جسر الحنين

  جسر الحنين

أحمد الخميسي

من تثقيف العسكر إلي عسكرة المثقف مع بزوغ ثورة يوليو سادت نظرية تفضيل 'أهل الثقة' علي أهل العلم والكفاءة وعلي هذا الأساس انتشر في كل ركن وموقع ثقافي وفي كل مؤسسة السادة الضباط، بدءامن لجان النشر الصغيرة إلي وزارة الثقافة التي ترأسها لفترة طويلة ثروت عكاشة، وفي الصحف كان أنور السادات رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية، وخالد محيي الدين رئيسا لتحرير المساء،

وتحكم الضباط في إدارة الإذاعة والتليفزيون والاتحادات الأدبية، وكان يوسف السباعي نموذجا لامعا في هذا المجال، وكان أولئك الضباط القابعون في كل مستوي يسعون لأن يصبحوا مثقفين، وأن يقرءوا،ويتابعوا، ويتعلموا، ويتصلوا بكبار الكتاب، إلا أن طبيعة 'الضباط' الكامنة فيهم كانت تظهر في أول خلاف، كما فعل أحدهم حين حاصر دار الهلال بالدبابات، وذات يوم أراد أحد الضباط المشرفين علي الإذاعة أن يمنع كل أغاني أم كلثوم لأنها من العهد البائد فما رأيك في هدمها؟. ومع ذلك كان ضباط الثكنات العسكرية يحاولون وإن بصعوبة أن يصبحوا مثقفين، لكن الزمن بين فشل نظرية 'أهل الثقة' من العسكر وعري طريقها المسدود.

وبحلول عصر السادات نقلت الدولة ثقلها إلي 'أهل الكفاءة' أي المثقفين ذاتهم، وبدلا من 'تثقيف العسكر' أخذت تعمل علي 'عسكرة المثقف' الأدري بلغة المثقفين والأقدر علي مخاطبتهم واحتوائهم وإغرائهم بذات الكلمات عن الشعر والثورة والالتزام والحرية وماشابه. وللمرة الأولي منحت الدولة الموسيقار محمد عبدالوهاب لقب لواء، الأمر الذي أثار سخرية مريرة من السعي لعسكرة النغم، وتقليص المبدع إلي صغيرة، لعسكرة الثقافة وخلق نمط جديد من المثقفين الذين يسعون لأن يكونوا عسكرا، ولم يعد المسئولون عن مختلف شئون الثقافة في الدولة ضباطا يتثقفون. ولكن مثقفين ينضبطون، ودورهم الأول والأخير احتواء الآخرين والتلويح بعقود النشر، والتأليف، وعضوية اللجان، والسفر، والمؤتمرات، والمهرجانات الصاخبة، فإذا لم ينفع كل ذلك، أسدلت ستائر التجاهل الكثيفة، وهكذا شاع نمط المثقف المنضبط، الذي إن أحسنت فهمه وجدته ناقدا، وشاعرا، وإن لم تفهمه كشر لك مبديا صورة أخري، أنظر حولي في كل المواقع الثقافية الرسمية فأجد في كل مكان تقريبا هذا النمط الجديد من المثقف، إنه صناعة محلية جديدة تجمع بين حسنات أهل الكفاءة وأهل الثقة. الضباط الذين سعوا إلي الثقافة كانوا واثقين من أن السلطة بيدهم لكانوا يحاولون تقديم وجههم الثقافي، أما المثقفون الذين تعسكروا، فإنهم يحاولون تقديم وجههم السلطوي بنبرات صوتهم. وتكفي نظرة سريعة متفحصة علي المواقع التي تتحكم في الشئون الثقافية في مصر، لتجد هذا النوع الجديد، المزيج من الرتبة والمعرفة، والذي يخفي وراء ظهره سيف المعز وذهبه، وعصا الدولة وجزرتها. والمثقفون الذين تعسكروا قادمون من كل الجهات: من الأكاديميات،ومن رحم تاريخ سابق، ومن جوف معرفة لم يكن لها ثمن فصارت مدفوعة الأجر، بألقاب علميةأو من غيرها. استحكمت الشمولية فيما مضي وراء عسكر يحاولون أن يتثقفوا، بينما تتواري الديمقراطية الآن خلف مثقفين تعسكروا. وقد حدث منذ فترة أن حضرت مؤتمرا ثقافيا بأحد الأقاليم، وجلسنا قبل افتتاحه مع المسئول، فأخرج بأدب جم كتابا له وأهدانا نسخا منه، ومع افتتاح المؤتمر فوجيء المسئول الشاعر المثقف بأحد الكتاب المشاركين في المؤتمر يناقش علنا من عند المنصة مشكلات الديمقراطية، وإذا بالمسئول يكشف عن وجه آخر تماما غير ذلك الذي طالعنا بأدب جم منذ ساعات قلائل متنهدا بهم وحزن الشعراء! فقد انقض المسئول علي الكاتب مهاجما بلا رحمة، وتبدد في حديثه الشعر تماما ولاح العسكر، وسمعت في صوته وهو يصيح نبرة قديمة لها ذكري عندي، فقلت لنفسي: انتقلنا من التنكيل البدني إلي التنكيل المعنوي بعد أن

نجحت الدولة في خلق نوع جديد من المثقفين!