لماذا التعتيم على دور الجيش العراقي في حرب تشرين الأول/أكتوبر؟!

لماذا التعتيم على دور الجيش العراقي في حرب تشرين الأول/أكتوبر؟!

فؤاد الحاج

لا يمكن لأي حر وشريف وهو يستذكر ذكرى الانتفاضة الباسلة إلا أن يعيد التذكير بوقع ومجريات الأحداث المتتالية منذ عام 1967 وصولاً إلى حصار العراق الجائر قبل العدوان الثلاثيني عام 1991 ومن ثم غزوه واحتلاله عام 2003، حيث يجد بأن كل ما تعرض له هذا البلد العربي من أذى وظلم هو بسبب إيمان شعبه بتحرير فلسطين وفعل قيادته الوطنية-القومية

من أجل تحرير كل شبر عربي مغتصب من الأراضي العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي ومن جبال طورورس إلى الصحراء الكبرى، واعتبار فلسطين القضية المركزية التي أمامها تهون كافة القضايا الأخرى.. وفي الوقت نفسه يجد كل حر وشريف أنه لا يمكن فصل الموقف الرسمي والشعبي العراقي واعتباره في سياق المزايدة السياسية إزاء الانتفاضة الفلسطينية الباسلة كما تفعل بعض الأنظمة العربية، وبعض الكتبة الناطقين بالعربية!.

ليس هذا من باب التمجيد بالعراق وقيادته وشعبه لأن الحقيقة والواقع تفسر ذاتها بهذا الخصوص.. فمنذ عام 1948 كان العراق البلد العربي الوحيد الذي لم يوقع اتفاقات هدنة مع العدو الصهيوني، ومقابر الشهداء في بلدة جنين في الأراضي المحتلة تروي الكثير من المآثر عن بطولات جيش العراق في فلسطين المحتلة، وفي حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو 67 كان العراق البلد العربي الوحيد الذي كانت طائراته العسكرية تدك مواقع العدو الصهيوني في داخل الأراضي المحتلة، وفي حرب تشرين الأول/أكتوبر 73 كانت جحافل القوات العراقية الوحيدة التي دخلت أعماق الأراضي المحتلة من ناحية هضبة الجولان المحتلة، في الوقت الذي كانت تعمل فيه القيادة العراقية من أجل تحرير ليس الجولان فحسب بل كل فلسطين، ومن ناحية سيناء كانت الطائرات العسكرية العراقية أول من اقتحم مواقع وخنادق العدو الصهيوني، هذا في الماضي البعيد القريب، ومنذ اللحظات الأولى لانطلاقة انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/سبتمبر 1998 فقد كان العراق السباق والأول في استنفار طاقاته وتكريس إمكاناته في سبيل تحرير فلسطين بدءا من القدس.. ولهذا كانت جهود العراق تصب وبسخاء سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي وعسكري لتحقيق ذلك إيماناً من قيادته وشعبه بأن تحرير فلسطين يتقدم جميع أولوياته الوطنية والقومية، وعلى ذلك يشهد السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973 على أن القيادة الوطنية-القومية في العراق لم تترك فرصة سانحة إلا وكان لجيش العراق البطل دوراً في مقارعة أعداء الإنسانية وقوى الشر المحتلة لفلسطين العربية..

وبهذه المناسبة ومن خلال متابعاتي لما أوردته وسائل الناطقة بالعربية على اختلاف ألوانها وشعاراتها، وخاصة المرئية منها، والمقابلات التي أجروها في تغطيتهم لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، لم أجد أي "خبير استراتيجي" أو "محلل عسكري أو سياسي" وحتى أي قيادي عسكري عربي أو لمعد أو مخرج تلفزيوني لتلك البرامج مع الأسف الشديد يملك الجرأة في قول الحقيقة لمجريات تلك الحرب من الناحية العسكرية والوثائقية، وكي لا نظلمهم فهم ربما يعتقدون أن ذلك يعتبر "سراً من الأسرار العسكرية الخطيرة" التي لا يجب أن يكشف عنها النقاب إلا بعد قرن من الزمن!!.. والأهم كما أعتقد يجب طرح عدد من الأسئلة مثل لماذا لم يجرؤ أي عسكري عربي أو محلل سياسي على طرح سؤال حول دور الجيوش العربية التي شاركت في تلك الحرب حتى لو كانت مشاركة رمزية لتلك الجيوش؟! ولماذا يتم التعتيم الكامل على دور الجيش العراقي في تلك الحرب كما في الحروب السابقة منذ بدايات القرن الماضي مع عدم الانتقاص من جيشي مصر العربية وسورية الأبية؟!.. وكي لا نطيل لائحة التساؤلات، يمكنني القول والتأكيد على الرغم من أنني لست بمحلل عسكري، بأن مشاركة الجيش العراقي في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 تعتبر حدثاً مجيدا في تاريخ النضال العربي وتاريخ الحروب بشكل عام، كما تعتبر من المشاركات الفريدة التي شهدتها الحروب. فلقد تمت دون تخطيط مسبق على صعيدي القتال أو الشؤون الإدارية، ونفذت بشكل مفاجيء سريع، وبمبادرة عراقية بحتة. وكان من المنتظر في مثل هذه الظروف أن تكون المشاركة رمزية أو محدودة على الأقل، ولكن العراق دفع إلى أرض المحركة ثلاثة أرباع قواته الجوية المقاتلة، وثلثي قواته المدرعة، وخمس ما يملكه من وحدات المشاة، وبدأ يعد العدة لإرسال المزيد من المشاة والدروع. وكان تركيزه على الإسراع بإرسال الطيران والدبابات نابعا من رغبة القيادة السورية في الحصول على هذين السلاحين قبل أي شيء آخر.

وبالإضافة إلى الحجم المادي الكبير للمشاركة العراقية، فقد كان هناك عامل ثان يتعلق بجوهر العمل العسكري الذي يتأثر عادة بطبيعة التحالفات وشدتها. ومن الواضح أن العراق لم يدخل الحرب لمصالحه الخاصة، إنما دخل الحرب كدولة معنية مستعدة لتقديم كل شيء، مع تجاهل لأي اعتبارات أخرى مسقطاً بذلك الحسابات القطرية في سبيل تحقيق الهدف القومي العام وتطلعات الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج.. ولو لم يعتبر العراق نفسه طرفاً معنياً، لما تمت حركة قواته بزخم وسرعة، ولاختفت الطبيعة الصدامية التي اتسمت بها القوات العراقي.

والعامل الهام الذي ميز المشاركة العراقية، هو أن القوة البرية- الجوية الكبيرة التي دخلت سورية، والتي كانت بحجم فيلق مدرع مدعوم بأربعة أسراب من الطائرات المقاتلة، لم يشكل قيادة ميدانية مستقلة، بل وضعت نفسها تحت تصرف القيادة السورية مباشرة، بغية تسهيل عمل هذه القيادة، وإعطائها قدرة على زج القوات في المعركة بأسرع وقت ممكن.. وهذه مسألة كبيرة الأهمية في ظروف حرب تشرين الأول/أكتوبر من الناحية العملياتية على أرض المعركة، ويمكن أن تسجل كمثل في التاريخ العسكري ولم يكتف العراق بإرسال سلاحه العسكري، ولكنه استخدم أيضا سلاحه الاقتصادي ضد أعداء الأمة العربية والمشاركين في نهب الثروات العربية. وقدم الشعب العراقي إلى الشعب السوري النفط والمساعدات الاقتصادية والذخائر ودبابات التعويض، واعتبر أن ما يقدمه جزء من حق الشعب العربي السوري في ثروات الأمة العربية ومن بينها ثروات العراق.

ورغم كل هذه الحقائق التي تؤكد أن العراق ذهب إلى الحرب على أساس أنها حربه، لا حرب حلفائه، وقدم كل ما يستطيع تقديمه في الظروف التي وضع فيها، فإن دور قواته المسلحة بقي مجهولاً لكل العرب تقريباً مع العلم أن البعض منها تحدث عن دور اللواء الأربعين الأردني ودور القوات الرمزية المغربية دون أي ذكر في وسائل الإعلام العربي عن دور تسعة ألوية عراقية تعادل دباباتها سبعة أضعاف الدبابات الأردنية، وتعادل مسافة انتقالها إلى ساحة المعركة عشرة أضعاف مسافة انتقال اللواء الأردني. ولسنا نريد من هذه المقارنة الانتقاص من بطولة جنود وضباط اللواء الأربعين الأردني أو دور القوات المغربية، ولكننا نريد التأكد على أن معظم وسائل الإعلام العربي حاولت أن تسرق من الجندي العراقي بطولاته، وأن تلقي بظلال الشك والريبة على مشاركة القوات العراقية في كل الحروب التي خاضتها تلك القوات في سبيل قضايا العروبة كلها وذلك خدمة لأعداء الإنسانية، واليوم وبعد احتلال العراق الكل لا زال يذكر أن أول عمل قامت به قوات الاحتلال الصهيو-أمريكية كان قرار حل الجيش العراقي البطل، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على الحقد الكبير والعميق لدى أعداء الأمة على جيش العراق وتاريخه النضالي.

لذلك مطلوب من كل الباحثين السياسيين والعسكريين الأحرار والشرفاء في البلاد العربية أن يضعوا الدراسات والكتب التي تكشف حقيقة المشاركة العسكرية العراقية في حرب تشرين الأول/أكتوبر، وحجمها، وأهدافها، والدوافع الكامنة وراءها.. التي تضع بين يدي الإنسان العربي الباحث والمؤرخ والكاتب والمحلل السياسي أو العسكري أو "الخبير الاستراتيجي" التي تبرز صورة لجانب من جوانب تلك الحرب، التي يتجاهلها الإعلام الناطق بالعربية، على الرغم من اعتراف المحللين العسكريين الغربيين، والصهاينة أنفسهم بقدرة جيش العراق البطل. وهذا ما دفعنا إلى الكتابة حول هذا الموضوع بعد أن استقيت المعلومات من شهادات عدد من القادة السياسيين العراقيين الذين صنعوا القرار السياسي وذلك من خلال الزيارات التي قمت بها للعراق منذ بداية العدوان الثلاثيني الغادر عام 1991، إضافة لبعض المراجع من الذين ساهموا في تخطيط العمليات العسكرية على الجبهة السورية، وشهادات من بعض الذين شاركوا في معارك تلك الحرب ببطولة رائعة، الذين كتب لهم شرف النصر دون أن يكتب لها شرف الشهادة.

وفي محاولتي هذه ألقي الضوء على كبد الحقيقة، للوصول إلى السمو إلى مستوى الحدث التاريخي.. ويقيناً إن الكتابة عن الأعمال الخالدة تبقى دائما محاولة دون مستوى الوصول إلى كبد الحقيقة، لأن تاريخ البطولات المسطر بالدم أبلغ من أي تاريخ مسطر بالمداد.. وأن مشاركة الجيش العراقي في حرب تشرين الأول/أكتوبر تستحق أكثر من هذه الكتابة من قبل المتخصصين في الشؤون العسكرية، تماما كما تستحق بطولات الجيشين المصري والسوري أكثر مما كتب عنها حتى الآن، رغم غزارة ما كتب عنها، كما تستحق أكثر من الأفلام والمسلسلات الاجتماعية التي صنعت في هذا المجال، يراد أفلام وثائقية كاملة..

إن القيادتين السياسية والعسكرية في القطر العراقي، وضعتا في موقف صعب جدا، نظراً لأن المخططين الأساسيين لحرب تشرين الأول/أكتوبر لم يطلعوهما مسبقاً على نواياهم، الأمر الذي جعل القوات المسلحة العراتية تدخل الحرب وسط شروط غير ملائمة ت حرمتها من إظهار كل الإمكانات والطاقات الكامنة فيها، وجعلت دورها- رغم كبره- أصغر بكثير من الدور الذي كان بوسعها أن تلعبه، لو أنها وضمت في شروط ملائمة كالتي وضعت بها القوات المصرية والسورية، خاصة وأن فاعلية القوات المسلحة لا تتعلق فقط بقوتها وكفاءتها الذاتية، ولكنها تتعلق أيضا، وإلى حد كبير، بالشروط المفروضة عليها خلال العمل.. وفي هذا الصدد أشير إلى التأكيد على ست نقاط:

أولا: أن الجيشين المصري والسوري والقوات العربية الملحقة بهما وهم (القوة المغربية في سورية، وجيش التحرير الفلسطيني في مصر وسورية، وكتيبة دبابات كويتية وجناح جوي عراقي في مصر).. قامت باستطلاع مسرح العمليات بشكل دقيق، ونظمت تنفيذ المهمات المحددة مسبقاً، في حين دخل الجيش العراقي الحرب في سورية على أرض لم يستطلعها، ونفذ واجباته من الحركة في محركة تصادمية تعتبر من أصعب أشكال الحرب وأكثرها تعقيداً.

ثانيا: تمركزت القوات العربية في منطقة التحشد قبل الحرب، ثم انطلقت منها لتنفيذ واجباتها مباشرة، على حين قامت القوات العراقية بواجباتها بعد تنقل طويل تراوح بين 1200 و1500 كيلو متر (حسب مكان تمركزها).

ثالثاً: كانت الشؤون الإدارية للقوات العربية (الإمداد، التموين، الإخلاء... الخ) تتم ضمن عمق المهمة اليومية للقوات المدرعة، ولا تتطلب جهدا استثنائيا خاصا، على حين كانت القوات العراقية المقاتلة في الجولان تؤمن معظم شؤونها الإدارية عبر قصبة التنفس الاستراتيجية الطويلة (بغداد- دمشق).

رابعاً: عملت القوات المصرية والسورية والقوات العربية المعززة لها بسياق عمل واحد جرى التدريب عليه قبل الحرب، بينما دخلت القوات العراقية الجوية والبرية المعركة بسياق عمل يختلف عن سياق عمل القوات السورية، ويـختلف عن سياق عمل اللواء الأردني الأربعين الذي يغطي جناحها الأيسر.

خامساً: لقد تم زج القوات البرية العراقية على الجبهة السورية الضيقة فقط. ولم يسمح لها باستخدام مجال عملها الواسع على الجبهة الأردنية العريضة، الأمر الذي حرمها من حرية العمل واختيار مكان الضربة، وجمل ضربتها غير المباشرة الموجهة إلى جيب "سعسع" في هضبة الجولان المحتلة تأخذ طابعاً تكتيكياً بدلا من الطابع الاستراتيجي الذي كانت الضربة غير المباشرة ستحققه لو أنها توجهت إلى "البطن الرخو" لقوات الاحتلال في فلسطين المحتلة عبر الحدود الأردنية- الفلسطينية.

سادساً: لقد أثرت ظروف دخول الجيش العراقي إلى سورية على حركة القوات المدرعة العراقية وجعلتها تصل إلى الجبهة تباعاً، وفرضت ظروف المعركة زجها بالتقسيط (بالألوية)، بدلا من زجها بكتلة ضاربة (فرقة أو فيلق)، وفق أبسط مبادىء قتال الدبابات في الحرب الحديثة، ولقد أدى زج الدبابات الإجباري بالتقسيط إلى حرمانها من استغلال عامل الصدمة إلى الحد الأقصى.

لهذا كله فأن من الغبن القول بأن ما جرى يمثل الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش العراقي في المعركة القومية. وإذا أردنا أن نكون موضوعيين، توجب علينا أن نقول بأن المنجزات الضخمة التي حققتها القوات المسلحة العراقية في حرب تشرين الأول/أكتوبر، هي المنجزات القصوى التي كان من الممكن تنفيذها في الظروف الحقيقية التي وضعت بها، وضمن تحديدات الزمان والمكان التي فرضت عليها، علماً بأن هذه التحديدات فرضت هذه المرة من قبل الصديق! لا من قبل العدو- كما هي العادة في الحروب.

وهنا نترك للقراء الأعزاء الاطلاع على بعض الخرائط التي تصور أرض المعركة في هضبة الجولان وأماكن المعارك وتواجد القوات العسكرية السورية والمغربية والعراقية..