فوق الطاولة!
فوق الطاولة!
صلاح حميدة
بعد انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إنتظر الجميع تطبيق شعاراته الانتخابية التي قالت ب ( التغيير)، وسارع لإلقاء خطابه الشهير في القاهرة الذي كان بمجمله خطاباً لدغدغة العواطف، وحاز على ترحيب واستحسان ممن لا خيارات لهم إلا بالالتحاق بالركب الأمريكي، وبالتالي دورهم انحصر بالترحيب والتصفيق!.
نتنياهو بدوره ألقى خطابه، وحدد فيه رؤية دولته للحل مع الفلسطينيين، وبين بما لا يدع مجالاً للشك أنه لن يعطي شيئاً ذا قيمة، وأن قائمة مطالب الدولة العبرية لا ولن تنتهي..
حركة فتح، أو رئاسة منظمة التحرير لم تقدم خطاباً! ولكن سلام فياض قام بدور السلطة الفلسطينية، وألقى خطابه، وكان الخطاب واضحاً، وأكد على المضي بإقامة مؤسسات ما يسمى بالدولة، وانتظار تصويب الدول الكبرى لسياساتها لتضغط على الدولة العبرية لتقبل بحل الدولتين!.
ولذلك انتظر الجميع من حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية أن تقول كلمتها، وأعلنت حركة حماس عن موعد، وتم تأجيله إلى يوم أسر شاليط(لعل ذلك كان مقصوداً لتسليط الضوء على قضية الأسرى الفلسطينيين) وكان لافتاً أن خطاب مشعل دعي له قادة الفصائل وسياسيين ومثقفين وكتاب وشعراء ومجموعة كبيرة من النخب العربية والفلسطينية، ولذلك كان جلياً أن هذا الخطاب له أهميته الخاصة، خاصة بعد الحراك الدبلوماسي والزيارات الكثيرة من شخصيات أوروبية وأمريكية للمنطقة.
هذا الحراك الدبلوماسي، ساق لحركة حماس العديد من الاتهامات من قبل طرفين رئيسيين بشكل أساسي، فأحدهما قال أن حركة حماس لا تختلف عنه، وهي ستسير بنفس طريقه، وهذا الخطاب ليس جديداً، وهذا الطرف تخلى عن خطاب المفاضلة بينه وبين حماس، وتبنى خطاباً يقول كلنا بنفس الدرجة من السوء؟!.
أما الطرف الآخر، ويتركز في بعض الحركات الاسلامية التي ترى في منهج حماس الاسلامي عقبة في طريقها، فقد اتهم وأدان، واعتبر أن حماس سقطت في مستنقع سقط به غيرها من قبل، وبالتالي فهو البديل الأفضل على الساحة، واعتبروا أن هناك ما يطبخ تحت الطاولة!، وهذا الخطاب ليس جديداً أيضاً فهو قديم جديد متجدد.
بناءً عليه، كان من الطبيعي أن تكتب بعض المقالات، تتناول الخطاب من وجهات نظر متعددة، ففي الوقت الذي اعتبر فيه الخطاب لم يأت بجديد من قبل خصوم وأعداء حماس، تناول آخرون المقال بجزء من التحليل والكثير من الدفاع عن مواقف حماس منذ إنشائها وحتى اليوم.
لا يمكن تحليل خطاب خالد مشعل بعيداً عن السياق الذي جاء فيه، فالخطاب جاء في سياق حصار وحرب إبادة تعرضت وتتعرض لها حركة حماس، وسبق هذا الخطاب تصعيد كبير في حرب استئصال حماس في الضفة الغربية، ولا زالت حماس في غزة تعيش الحصار والضغوطات، وتبتز بمعاناة مليون ونصف المليون فلسطيني، ومن المفهوم من خلال قراءة وتحليل الأحداث الساخنة السابقة للخطاب، والمواكبة واللاحقة له، أن حركة حماس لا زالت تدفع وستدفع ثمن مواقفها السايسية الرافضة للتنازل عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.
خطاب مشعل لم يأت بجديد، هكذا قيل، ولكن أنور رجا عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية القيادة العامة، قال: ( المطلوب من الخطاب أن لا يأتي بجديد، والجديد المطلوب هو التأكيد على حقوق وثوابت الشعب الفلسطيني) وبهذا لخّص المطلوب وما جاء في الخطاب، بأنه هو الجديد، فلا ضغوطات ولا تهديدات ولا كلام معسول غيّر لغة خطاب المقاومة الفلسطينية.
لأول مرة يقرأ خالد مشعل خطابه عن ورقة، سابقاً كان يتحدث ارتجالاً، وهذا جلب لخطاباته السابقة أو لنقل بعضها، الكثير من المشاكل، فخطاب سياسي بوزن خالد مشعل، وفي هذه المرحلة الحرجة من مسيرة المقاومة والقضية، لا بد أن تكتب وتصاغ وتقرء بعناية شديدة، وفي هذا الباب كان الخطاب موفقاً ولم يخرج عن النص إلا فيما يخص حرارة القاعة التي ألقي فيها الحطاب.
كان لافتاً أن الخطاب ألقي بحضور عضوي المكتب السياسي لحماس من قطاع غزة خليل الحية ومحمود الزهار، وهذا يعتبر إشارة واضحة من حركة حماس، أن قرارها ليس ممن يعيشون في الخارج بعيداً عن معاناة شعبهم كما يتهمون، بل إن من يعيشون في بؤرة المعاناة، شاركوا في صوغ هذا الخطاب الاستراتيجي.
خطاب مشعل بالطريقة التي جاء في سياقها، حدد عنوناً للشعب الفلسطيني، فهو نطق بلسان من يقولون ( لا)، ولذلك كان الخطاب واضحاً وجلياً بطريقة لا تحتمل اللبس، ولم يسق كلمات وجمل غامضة، حتى يكون كل من حاربوا وحاصروا الشعب الفلسطيني، أمام صورة وخطاب واضح المعالم.
خطاب مشعل وضع الحصان أما العربة، ورفض كلام فياض وغيره عن تقديم بناء مؤسسات ما يعرف بالدولة على إقامة الدولة نفسها، وقال بما لا يدع مجالاً للشك، تحرير الأرض مقدّم على بناء الدولة، وبالتالي حماس ليس لديها أي رغبة في امتيازات مؤسسية أو غير مؤسسية.
( لا نسحر بالخطابات) قالها خالد مشعل رداً على خطاب التصفيق في القاهرة، وأتبع ذلك، بإلقاء الكرة في ملعب الضاغطين على الشعب الفلسطيني، ونقل قائمة المطالب منهم لتصبح مطالب مطلوبة منهم، فقال بوضوح، كلامكم لا يكفي، نريد منكم أعمال تحقق الفائد على الأرض للشعب الفلسطيني، عبر تحقيق حقوقه المشروعة التي تقف القدس والعودة والتحرير على رأسها.
(لا نبحث عن اعتراف بنا على حساب الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني) وهذه الجملة كانت جوهر الخطاب حسب رأيي، وهنا بيّن مشعل أن هذه الجملة يجب أن يوضع تحتها خطوط كثيرة، وأضاف أنهم لن يلجوا الطريق التي ولجها غيرهم، بأن تعترف إسرائيل وأمريكا والغرب بحماس كشريك سياسي، مقابل تنازلها عن غالبية فلسطين ونبذ المقاومة ومحاربتها، فالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني هي سبب مقاومة حماس، ولذلك حماس لا تبحث عن اعتراف بها، ولكن تبحث عن اعتراف وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني، وبذلك أغلق هذا الباب من المساومات نهائياً، وأن من يريد أن يأتي، فليأتي بطروحات واضحة تحقق مصالح الشعب الفلسطيني، ومن أراد أن يحاور حماس، فحماس على استعداد لحواره (بلا اشتراطات مسبقة عليها).
كان لافتاً تركيز مشعل على رفض ما يعرف بنبذ المقاومة المسلحة، وتبني المقاومة السلمية، وبالرغم من أن للمقاومة أصناف متعددة، بالإمكان استخدامها جميعاً، إلا أن إلحاح الضاغطين على حماس، لتنبذ مشروعها لإدارة المقاومة ضد الاحتلال، جاء بخطاب رفع سقف المقاومة عند حماس إلى أعلى مستوى، واعتبر أن الاحتلال الاحلالي العنصري المسلح، لا يقاوم إلا بالعمل والمقاومة المسلحة، وهنا يتبين أن هذا الخطاب لم يقل أن للمقاومة أشكال متعددة وشعبنا حر باستخدامها جميعاً، ولكنه بيّن أنه لا تنازل عن المقاومة المسلحة، ولا يمكن إسقاط هذا الخيار مطلقاً.
(فلسطين هي فلسطين، والأردن هو الأردن) بهذه الجملة وأد خالد مشعل مشاريع الوطن البديل، واعتبرها غير خاضعة ليس فقط للتطبيق، بل للمساومة أو الضغط أيضاً، وطالب الأطراف العربية الرسمية بالانتباه وعدم الانسياق خلف الكلمات الخادعة والمشاريع العنصرية، والتطبيع والاختراق مقابل لا شيء..
دأبت حركة حماس على اتهام الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، بأنها تأتمر وتدرب وتسلح وتخضع للجنرال الامريكي كيث دايتون، ودعمت ذلك بوثائق ومقابلات مع هذا الجنرال، وأحداث على الأرض، وتزامن الحرب عليها مع مطالب وتهديدات أمريكية، وفي خطاب مشعل، وبالرغم من تركيزه على رفض ما تقوم به أجهزة أمن حركة فتح بالضفة من استهداف لحركة حماس، إلا أنه خاطب الرئيس الأمريكي مباشرة، وطالبه بسحب دايتون وفريقه، معتبراً أنه يخاطب من يعتبره العنوان في هذه الحرب على حركة حماس.
بهذا الخطاب، وضع مشعل كل ما يدور خلف الكواليس مع جميع الأطراف ( فوق الطاولة)، ووضعهم أمام خيارات محددة، وطالبهم بمطالب واضحة، وحدد المقبول والممنوع على حركة حماس، وألقى الكرة في ملعبهم جميعاً، وبيّن للجميع أن حركة حماس ظهرها إلى الحائط، وأن أي استهداف أو إغراآت لن تثنيها عن التمسك بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، لأن فلسطين بالنسبة لحركة حماس جزء من العقيدة، وليست مادة للمساومة، وبهذا قابل الأيام ستبين، هل الأطراف الدولية بوارد الرجوع خطوة إلى الخلف والتفاهم مع حركة حماس ومن معها؟ أم أن هذه القوى ستقرر أن تجعل حركة حماس تدفع ثمن مواقفها السياسية عبر اغتيالات وعملبات عسكرية وغيرها، خاصة وأن طرفاً عربياً هدد كل من يعرقل الحراك السياسي الأمريكي في المنطقة بصفة القطع؟!.