سورية بلد العجائب
سورية بلد العجائب
د.إسماعيل الحامض
كثيرة هي العجائب والمفارقات في سورية ، ولايخلو منها قطاع أو مهنة ،ويتعامل معها الناس بالحديث عنها لتدعيم فكرة أو للتعبير عن الامتعاض من ممارسات الحكومة والسلطة ، دون الإدراك والتنبه للمخاطر المستقبلية التي تتهدد المجتمع نتيجة للانعكاسات السلبية لمثل هذه المفارقات ، ومن هذه المفارقات ما يحدث لمهنة الطب ولمهنة الصيدلة ، هذه التخصصات التي يحلم بها طلابنا ويبذلون جهوداً غير قليلة للحصول على معدلات عالية تؤهلهم لدراسة هذه الاختصاصات في الجامعات السورية والتي وصلت إلى معدل 99 % لدخول كلية الطب البشري هذا العام .
آآخر موضة بدعة سورية بامتياز في عصر العلم والشفافية حيث يمكنك الحصول على شهادة الطب البشري والصيدلة وطب الأسنان وأي شهادة أخرى تريد وأنت جالس في بيتك أو تمارس أعمالاً أخرى بدون تحمل عناء العمل في المخابر ودراسة الخلية والتشريح وفزيولجيا أجهزة جسم الإنسان ، مطلوب منك أن تدفع لجامعات أصدقائنا السابقين في الدول التي كانت اشتراكية ، اوكرانيا أرمينيا روسيا .......... ،تدفع أقساط الجامعة ومبالغ من أجل النجاح ومبالغ أخرى مقابل عدم الدوام !
مأساة حقيقية ( وعلى عينك يا تاجر ) فهذا موظف في سورية ويدرس الطب في أرمينيا وذاك مزارع يعمل في أرضه طيلة العام وبنفس الوقت يدرس الصيدلة في اوكرنيا وآخر يحمل شهادة ثانوية عامة فرع أدبي يدرس طب الأسنان ، وشاب طموح لم يستطع الحصول على شهادة الثانوية العامة في بلده تجاوز واقعه واشترى شهادة ثانوية أجنبية واختار الفرع الجامعي الذي يريد ، الشهادة الجامعية جاهزة من اللحظة الأولى لكن ينقصها دفع المبالغ المطلوبة وانقضاء الزمن اللازم للحصول عليها ، وبعض الزيارات الترفيهية لتلك الدول والتمتع بجمال الطبيعة والتعرف على صديقة , ووضع خاتم تلك الدول على جواز السفر ، وهنا تكون الصورة قد اكتملت ، والآن تحصل على ورقة عليها أختام وتواقيع تثبت أن صاحبها أصبح طبيباً ؟
ماذا بعد الحصول على الشهادة الجامعية القانون السوري يفرض على حامل الشهادة الجامعية من خارج سورية أن يتقدم لامتحان يسمى ( معادلة الشهادة ) والذي بموجبه تصبح هذه الشهادة صالحة للاستخدام داخل سورية ، كيف سيجتاز حامل شهادة وهمية في الطب أو الصيدلة امتحاناً وخاصة عندما يكون هذا الامتحان بمستوى امتحان وزارة الصحة السورية ، من المؤكد أن هذا الأمر في غاية الصعوبة حتى عند الذين درسوا بجد في الدول الاشتراكية السابقة ، حتى الآن هناك أعداد ليست قليلة من هؤلاء الخريجين اجتازوا هذا الامتحان وتخصصوا في المشافي السورية وقسم يمارس مهنة طب الأسنان والصيدلة ، كيف عادل هؤلاء شهاداتهم وهل حقيقة عندهم القدرة العلمية لاجتياز امتحان جديّ ؟ هذا السؤال موجه لوزارة الصحة السورية ، فالاشاعات تقول أن معادلة شهادة الطب يُدفع لقائها مبلغاً يصل إلى(300000) ليرة سورية و(200000) ليرة سورية لشهادة الصيدلة ، يبدو أن التسعيرة واضحة ومحددة؟ لمن تُدفع هذه المبالغ ؟ لا أدري ، لكن الذين تهمهم القضية يتداولون هذه الأرقام ويبحثون عن مفتاح يوصلهم إلى الجهة القابضة ، والقضية تفوح رائحتها كقضية فساد من نوع خاص .
عودة إلى الماضي في بداية سبعينيات القرن الماضي حدثت مفاوضات بين الحكومة وحزب البعث الحاكم من جهة ونقابة الأطباء من جهة ثانية وكان الحزب والحكومة يعملان على تأميم مهنة الطب على الطريقة الاشتراكية حيث يُغلق الأطباء عياداتهم ومشافيهم الخاصة ويعملون في المشافي الحكومية ووافق ممثلوا النقابة على هذا االأمر لكنهم تمسكوا بشرط الرواتب حيث وضعوا حداً أدنى للرواتب يتجاوز خمسة أضعاف رواتب الجامعيين في تلك الفترة ، وفشلت المفاوضات ، المهم في هذه القصة ما قاله عضو القيادة القطرية المكلف بالتفاوض مع ممثلي النقابة عند فشل االتفاوض حيث قال مهدداً :
ستندمون على موقفكم هذا وسيأتي يوم تترجونا من أجل أن تعملوا في مشافي الدولة براتب مثل بقية الموظفين . أعتقد أننا وصلنا لهذا اليوم منذ زمن طويل ، فبفضل سياسة الاستيعاب دخلت أعداد كبيرة إلى كليات الطب والصيدلة منذ بداية السبعينات ، وبدأت الأحزاب توفد دارسين من أعضائها حتى لو كانت شهادتهم الثانوية أدبية أو شرعية ، والوزارات أوفدت طلاباً لصالحها ، وجامعات الصداقة الاشتراكية لم تبخل علينا بالشهادات ، وبحلول عام 1980 اجتاحت كليات الطب في سورية موجات من الشبيبة والمظليين قذف بهم رفعت الأسد إلى هذه الكليات بغض النظر عن معدلهم في الشهادة الثانوية ، ومع انهيار منظومة الدول الاشتراكية وانتشار الجامعات الخاصة وتزايد ظاهرة الدراسة المأجورة توجه عدد كبير من طلابنا للدراسة في هذه الدول بعيداً عن المعايير العلمية والقانونية ،وفي هذه الجامعات بدأت الدراسة عن بعد حيث كانت تقتصر على منح شهادة الدكتوراة للقادة والسياسيين ، ومن ثم أصبحت هذه الجامعات تبيع شهادة الدكتوراة لأي شخص يدفع ، ومن ثم امتدت لتشمل الشهادات الجامعية العلمية كالطب والصيدلة ........
مقارنة بسيطة قبل حوالي شهر تحدث السيد وزير التعليم العالي في سورية لصحيفة الحياة وذكر في حديثه (الذي تطرق لعدة قضايا) أن نصف أساتذة الجامعات السورية من خريجي الدول الشرقية (الاشتراكية سابقاً). وأعتقد أن هذا الرقم ينطبق على كليات الطب السورية ، وقبل عشر سنوات نشرت جريدة تشرين السورية خبراً يقول : منعت اسرائيل أربعة آلاف طبيب يهودي من ممارسة مهنة الطب قبل أن يخضعوا لدورة تأهيلية مدتها أربعة أعوام ، وهؤلاء الأطباء هم من اليهود الروس ومن يهود أوربا الشرقية هاجروا إلى اسرائيل بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية ! وكانوا أطباء ممارسين وأ ساتذة جامعيين في بلدانهم السابقة ؟ لا أعرف الغاية من نشر هذا الخبر قد تكون من أجل التشفي بهؤلاء المهاجرين أو من باب إدانة ممارسات الكيان الصهيوني ، ما أعرفه أن قسماً من هؤلاء الأطباء كانوا ممن منحوا شهادات لأطبائنا وأساتذتنا الجامعيين في جامعات الدول الاشتراكية السابقة ، وأن اسرائيل التي تسعى ليل نهار من أجل تشجيع هجرة هؤلاء اليهود لكنها لم تسمح لهم بممارسة مهنتهم قبل إعادة تأهيلهم ؟ مفارقة تستحق التوقف!
مستقبل مهنة الطب العمل الطبي يتعلق مباشرة بحياة الإنسان وبالحفاظ عليها في أحسن شروطها ، وتأتي قبل كل الخدمات الأخرى من حيث الأهمية والحساسية ، وجميع دول العالم تعمل على تأهيل الأطباء بشكلٍ صارم وعلى مراقبة مستواهم بشكل دوري وحثهم على رفع سويتهم العلمية ومتابعة كل جديد في العلوم الطبية وهذه القضية غائبة تماماً في سورية وتقتصر على بعض المؤتمرات والندوات النظرية والتي يغلب عليها الطابع الدعائي والاستعراضي ، وبدل أن نساعد الأطباء ونشجعهم من أجل الحصول على دورات تدريبية في جامعات العالم المتقدم ، نقبل شهادات عليها كثير من إشارات الاستفهام متجاهلين مستوى تأهيل أصحاب هذه الشهادات ،دعونا نتصور هذا الطبيب الذي حاز على شهادته بطرق غير قانونية أقلها الرشوة ، ووصل لممارسة المهنة عبر أقنية الفساد ، كيف سيكون حال ضميره المهني ، وكيف سيكون مستواه الأخلاقي في تعامله مع الإنسان المريض كموضوع لمهنته ؟ ويمكننا بعد ذلك تصور الحالة السيئة التي وصلت إليها مهنة الطب اليوم والحالة الأكثر سوءاً في المستقبل وخاصة مع تزايد هجرة الأطباء السوريين إلى اوربا ودول الخليج العربي .
سؤال لمن يهمه الأمر:
ما هو موقف نقابة الأطباء من هذه الظاهرة ، وما هو موقفها بشكل عام من مهنة الطب ومستقبلها ؟ وهل تمثل هذه النقابة من ينتمي إليها ، وهل تقوم بدورها في حماية الأطباء والعمل على رفع مستواهم العلمي والأخلاقي ،والرقي بمهنة الطب وتنقيتها من الشوائب ، أم أن دور النقابات يقتصر على التسجيل والمحاسبة المالية وضمان ولاء الأطباء للقيادة السياسية؟
ما هو موقف الأستاذ الدكتور محمد إياد الشطي وزير الصحة (وهو طبيب وأستاذ جامعي ومن أهم أطباء التشريح المرضي في سورية ) من هذه الظاهرة ، وما هو موقفه إذا ما أصبح أحد هؤلاء الزملاء ممثلاً عنه في نقابة الأطباء ؟ وما هو إحساسه إذا ما كان الطبيب المعالج لأحد أحفاد سيادته (لا سمح الله ) واحد من الذين تحدثنا عنهم ؟
ما هو موقف الأستاذ الدكتور هاني مرتضى وزير التعليم العالي وهو أيضاً طبيب وأستاذ جامعي إذا ما جاء إلى وزارته أساتذة من هؤلاء الذين يشترون كل شيء ويبيعون كل شيء ؟
وأخيراً ماهو موقف كل طبيب يحترم ذاته ويحترم مهنته ويحترم إنسانيته كإنسان من هذه الظاهرة ؟
الرأي/ خاص