشارة المسيحية باكراً في أواسط القرن الأول الميلادي، على غرار ما حصل في ارواد التي زارها الرسول بولس، فأصبحت اسقوفية تابعة لاقليم سورية الأولى الذي كانت عاصمته انطاكية، وقد عرفت أسماء عشرة أساقفة ممن تعاقبوا على الكرسي الأسقوفي ما بين عامي (325و553م) . وفي عهد الدولة الحمدانية أصبحت جبلة من أعمال حلب، وبعد سيف الدولة أي في العام 968م هاجمها الامبراطور البيزنطي «نيكيفوروس الأول فوكراس» المعروف باسم «نقفور» في كتابات الاخباريين العرب، فسباها ودمرها وأحرقها، دون ان يحتلها، وفي عام 976 الميلادي احتلها الامبراطور «يوحنا سيبيسيز» المعروف بابن «الشبشقيق». وفي 1051 استردها القاضي «أبو محمد منصور ابن حسين التنوخي» بمساعدة جلال بن عمار صاحب طرابلس التي كانت آنذاك جارية بحكم بني عمار أمناء الدولة الفاطمية في طرابلس، وأصل هؤلاء من بني كتاجة المغربية. واندفعت جحافل الفرنجة في عام 1098 بقيادة ريمون ديزانجيل كالسيل الجارف وحاصرها لمدة عشرة أيام، فاستبسل قاضيها «أبو محمد» وأهالي جبلة من مسيحيين وعرب ومسلمين على حد سواء في الدفاع عنها، ولم تسقط، وانتهى الأمر الى اتفاق بين الطرفين، وفي عام 1099 حاصرها الفرنجة ثانية وكان يحكمها وقتذاك القاضي ابن صليحة الذي أدرك انه لن يتمكن من مقاومة الفرنجة ورد الخطر عنها فسلمها الى سلاجقة دمشق مقابل اعطائه الأمان عن نفسه وماله، فكان ان سقطت بأيدي الفرنجة الذين جعلوها مركز أبرشية لاتينية، وبدل الفرنجة اسمها الى «زيبل» وقد حررها صلاح الدين الأيوبية عام 1188، ثم ان المماليك الذين خلفوا الدولة الأيوبية، وتركوا بصماتهم على المدينة، لاسيما منهم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي الذي بنى فيها جامعه المنصوري، بعد ان كان حررها ثانية من أيدي الفرنجة عام 289 حيث ان هؤلاء أعادوا احتلالها بعد صلاح الدين..وسقطت المدينة بيد السلطان العثماني سليم الأول في عام 1516، وكان ان جعلها العثمانيون أحد الألوية الخمسة التابعة لقيادة طرابلس وهي طرابلس-حمص-حماه-سلمية-جبلة وفي هذا الدور ازدادت جبلة إهمالاً وفقراً، وفي عهد السلطان سليمان القانوني أصبحت جبلة مركزاً لسنجق تابع لولاية طرابلس، وبقيت تعاني الاهمال والعوز أكثر من 100 عام، وفي عام 1624 تعهد الأمير فخر الدين المعني بدفع مئتي الف ليرة ذهبية للباب العالي، فأنعم عليه الباب بولاية سورية من حدود حلب الى حدود القدس، وجاء هذا الأمير الى جبلة حيث استقبله أهلها استقبال الفاتحين وقدموا له نفقات ثلاثة أيام، وعدداً كبيراً من الخيول، وشكوا له أحوالهم وضيق عيشهم، فطيب خاطرهم بالوعود التي لم ينفذ منها شيئاً...وفي عام 1920 وضعت جبلة تحت الانتداب الفرنسي، وبقيت كذلك حتى عام 1946 حيث أسفرت الثورة السورية الكبرى عن جلاء الفرنسيين عن الأراضي السورية بشكل عام.

-أهم المعالم الأثرية في جبلة وبعد ذلك تعرفنا مع الباحثين على أهم معالم جبلة الأثرية، الباقية حتى اليوم..وأهم سماتها هي مدينة جبلة القديمة التي مازالت تحافظ وبكثير من المصداقية والأمانة على مخططها القديم المتوارث عن الدور الهلنستي وما قبله...حيث توجد منطقتان أساسيتان متمايزتان فيه، وهما المنطقة المجاورة للميناء القديم وتتمثل بأحياء المريج، الصليبة والجامع-مجتمعة أي المنطقة الممتدة من شارع المريج شمالاً حتى بساتين البحر جنوباً..أما المنطقة الثانية فهي بقية المخطط، وهنا يمكننا رصد بعض الفروق الواضحة بين هاتين المنطقتين والتي تتمثل بما يلي: الأمر الأول: -ان المنطقة الأولى المحيطة بالميناء هي الأقدم، لأن مدن الساحل كانت تنشأ أساساً حول الموانىء الطبيعية ثم تتوسع مبتعدة عن الميناء، وهذا ينطبق على كافة المدن المرفأية الساحلية القديمة على كامل حوض المتوسط، وتعتبر منطقة شرقي المتوسط أفضل الأمثلة على ذلك، بينما المنطقة الثانية وجدت بحكم التوسع الذي طرأ على مدينة جبلة في الدورين الهلنستي والروماني. والأمر الثاني هو أن اشكال العقارات في المنطقة الأولى أصغر بشكل عام وأقل انتظاماً، بينما في المنطقة الثانية تميل اشكال العقارات الىالشكل المستطيل والمربع المنتظم، وهي أكبر من عقارات المنطقة الأولى.. والفرق الثالث يتجلى بمحاور العقارات في المنطقة الأولى والتي لا يلتزم توجهها بالجهات الأربع الرئيسية، فهو عشوائي يعتمد مسارات الأزقة الملتوية والمنكسرة والمتعرجة، والتي تتجمهر حولها هذه العقارات، وهذا يرشحها بقوة لأن تكون موروثة عن النسيج العمراني القديم للمدن في الدور الكنعاني الساحلي القديم. أما في المنطقة الثانية فيلاحظ التزام محاورها بالجهات الأربع «شمال-جنوب-شرق-غرب». وهذا يرشحها ان تكون وريثة التخطيط الهلنستي اليوناني والروماني بعده.. ثم انتقل الباحثان بنا الى المعالم والأوابد الأثرية الباقية في المدينة حتى هذا التاريخ والتي يتصدرها المسرح الأثري لمدينة جبلة، وهو من أهم المسارح الأثرية المكتشفة في سورية حتى الآن، وهو بحالة سليمة، ويحتل الموقع الرابع في الأهمية من حيث سلامة بنيانها، وقدرته على استيعاب المتفرجين بعد مسارح بصرى وتدمر وشهبا، وأكثر التخمينات رواجاً ان بناءه يعود لأواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلاديين، وهو يوافق بتصميمه العام ما هو معروف عن مسارح العالم الكلاسيكي من يونانية سابقة ورومانية لاحقة.

كان المسرح بحالته الكاملة قبل التخريب يتسع لقرابة 6000 متفرج، والصحن المدرج يتكون من ثلاثة نطاقات..السفلي يحتوي على أحد عشر صفاً من الدرجات، والوسطي على اثني عشر صفاً، في حين ان العلوي لم يبق منه لليوم إلا أربعة صفوف، ويقدر الأثريون ان العدد الاجمالي للصفوف كان (35) صفاً، ينتهي الأخير منها برواق معمد مسقوف على غرار مسرح بصرى. لذلك هناك شبه تأكيد على ان المسرح استخدم حصناً في الأدوار البيزنطية والاسلامية والصليبية، ومن هنا أطلق على المكان اسم القلعة التي يعرف المسرح باسمها حتى الآن وبحسب شهادة «شيخ الربوة الدمشقي» اثناء زيارته لمدينة جبلة «فإنه كان فيها مقر لملك له سرداب يركب الراكب فيه تحت الأرض الى ظهر السفينة في البحر»..وربما يكون هذا مرد الاعتقاد السائد والمتواتر لدى أهل جبلة بأن مغارة البابين المحفورة في أسفل الكتلة الصخرية التي يقوم عليها الآن مبنى مديرية ميناء جبلة متصل بسرداب طرفه الآخر في القلعة أو المسرح، لكن التنقيب الأثري لم يتحر هذه المسألة بعد، وله فيها الكلام الفصل. وكما هو الحال في كل مدينة تاريخية هناك علامة فارقة تميزها، فإن ما يميز مدينة جبلة هو «جامع السلطان ابراهيم» وهو حسب ما روي عنه أنه أمير عربي، ورث إمارة خراسان عن أبيه، وعن أسباب زهده فقد تعددت الروايات لكن أشهرها ما أورده الاخباري الدمشقي «ابن عساكر» وخلاصتها..أن هاتفاً غيبياً ناداه وهو خارج من صيد مع بعض أصحابه قائلاً: يا ابراهيم أفحسبتم انما خلقناكم عبثاً وأنكم الينا لا ترجعون» ثم عاوده الهاتف بنداء ثان وثالث، فشد لجام فرسه ووقف حائراً من شدة الجزع، وإذا بالنداء يتكرر للمرة الرابعة، فآمن آنئذ أنه صوت الحق، ونذير من رب العالمين، فرجع الى أهله، وألقى حلل الامارة وحليها وأخذ أطماره ولف جسمه بها، وهام على وجهه، ثم انه نزل بلاد الشام وارتحل فيها على نطاق واسع، ويبدو أنه ألقى عصا التسيار من الساحل السوري ولا سيما في جبلة قبل ان يلاقي وجه ربه الكريم، ويبدو ان الشيء الوحيد الذي تتفق حوله المصادر هو تاريخ وفاة السلطان ابراهيم المحدد عام 1778 الميلادي، وبالنسبة للجامع المنسوب اليه والذي يضم مكان رقاده الأبدي فإن المصادر تشير ان الجامع مبني على أنقاض كنيسة قديمة شيدت في عهد الامبراطور هيراقليوس الذي حكم بين عامي 611-641 للميلاد. ومن المواقع الأثرية والهامة أيضاً الجامع الكبير أو الجامع المنصوري الذي يشغل مكاناً هاماً في قلب المدينة القديمة، وهناك اعتقاد ان هذا الجامع أقدم من جامع السلطان ابراهيم، كون موقعه عند تصالب الشارع الرئيسي مع الشارع المعترض الرئيسي يرشحه لأن يكون موقع المعبد الوثني في الدورين السلوقي والروماني قبل الدور البيزنطي حيث تحول الى الكاتدرائية الكبرى، لكن الدافع لدى الأغلبية بالاعتقاد ان جامع السلطان ابراهيم هو الأقدم فيعود الى مقارنتهم أقدم كتابة على هذا الجامع والمؤرخة عام 1025م بأقدم كتابة موجودة على الجامع المنصوري الكبير والمؤرخة عام 1095م لكن منطق الأمور حسب رأي الباحثين لا يشترط بالضرورة ان تكون أياً من هاتين الكتابتين معاصرة للانشاء الأول لأي من هذين الجامعين، وبالتالي لا يمكن اعتمادها كأساس موثوق يعكس أقدمية أحدهما على الأخر. ويعتبر الحمام المجاور للجامع المنصوري من المواقع التاريخية في جبلة، ومعروف لدى العامة باسم «الحمام الجديد» لكن اسمه الآخر هو «حمام التصاوير» ويبدو ان مرد هذا الاسم يعود الى الرسوم والزخارف النافرة التي كانت تزين حوائقه وقبته الرئيسية فيما سلف حسبما يمكن الاستنتاج مما تبقى من هذه الزخارف اليوم، وحسب ما أكد آخر سليل لمالكيه اليوم..والحمام مملوكي العهد والطراز، وهو نموذجي بمعنى أنه يحتوي على كافة عناصر الحمامات المملوكية سواء بأسلوب تخطيطه أو بطريقة بنائه، وقد شيده الحاج «محمد المطرجي» في زمن المالك المملوكي الناصر بن محمد قلاوون الصالحي..وكان ختام جولتنا على آثار جبلة الشاهدة على عراقتها وتجذرها التاريخي هو التعرف على مدافنها القديمة، والتي تنتشر على طول الشاطىء الصخري لجهة الشمال من موقع نادي نقابة المعلمين باتجاه حي الجبيبات، وأيضاً الى جهة الجنوب في حي العزة، ومن المواقع الأثرية في جبلة قديمها وحديثها..ساحة السرايا ومبنى السرايا أو دار الحكومة القديمة وحي عثمانية بطابقها الأرضي، ومن دور الانتداب الفرنسي في طابقها العلوي..وهناك أيضاً دار علي أديب، ويعود طابقها الأرضي الى الدور العثماني، أما الدور العلوي فإلى فترة الانتداب الفرنسي: وشاهد آخر على أبنية الدور العثماني المتأخر تلك الدار الكائنة في حي الصليبية ، وتحمل عتبة مدخلها نقشاً جميلاً في نظم شعري من سبعة أسطر مؤرخ عام 1294هجرية المعادل للعامين 1881-1882 ميلادي..وهي تعبير عن جمالية هذه الدار والأمجاد التي توالت عليها وتقول هذه الأشعار:‏

دار مجد نورها المولى المبين لاح منه درة للناظرين‏

منزل الاقبال والاسعاد بل منزل الأفراح والعز المكين‏

أسست أركانها أيدي العلا ومن العليا لها حصن حصين‏

قد بنى حسين منها ذروة ونجم الأفق منها يستبين‏

وبدا صبح الأماني مشرقاً قائلاً بشرى لكل الوافدين‏

وأتى التاريخ أعلى كرماً ادخلوها بسلام آمنين‏

دام طول الدهر مرفوع الذرا بالنبي المصطفى طه الأمين‏

وختم الباحثان محاضرتهما بالحديث عن مناقب البطل الثائر الشهير الشيخ «عز الدين القسام» الذي تلقى علومه في زاوية الامام الغزالي بجبلة وتابع علومه في الأزهر بالقاهرة فتتلمذ على يد الشيخ «محمد عبده» أحد أهم رواد النهضة العربية الحديثة، وأصبح بعد عودته خطيب صلاة الجمعة في الجامع المنصوري قبل مجاهرته بمشروعه الثوري ضد الوجود الأجنبي والصهيوني في وطننا العربي. وطالب الباحثان «انطلاقاً من أهمية مدينة جبلة التاريخية والأثرية» أهالي جبلة الحفاظ عليها وتطويرها وحسن استثمارها معاشياً وخدمياً واجتماعياً وسياحياً، وتضافر الجهود الرسمية والشعبية لتحقيق تلك الغاية، وأشادا بالدور الريادي لجمعية عاديات جبلة في هذا المجال..