الانتخابات الفلسطينية أبعاد الحدث وحقيقة الصراع

الانتخابات الفلسطينية أبعاد الحدث وحقيقة الصراع

حسن الحسن- لندن

alhasan@al-nahda.com

تشغل الانتخابات الفلسطينية بال كل من هو مهتم بشؤون الشرق الأوسط وتركيبته السياسية وما يخطط له، ولذلك كان ينبغي تسليط الأضواء عليها لإدراك أبعادها، محاولين استخلاص فهم غير متأثرٍ بغوغائية الإعلام وثرثرة ضيوفه المثقفين.

لقد توفرت الفرصة الملائمة تماما لطي ملف هذا الشرق الأوسط المعقّد وإلى الأبد. هذا ما بدت عليه الأمور لدى الإدارة الأمريكية، وهذا ما عقدت العزم عليه لإنجازه فعلا. يقول هنري كيسنجر " ساهمت أحداث دراماتيكية ثلاثة في إعادة صياغة دبلوماسية الشرق الأوسط التي بدت محتضرة ، وفتحت الطريق أمام مبادرة دبلوماسية أميركية كبيرة وهي: اعادة انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش، رحيل ياسر عرفات، وتعهد رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون بالانسحاب من غزة ، وتفكيك المستوطنات اليهودية هناك. وتمثل الدبلوماسية الناجحة ائتلافا بين الضرورة والصدفة."

ولذلك قامت أمريكا بدفع جميع أطراف الصراع المفترضين إلى طاولة المفاوضات، حتى تحسم صراعاً سبّبَ لها صداعاً وباتت بحاجة ملحة لإنهائه، خصوصا بعدما توسعت رقعة أزماتها وتجددت آمالاها بإكمال رؤية مسيرة المحافظين الجدد في العالم، والتي تحتاج تركيزا كبيرا منها واهتماما بما هو قادم.

 من هنا جاءت الضغوط الأمريكية على النظام السوري الذي تجاوب معها سريعا، وأعلن على لسان تيري رود لارسن إلى استعداده التوجه إلى طاولة المفاوضات مباشرة من غير أي شروط مسبقة. ومما صرح به أيضا المبعوث الدولي " أن الرئيس السوري قد تخلى عن تمسكه بوديعة رابين"، تلك الوديعة التي طالما كان يتعاطى معها النظام السوري على أساس أنها نص مقدس. وأكد هذا التخلي وزير الخارجية المصري في مؤتمر شرم الشيخ مؤخرا أيضا.

  كما أعطى زعماء السلطة الفلسطينية الجدد، بقيادة أبو مازن الإشارة الواضحة إلى أنهم لن يمثلوا أي عقبة في طريق التسوية التي ترعاها الولايات المتحدة ، وكانوا قد برهنوا سابقا على ذلك . لذا رأينا الأنظمة التي تتبنى الرؤية الأمريكية للحل، قد قامت  بتوطئة واضحة لتفريغ الساحة السياسية الفلسطينية من أي معوقات تعرقل استلام محمود عباس بشكل سلس لزمام السلطة الفلسطينية، وذلك من خلال الانتخابات المزمع عقدها مطلع 2005 ، حتى يستطيع أن ينجز المهام الملقاة على عاتقه بشكل ديمقراطي!

 وهكذا نستطيع أن نفسر انسحاب مروان البرغوثي، صاحب الشعبية داخل حركة فتح وبعض الشارع الفلسطيني، من الترشح في المرة الأولى، ليفسح المجال تماما أمام أبو مازن لتسلق هرم السلطة، بل ودعا الجميع للوقوف وراءه.

 كذلك انسحبت من الانتخابات حركتا حماس والجهاد صاحبتا الثقل الشعبي، والمتناغمتان بشكل عام مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وإن لم تكونا جزءا منهما، إلا أنهما لم يقدما أنفسهما يوما على أساس أنهما بديلان عنهما، بل ويعتبرانهما المؤسسات الفلسطينية الشرعية، وخلافهما معهما متعلق بشكل ما يحصل وليس بجوهره. كما أنّه لا يوجد مانع مبدئي لديهما من خوض الانتخابات، ولو توافقتا على مرشح منهما لشكلتا حجر عثرة حقيقي أمام أبو مازن.

 ونفهم هذا الموقف من الحركتين على ضوء ما أعلنه القيادي في حركة الجهاد محمد الهندي ل ب ب س من غزة "أن رئيسي الحركتين خالد مشعل ورمضان شلح كانا قد اجتمعا في دمشق واتفقا على قرار الانسحاب (من خوض الانتخابات)، كما كانت الحركتان بصدد إصدار بيان مشترك في هذا الشأن لولا بعض العثرات التقنية". وهذا الموقف من الانتخابات يعني نجاح أبو مازن تلقائيا، بعد أن أخليت الساحة من أي منافس حقيقي له، سواء من حركة فتح التي رعت مصر تصفية الأمور فيها لصالح عباس، أو من حماس والجهاد التي رعت اجتماعهما سوريا والتي كانت تستطيع لو أرادت أن تقلب الأمور رأسا على عقب على أبو مازن وهي التي تأوي طيفا لا يستهان به من الحركات والتنظيمات الفلسطينية من ضمنها حماس والجهاد، ولكنها تماهت مجددا وكالعادة مع السياسة الأمريكية في المنطقة.

وهكذا نجد كيف حضّرت أمريكا أبو مازن لاستلام زمام الأمور، ليسير ضمن رؤيتها الصرفة لحل قضية فلسطين المتأزمة، والتي شغلتها مرارا وتكرارا وكانت محل نقد عالمي بسببها.

ويأتي إصرار أمريكا على الإتيان بأبو مازن رئيسا للسلطة على الرغم من أنه رجل عديم الشعبية. سواء بسبب تاريخه المخضرم في إبرام اتفاقيات كانت محل انتقاد واضح من أهل فلسطين، مرورا بتلك المواقف المذهلة في العقبة حيث تباكى على عذابات اليهود وأدان الإرهاب الفلسطيني، وليس آخرها شيوع أنه بهائي، وهذه لها وقعها السيئ على أهل فلسطين ذووي الغالبية المسلمة الساحقة، ولعل سادسة الأثافي، كانت في ختام مواقفه من عرفات الذي كال التهم لعباس وكنّاه بكرزاي فلسطين، وتبعه بعد ذلك نداء سهى عرفات محذرة من المستورثين وعنته مباشرة، مما زاد من تدهور رصيد أبو مازن الانتخابي المقفر أصلا.

 وبفضل الغطاء الأمريكي قام أبو مازن بجولة إلى عدة دول على اعتباره الرئيس القادم من غير أي اعتراض ذي قيمة. كما أن أمريكا باتت تتصرف وكأن الأمر بات بعهدتها تماما، وأن إنهاء عملية السلام أصبحت من وجهة نظرها مسألة بروتوكولية محضة، وأنها ستقوم بفرض رؤيتها على كل الفرقاء في المنطقة وستسوق إليها الجميع بما فيهم سوريا وإسرائيل.

  إلا أن إعلان مروان البرغوثي في آخر يوم ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، أفسد الأجواء وكركب الأوضاع وأربك المراقبين. وبدأت التصريحات المتذمرة من هذه الخطوة تنطلق ممن رعوا موضوع محمود عباس، ابتداء بكولن باول مرورا بحسني مبارك وليس انتهاء بعباس نفسه ورجالات اللجنة التنفيذية لحركة فتح الذين سئموا المراوحة في العملية السلمية وباتوا على قناعة بأنه لا بد من إلقاء القضية في حضن أمريكا وهي وحدها من سيأتي بالحل،  وبالتالي فما  عليهم سوى إرضاءها بتعيين الشخص الذي تحب وتريد.

 وهذه الخشية من البرغوثي تعود ظاهريا إلى ذلك الوهن الانتخابي الشديد الذي يعيشه أبو مازن، والذي لا تصفق له سوى بعض الأبواق التي تعبر عن شريحة المنتفعين المعروفة في الوسط السياسي الفلسطيني. 

  وممالم يعد سرا هو أنّ رجوع مروان البرغوثي عن تأييد أبو مازن، وإعلان نفسه مرشحا منافسا يرجع إلى عدم تنفيذ الصفقة التي وُعِدَ بها من قبل، والتي تتضمن إطلاق سراحه من السجن ومنحه بعض الصلاحيات ضمن التركيبة الجديدة للسلطة، لقاء أن يتنازل عن ترشيحه لصالح محمود عباس. ومن هنا أتت زيارة وزير الخارجية المصري ورئيس المخابرات قبل انتهاء مدة الترشيح بيوم إلى إٍسرائيل، واللذين عادا  بخفي حنين، وأمضيا صفقة تبادل الأسرى المخجلة من غير أن تشمل البرغوثي، وهكذا أفشلت إسرائيل مساعيهما.

 والحقيقة هي أن إسرائيل لن تجد أفضل من عباس للتفاوض معه، كما أنه مشهود له بقدرة غير عادية على التعاطي الإيجابي مع الأمريكان واليهود. إلا أن هذا لا يكفي الإسرائيليين، فهم يخشون أن تجرهم الولايات المتحدة إلى بعض التنازلات التي لا تتناسب مع نظرتهم لطبيعة دولتهم ودورها في المنطقة. ولذلك تحفظت على مبادرة الأسد استئناف المفاوضات ولو من غير وديعة رابين، لأنها تعلم أن أمريكا جادة هذه المرة في إبرام صلح في المنطقة، وأنها قد تجبرهم على بعض التنازلات لإتمام "عملية السلام". ولذلك يسّر شارون أمر ترشيح البرغوثي في اللحظات الأخيرة، مع أنه كان قادرا على عرقلته من غير ملامة له، خاصة وأن البرغوثي قد أعلن رجوعه عن الترشح مسبقا، بل ووقوفه خلف أبو مازن على الملإ،  كما أن أمريكا كانت ستسر جدا بذلك.

 ومن الواضح أن أمريكا ستضغط بقوة لإنجاح أبو مازن، الذي سارع بإجراء محادثات مع حماس في غزة إثر ترشح مروان البرغوثي، عرض عليها صفقة بدأت تضح معالمها شيئا فشيئا. كما أن حسني مبارك أكد بأن أبو مازن سينجح، ورأينا تهديدات بمنع الأموال والمناصب عن مناصري البرغوثي، بحجة خروجهم على قرار القيادة، كما هدد القدومي وهو رئيس حركة فتح بطرد البرغوثي نفسه إذا ما أصر الأخير على ترشحه. ولعلّ هذه الضغوط تدفع مروان البرغوثي إلى العدول عن رأيه من جديد محاولا استثمار الفرصة في عقد صفقة جديدة!

 ومن المهم إدراك أن أهمية موضوع البرغوثي لا ينطلق من الثقل الشخصي له في فتح ولا في شعبيته في الشارع الفلسطيني، فهذه في الإطار السياسي يمكن تجاوزها، ولكنّ وراء الأكمة أوروبا وتحديدا بريطانيا التي تصر على مشاركة أمريكا في قراراتها، وعدم تركها تسير في الدنيا منفردة برؤيتها حتى ولو كان ذلك فيما يتوافقان نظريا عليه.

 ومن هنا سنجد تقاطعا بين رغبة إسرائيل في خلخلة ما يسمى "التضامن الفلسطيني" المزعوم، مع أوروبا التي تدعم الكثير من المؤسسات والشخصيات الفلسطينية داخل فتح وخارجها، والتي ستعمد إلى دعم البرغوثي، الذي ستؤيده أيضا بعض الفاعليات و التنظيمات المسلحة داخل حركة فتح ككتائب الأقصى، مما يعقد المشهد الفلسطيني أمام أمريكا التي تريد أن تثبت في فلسطين كما في العراق أنها تستطيع فرض هيمنتها ورؤيتها وتفردها على العالم.

 ولعلّ هذا التعقيد، سيمنح إسرائيل بعض المتنفس لترتيب أوراقها ولتحديد كيفية التعاطي مع الترتيب الأمريكي الجديد المفترض للمنطقة كلها. خصوصا أنها دأبت النظر بقلق إلى كل ما يحوم حولها حتى ولو كان آتيا من حليفتها الصدوقة أمريكا. كما أنها ما زالت لا ترغب بتحقيق أي تسوية لم تصمم هي تفاصيلها و تضمن من خلالها مصالحها الاستراتيجية، راغبة بأن يمنحها أي تصور جديد للشرق الأوسط مزيدا من الغنائم بدلا من أن تتخلى عن بعض ما في يدها، خصوصا وهي ترى ذلك الوهن غير المسبوق في العالم العربي والإسلامي.

 وفي ظل عدم توفر عوامل جديدة في المنطقة أو حدوث مفاجآت غير متوقعة، كاشتعال الأحداث بشكل أكبر في العراق، أو حصول تغير جوهري في نظم الحكم القائمة في العالم الإسلامي لصالح إقامة دولة خلافة إسلامية في أكثر من كيان منها، فمن المرجح أن تستطيع أمريكا إذا ما توافقت  مع أوروبا العجوز، من فرض رؤيتها في المنطقة، وإلا فإنها ستتعثر كثيرا وستواجه عقبات لن يكون من السهل تجاوزها.

7/12/2004