سورية وخيارات الاصلاح السياسي والاقتصادي

سورية وخيارات الاصلاح السياسي والاقتصادي

أنس العبدة

في ظل الظروف الاستثنائية تلجأ الدول والشعوب إلى خيار حكومة الوحدة الوطنية  لبناء بهة عريضة تأخذ على عاتقها التصدي لهذه الظروف والوصول بالشعب ومقدّراته إلى شاطيء الأمان. الأمثلة كثيرة من الماضي والحاضر، ففي عام 1931 قامت أحزاب العمال والمحافظين والأحرار في بريطانيا بتكوين حكومة موحدة لمواجهة الركود الاقتصادي الكبير الذي اجتاح العالم الصناعي في ذلك الوقت، وتكرر هذا المشهد أثناء الحرب العالمية الثانية.

    وفي عام 2001 تشكلت في الأرجنتين حكومة وحدة وطنية لمواجهة المأزق السياسي والمالي

   الحاد الذي كان يعصف بالبلد آنذاك. وكان المأمول من القيادة السورية وهي تشهد ماتواجهه سورية من ضغوط داخلية وخارجية أن تسعى إلى خيار حكومة الوحدة الوطنية، ولكن وكما عودتنا هذه القيادة فقد اختارت التفرّد على التوحّد في تكريس واضح لسياسة تقديم مصالح البعض على الكل، ورؤية الأولويات من منظور غير وطني. لقد فشلت هذه القيادة وعلى مدى الأربع سنوات الأخيرة من إحداث تغيير حقيقي وملموس، وللتغطية على هذا الفشل فإنها تعمد إلى تغيير في الوجوه والمسميات مع بقاء الأساس الفاسد الذي لم يعد يخفى على أحد، فالتعديل الوزاري الذي أعلن عنه في دمشق هو بحد ذاته دليل على ذلك الشلل السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه سورية الآن.

    كما أن هذا التعديل يعطي الانطباع بأن النظام يعدّ لمواجهة معينة لم تتوضح معالمها بعد في الداخل والخارج، فاستوزار رئيس شعبة الأمن السياسي غازي كنعان لحقيبة الداخلية يشير بوضوح إلى البعد الأمني لهذا التعديل فوزير الداخلية الجديد يتمتع بشبكة علاقات واسعة داخل المنظومة الأمنية السورية تجعله مؤهلاً لضبطها والإمساك بخيوطها المتشعبة التي نمت بشكل مشرومي مما قد يهدد النظام من الداخل، إذ قد يجد الضغط الخارجي المكثف أذناً صاغية في هذا الجهاز الأمني أو ذاك. كما أن خبرته الواسعة في لبنان وعلى مدى عشرين عاماً جعله يحوز على لقب "المندوب السامي" بامتياز فقد كان يصنع الرؤساء والزعماء وكثيراً من الوزراء وأعضاء البرلمان في لبنان حتى تمكن من تطويع قطاع واسع من السياسيين اللبنانيين للإرادة السورية مما أكسبه نفوذاً وحظوة في كلا العاصمتين.

    هذه الخبرة ستكون في غاية الأهمية إذا ماقرر النظام السوري التحول من حال إلى حال أو إذا مافرض عليه هذا التحول. وللوزير الجديد علاقات طيبة بواشنطن بحكم عمله السابق في لبنان مما يجعله وجهاً مقبولاً في مرحلة التعاون الأمني مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالحدود مع العراق حيث سيتولى هو هذه المهمة. فلا غرابة إذن أن يعتبر المراقبون هذا التعيين علامة فارقة لهذه الوزارة الجديدة.

    هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فما زال النظام السوري يسهب في حديثه عن تحسين أداء الاقتصاد وكونه أولوية لهذه الحكومة. وهو لاشك تحدّي حقيقي، حيث يدخل سوق العمل السورية سنوياً مالا يقل عن ثلاثمائة ألف شاب وفتاة جدد يبحثون عن فرص التوظيف في بلد تبلغ نسبة البطالة فيه مالا يقل عن 30% ، مع العلم أن الشعب السوري تغلب عليه فئة الشباب مما يجعله مؤهلاً لتطوّر اقتصادي هائل في ظل سياسات اقتصادية ناجحة ومتوازنة حيث أن 60% من مجموع السكان تقل أعمارهم عن العشرين عاماً، وإذا ارتفعنا بالسقف العمري إلى 35 عاماً فإن النسبة ترتفع إلى 85% أو أكثر.

    ورغم حديث رئيس الوزراء السوري ناجي العطري عن القطاع الخاص في سورية ونموه إلى نسبة لاتقل عن 60% من الاقتصاد المحلي فإن هذا القطاع غير مخدوم مالياً على الإطلاق، ويضطر العديد من رجال الأعمال السوريين إلى استخدام البنوك في لبنان وقبرص لحل المشكلة التي يواجهونها محلياً.

   كما أن الانخفاض المتوقع لمعدلات إنتاج النفط المحلي ستكون له آثار سلبية على الاقتصاد خاصة وأن الإنتاج النفطي يحتل 70% من الدخل القومي. وبحسب دراسات اقتصادية حديثة، فإن سورية تحتاج إلى استثمارات تصل إلى 50 مليار دولار على مدى العشر سنوات القادمة لمواجهة تناقص معدلات النمو والإنتاج وارتفاع معدّلات البطالة. هذا مع العلم بأن قيمة الاستثمارات التي غطاها القانون رقم 10 منذ إصداره عام 1991 لم تصل إلى أكثر من 30% من حجم الاستثمارات المتوقعة والمقدرة بـ 8 مليارات دولار، مما يعني أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى نسبة نمو تزيد على 6% مع العلم بأنها حالياً أقل من 3%. وبالرغم من كل ماتقدم فإنه يروق للقيادة السورية أن تتحدث بإعجاب عن حسنات النموذج الصيني في الإصلاح، ولا غرابة في ذلك ، فالمثال الصيني يقدّم الإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السياسي.ولكن أي باحث موضوعي يمكنه وبكل سهولة أن يدحض هذه المقولة ، فلا مجال للمقارنة ـالنسبية طبعاًـ بين سوريا والصين ، فالثقل السياسي والاقتصادي، والموقع الدولي كعضودائم في مجلس الأمن،وجاذبية الصين للاستثمارات الأجنبية، وتوفر الكفاءات التقنية المتطورة لخدمة هذه الاستثمارات، كل هذا يجعل من النموذج الصيني أبعد مايمكن عن واقع الحال السوري.

   لقد توصل النظام السوري أخيراً إلى هذه النتيجة بعدم جدوى الحديث عن التجربة الصينية ، وتعززت هذه القناعة لديه بعد زيارة الوفد السوري الأخيرة لبكين.

    فخيار النظام الاستراتيجي هو إبقاء الأمور على ماهي عليه في مراوحة دائمة في المكان مع اصطناع الحركة، في سعي دائب للوصول إلى وصفة سحرية ذات تكلفة سياسية مقبولة. فإذا ماضطر النظام إلى التحول من حالة الحزب الواحد والتفرّد بالسلطة إلى حالة أخرى أكثر حرية وديمقراطية فإنه سيسعى إذ ذاك إلى النموذج الروسي في التحول والذي يعتمد على ثلاث دعامات أساسية: الواجهة السياسية (يلتسين ومن بعده بوتين) ، الأجهزة الأمنية والجيش ، وطبقة خاصة من رجال الأعمال ممن تحصّلوا على المقدرات الاقتصادية الروسية بثمن بخس وبموافقة وتغطية من الحكومة الروسية. هذا التحالف ثلاثي الدعائم أثبت فعالية في إدارة روسيا وحصل على شرعيته من خلال صندوق الاقتراع ويهيمن حالياً بشكل شبه كامل على وسائل الإعلام الروسية. ومن مظاهر احتمالية تبني القيادة السورية للنموذج الروسي ماحصل في مسألتي شركة الهاتف الخليوي (سيرياتيل)، وصفقة لغاز الطبيعي التي أعطيت لمجموعة كندية أمريكية بعد أن كانت فرنسا قد وعدت بها، وما رافق هاتين المسألتين من انعدام الشفافية والمساءلة دليل على أن ماحققه النظام في مسألة الإصلاح على مدى أربع سنوات خلت يكاد لايذكر. ومن الملفت للنظر أن الكلمة التي ألقاها بشار الأسد أمام مؤتمر للمغتربين السوريين عقد في دمشق قبل أيام لم تحتو كثيراُ على لفظة "الإصلاح" وإنما استبدلت بلفظ جديد هو "التطوير" مع اعترافه بأن هذا "التطوير" يمر في حلقات مفرغة وما زال أسير التنظير. وأشار بوضوح إلى قرارات وقوانين عدة صدرت ولم تنفذ.

    وهي محاولة غير مباشرة للإلقاء باللائمة على الآخرين لتبرير ماكان يجب أن يحدث ولم يحدث خلال سنواته الأربع. واقتبس في كلمته مثالاً لطالما ردده في خطاباته ومقابلاته من قبل: ليس من الممكن أن تقود سيارة قديمة بسرعة عالية، كما أنك لاتستطيع قيادة سيارة جديدة بسرعة عالية على طريق غير معبد. منطقياً يبدو هذا المثال معقولاً، ولكن لم لاتُستبدل السيارة ويُعبّد الطريق؟ الجواب على هذا السؤال يعرفه الجميع بما فيهم بشار الأسد نفسه وهو أن الذين يقودون السيارة لا يرغبون بتحديثها كما أن أصحاب الدكاكين الريعيّةالتي تناثرت على طرفي هذا الطريق يعارضون بشدة أي محاولة لتعبيده خوفاً على دكاكينهم أن يمحوها الطريق الجديد، لأنه قد يتسع لأكثر من سيارة جديدة في ذلك الوقت وفي اتجاهين مختلفين، ورغم أنه ألقى خطاباً أمام جمع من المغتربين السوريين ، إلا أن بشار الأسد لم يجد في خطابه مكاناً لمئات الآلاف من السوريين المهجّرين قسراً عن بلدهم، المحرومين من أبسط حقوق المواطنة وخاصة وثائق السفر. إن هذا البون الشاسع بين القول والعمل لم يعد يخف على أحد، والتناقض الكبير بين مايقال في الخطابات وما يحصل على أرض الواقع أصبح السّمة العامة لهذا النظام. فالتعديل والخطاب الذي تبعه أفرزا حقيقة واحدة: تكرار السياسات الفاشلة، وتكريس سلطة القمع، وزج الوطن والمواطن في دوامة العجز. حقاً إن الامبراطور الصيني يمشي بدون ثياب بانتظار صبي من العامة ليخبره بذلك...