لا.. لأبناء الرؤساء!!
لا.. لأبناء الرؤساء!!
د:جابر قميحة
اغتال أبو لؤلؤة المجوسي خليفة المسلمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفي
ساعات احتضاره أشار عليه بعض المسلمين أن يستخلف ابنه عبد الله ليكون خليفة
للمسلمين من بعده, ولكنه رفض, وقال «والله لا أحملها حيا وميتا».. أي:
يكفيني أن أحاسب علي أمور الحكم وسياستي في حياتي, فإذا ما أسندت الخلافة
لابني سئلت وحوسبت علي ما تقترف يداه, لأنني آثرته علي غيره من المسلمين.
وكان من سياسة عمر رضي الله عنه أن يحاسب الولاة عن سلوك عمالهم. ومصدر هذه
المسئولية أن الولاة هم الذين اختاروهم بأنفسهم, وخطأ العامل ينم علي سوء
اختيار الوالي الذي كان عليه أن يتوخي الحذر والدقة في الاختيار.
ومن كلماته في احتضاره «والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها
لا أجر لي, ولا وزر علي».
أما عبد الله بن عمر الذي أشار بعضهم علي عمر باستخلافه, فقد عاش طيلة
حياته مسلما نموذجيا.. كان عالما حافظا فقيها, وكان حريصا من صغره علي
الجهاد. وحاول أن ينضم لجيش المسلمين في بدر, ولكن النبي صلي الله عليه
وسلم رده لصغر سنه, إذ لم يجاوز الثالثة عشرة من عمره آنذاك, ورده كذلك يوم
«أحد» للسبب نفسه فعاد, وهو يشعر بحزن عميق, ولم يذهب عنه حزنه إلا قبول
النبي صلي الله عليه وسلم في غزوة الخندق في العام الخامس من الهجرة.
وكان رضي الله عنه من أشد الناس اتباعا لرسول الله صلي الله عليه وسلم حتي
في أعماله اليومية, حتي قالت السيدة عائشة رضي الله عنها «ما كان أحد يتبع
آثار النبي صلي الله عليه وسلم في منازله كما كان يتبعه عبد الله بن عمر».
وعاش ابن عمر بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم أكثر من ستين عاما, وظل
طيلة حياته تقيا نقيا زاهدا, قواما, صواما. وعنه قال طاووس «ما رأيت رجلا
أورع (أي أكثر ورعا) من عبد الله بن عمر».
وروي عن أبي سلمة «كان عمر في زمان له فيه نظراء, وكان ابن عمر في زمان ليس
له فيه نظير».
وقال عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنه «ما منا من أحد أدرك الدنيا إلا
مالت به, ومال بها, غير عبد الله بن عمر». ومع ذلك رفض عمر رضي الله عنه أن
يستخلفه من بعده.
***
تذكرت هذه الواقعة, وأنا اقرأ أن بعض رؤساء الجمهوريات العربية يعدون أبناء
ليخلفوهم في الحكم, ورأيت وسائل الإعلام تسلط عليهم أضواء كثيفة. ونهض
المنافقون وحملة المباخر والمنتفعون من الأنظمة الحاضرة يقدمون الأسانيد
والمبررات لاستخلاف الأبناء:
قالوا: إن أبناء الرؤساء نشئوا في بيوت أصيلة كريمة, تعلموا فيها فنون
السياسة علي أيدي آبائهم, وهم بهذا التشكيل العقلي والنفسي يعدون أكثر
الناس قدرة علي القيام بمهام السياسة, وتحمل أعبائها, أي أنهم تعلموا «فن
الرياسة» من «بيت الخبرة الحاكم» أي من منبعها الأصيل.
وقالوا: إن اختيار ابن الرئيس للرياسة يحقق الأمن والاستقرار, ويقضي علي
حمي التطاحن والصراع بين الآخرين من طلاب الحكم.
وقالوا: إن هذا النظام «الجمهوملكي» يوفق بين محاسن النظامين الملكي
والجمهوري: فهو يحقق الاستقرار الذي يحققه النظام الملكي بتوريث الحكم, -إذ
يقضي علي شهوة التطلع إلي الرياسة ممن يقفون خارج البيت الحاكم الذي حسم
الأمر, وحصره في ابن الرئيس-وهو كالنظام الجمهوري- يعطي الشعب حق ابداء
رأيه - موافقة أو رفضا - في ابن الرئيس.
وقالوا: إن كل الدساتير العربية ليس فيها نص واحد يمنع أبناء الرؤساء من
التقدم لشغل كرسي الرياسة.
ثم إن «توريث الحكم» يكاد يكون غائبا في هذه الحالة, لأن ابن الرئيس لا
يتولي الحكم إلا بالانتخاب أو الاستفتاء المباشر أو غير المباشر, أي أنه لن
يكون رئيسا إلا بإجازة الشعب مباشرة, أو عن طريق ممثليه في المجالس
النيابية.
وقالوا: إن منع أبناء الرؤساء من هذا الحق يعد افتئاتا عليهم, وغمطا لهم,
فهم «مواطنون» يتقدمون لهذا المنصب باعتبارهم مواطنين كفل لهم الدستور
حقوقهم الاجتماعية والسياسية, لا باعتبارهم أبناء رؤساء, ولكن باعتبارهم
مواطنين, ومن حق الشعوب أن ترفضهم, وتقدم غيرهم عليهم.
***
وقد تبدو هذه الحجج وجيهة في ظاهرها. ولكن الواقع العملي يقول غير هذا:
فأبناء الرؤساء ليسوا فلتات, ومواهب مجسدة في الثقافة والوعي السياسي
والاجتماعي حتي يكونوا أجدر الناس بمنصب الرياسة. ففي شعوبنا عشرات الألوف
ممن يفوقونهم علما وثقافة وخبرة وقدرة علي إدارة شئون الحكم.
كما أن استقرار أمور الوطن لا علاقة له بصورة النظام ملكيا كان أو جمهوريا,
بل يرجع إلي شعور المواطن بآدميته, وتمتعه بالحرية الحقيقية في التفكير
والتعبير.
والقول بان الباب سيكون مفتوحا لمن يريد أن يرشح نفسه للرياسة من أبناء
الشعب بصرف النظر عن مكانه الاجتماعي, هذا القول يعد مضحكا, لأن الذين
يقولونه يخادعون أنفسهم, ويخادعون الشعب, فعمليا لن يجرؤ أحد علي ترشيح
نفسه, وإذا اجترأ فلن تمكنه «حكومة الرياسة» من الحصول علي أصوات تزيد علي
1% لأن الرئيس الجديد يجب ألا تقل أصوات «نعم» عن 99%.
ومن مساوئ هذا النظام «الجمهو ملكي» أن هذا الابن «المحروس» لن يتخطي في
سياسته الدرب الذي اختطه أبوه, بل سيفخر بأنه ما جاء إلا للسير علي درب
أبيه, واستكمال مسيرته.
والشعوب كلها تعلم - علم اليقين - أن الرئيس ابن الرئيس يجعل همه الأول
إسدال ستار صفيق علي مساوئ حكم الوالد ومظالمه وخطاياه.. ويا ويل الألسنة
والأقلام التي تحاول الكشف عن حقيقة «الرئيس المرحوم».
ومن يدري? فقد يستخلف الرئيس الجديد ابنه من بعده, وبذلك يتحول النظام
«الجمهو ملكي» إلي نظام ملكي خالص بالتدريج, وخصوصا أن رؤساءنا لا يتركون
الحكم إلا بالموت أو الاغتيال, أي يحكمون مدي الحياة, وهي أهم سمات النظام
الملكي. وإنا لله وإنا إليه راجعون. ورحم الله عمر بن الخطاب.