شهادات للبيع !!.. فمن يشتري؟؟..

د.مصطفى عبد الرحمن

شهادات للبيع !!.. فمن يشتري؟؟..

إلى الأخ الذي كتب لي منذ عدة أسابيع يقول : ولماذا يا أخي لا تعودون إلى أوطانكم لكي تبنوها وتساهموا في تطورها وتقدمها وووو... اهدي هذه الصفحات.

-1-

اعيش في هذا البلد- فرنسا- منذ اكثر من عشرين عاماً .. اتيتها طبيبا حديث العهد بالتخرج بعد  ست سنوات قضيتها في ربوع كلية الطب في دمشق... تعلمت خلالها فقط مبادئ الطب دون ان امارسه .. وهنا في فرنسا تعلمت مبادئ طب الاطفال وامارسه منذ ان وطئت قدماي هذا البلد .. تقلبت  فيها في مراكز فريدة... ومشافي عديدة... حتى انني  حين فكرت يوماً في احصائها وجدتها قد بلغت سبعة عشر مستشفاً جلها في باريس او محيط باريس  واثنتي عشرة عيادة خاصة كلها في باريس او جوار باريس...  وامضيت من حياتي وزهرة شبابي خمس سنوات حتى حصلت على شهادة الاختصاص الفرنسية العريقة C.E.S في طب الاطفال... لكنني لم اترك هذه الشهادة وحيدة يتيمة تشكو الوحدة واليتم انما... كنت انجب لها تقريبا كل سنة شهادة اخرى تنضم لها... تملؤ عليها فراغها وتزين معها جدران البيت وجوانبه حتى بلغ مجموع الشهادات الفرنسية التي حصلت عليها ثمانية.. ! نعم ثمانية شهادات في مختلف فروع طب الاطفال ...  كل شهادة كانت تستغرق سنة او سنتين وتقصر من عمري عاما او عامين، فهي تحتاج الى حضور وتدريب ورسالة وفحوص تشيب من هولها الاجنة في الارحام وذلك بسبب صعوبة الفحوصات الفرنسية... فالفرنسيون يقولون انك تنجح في الامتحان ليس لانك اجبت بشكل صحيح.. ! لا... بل لأن الآخرين اجابوا بشكل اقل جودة... ! واذكر... انني حفظت عن ظهر قلب اكثر من 3000 صفحة حتى نجحت في شهادة الC.E.S ... والف صفحة على الاقل لكل شهادة من الشهادات السبعة الاخرى . وعبر هذه السنين العجاف... فحصت اكثر من 160000 طفل واشرفت على علاج اضعاف هذا الرقم ... وناوبت لاكثر من 2000 مناوبة في مختلف اقسام انعاش الاطفال من الخدج وحديثي الولادة الى العناية المشددة لللاطفال الكبار مرورا بالرضع والاطفال الصغار ...  وعملت مع ثلاثة اساتذة عظام لو سألت عنهم سوزوكي ممن عاصر ناغازاكي في اقصى اقصى الشرق لعرفهم... او صادفت ماك دو نالد من احفاد العم سام في اقصى اقصى الغرب لاخبرك انه سمع بهم .

 

-2-

   منذ عدة سنوات فكرت في العودة الى احدى بلادنا العربية هذه التى يسمونها...غنية اريد - شهد الله - ان اهرب باولادي من هذا المجتمع الغربي الذي اعيش فيه بعد ان شبوا وكبروا...ولست نشاذا في ذلك فجل اصدقائي ساروا على هذا الدرب... فقلت في نفسي لابد وان اكون ايضا مفيدا في تلك البلاد  نعم ... فماذا ينقصني؟…فشهاداتي كبيرة وخبراتي طويلة واوراقي كثيرة وعديدة...

وبالفعل عند اول فرصة ... وقعت عقدا بالفاكس وهرولت مسرعاً الى السفارة لابراز ماعندي من اكداس الكرتون التي املكها ... وانا في الطريق بدأت نفسي تحدثني ان لابد وان القوم سيعجبون بما لدي.. ولم لا؟ ... فانا لااعلم أن احداً من اصدقائي  اواقراني  يملك مالدي ... بل ولااقل منه ... بل ولانصفه ولا حتى ثلثه ... سنوات طويلة من الخبرات ... وشهادات عديدة ومزوقات... و... و...

واخيرا دخلت المبنى وانا معجب النفس  رافع الراس مختال الخطوات مصعر الخد .. وباختصار .. سألت  عن الموظفة المسؤولة وجلست انتظر وانتظر ... فأتت بعد طول انتظار.. طبعاً.. فحدثتها وابرزت العقد لها ثم ... جاء دور الشهادات ... فتنحنحت قليلا ولاح في خاطري ماكنت احدث به نفسي قبل الدخول ...ثم بادرتها ان لدي شهادة الطب وشهادة الاختصاص و...سبع شهادات اخرى متعلقة بنفس الاختصاص ... فحملقت بي باستغراب... ومرت بضع ثوان وهي تنظر الي وكأنها تستعيد في ذهنها ما سمعت !...فتابعت انا وقلت : هذه هي الشهادات ...هذه شهادة الطب وهذه شهادة الاختصاص وتلك لامراض الخدج وذي للامراض الانتانية عند الاطفال و... فقاطعتني وقالت : اعطني فقط الشهادات الاكاديمية اولا ثم شهادات الخبرات .. فقلت متابعا : هذه كلها شهادات اكاديمية يا سيدتي واسترسلت....وهذه لامراض الهضم عند الاطفال وذي لامراض القلب عند الاطفال و... فقاطعتني من جديد ولكن بشيء من العنف هذه  المرة قائلة لي : قلت لك اعطني فقط الشهادات الاكاديمية ... وبدأت انا استغرب دون ان افهم وقلت : يا مدام هذه والله كلها شهادات اكاديمية ... واستطردت ...فهذه  من (جامعة با ريس السابعة) وهذه من (جامعة باريس الثانية عشرة) وهذه من (جامعة لويس باستور في ستراسبورغ) وهذه من (جامعة رن الاولى) و... فقاطعتني من جديد بعنف وقالت بشيء من الحنق وهي تنهض: انا لاافهم شيئا ابدا...ساذهب وارسل لك خبيرا ليتفاهم معك...ولوت لي رقبتها وادارت لي ظهرها ومضت وهي  تتمتم بكلمات يشم منها كثير من الاستهزاء وقليل قليل من الادب واللطف  مازالت تطن في سمعي وتجرح كبريائي كلما تذكرتها اذ قالت : انا لااعرف طبيباً لديه تسع شهادات ! ...  ومرت بي لحظات كنت فيها اقرب الى الذهول مني الى الواقع ...  وشعرت ان كبريائي بدأ يتصدع ... وان شموخي اخذ يتكسر ... وان كياني تناثر وتبعثر ...

 فاستجمعت قواي بصعوبة ... ولملمت اوراقي بسرعة وانا انظر اليها نظرة عطف وشفقة خشية ان تكون قد احست ما احسست بالذل والاهانة والهوان.. فتتالم كما تالمت وتجرح كما جرحت.. واخذت ارتبتها بلطف زائد  وعناية بالغة فيها شيء من المبالغة وكأني اريد ان اعتذر لها لما وضعتها فيه من موقف صعب ... واستفقت بعد ان كنت في غيبوبة عما حولي... على صوت ذلك الخبير الذي بادرني بالقول دون ان يلقي علي حتى السلام : ارني شهاداتك ... ففتحت  الاوراق من جديد وانا في شيء من الذهول عما حولي ... فحملق في هو الاخر بعد ان نظر اليها مليا وسألني فرددت ... واستفهم فبينت ووضحت ... وكررفزدت واسهبت وفصلت ... فقال : ام..م..م . طيب اعطني صور الشهادات وعد بعد شهر... وفعلاعدت بعد شهر وفتشت عن صاحبنا ذلك الخبير وحين اصابت عيناي عينيه بادرني بابتسامة صفراء وبدون مقدمات ولا مؤخرات وقال : جاءتني ردود الجامعات ... مبروك ... شهاداتك كلها صحيحة ... فاصابتني غيبوبة جديدة وانا استلم صور شهاداتي  وقد مهر عليها جميعا بالخلف وباللون الاحمر ...) بعد استلامنا لكتاب جامعة ... رقم...تاريخ... تأكدنا ان الشهادة ... الممنوحة للسيد ... بتاريخ ... ليست مزورة( ! ...

 

-3-

 وطرت  فعلاً ... رغم كل هذا الى ذلك البلد بعد عدة شهور ... بعد ان نسيت او تناسيت ما وقع لي ...فقد كانت ولاتزال عقيدة الاولاد وتربيتهم واخلاقهم محل قلق وخوف عندي ... ووصلت ... فسلمت وعرفت  وتعرفت و...ماان بدات العمل... واذ بي استدعى الى العاصمة ... الى اين؟ ... الى لجنة يقال انها تنظر باحوال الشهادات ! ...

فتعجبت واستغربت ثم افصحت واستفهمت واستنكرت لكنني بعد ان ترددت توكلت على الله وذهبت ... وحين قدر الله لي ووصلت... فرشت ومن جديد امام المسؤول وبكل براءة بل- عفواً- بكل سذاجة ... كل ماعندي من وثائق واوراق و...تلك التي يسميها اهل العلم ..الشهادات .. فنظر الي الاخ من خلف مكتبه نظرة مريبة وانا ماازال واقفا... بعد ان شقلني من شعري الى اسفل قدماي ...وقال بشيء من الاستهزاء الخفي- بل الغبي- متعجباً :  وكل  هذه  شهادات!؟ .. قلت : والله  هكذا  يبدو ... قال : عجيب.... ! ثم قلت وقال...وقال وقلت ...حتى فهمت ان هناك لجنة تنظر بأمر الشهادات وصاحبنا هذا ليس الا موظفاً لاستلام الوثائق والاوراق .. وعلي الانتظارعدة اسابيع للحصول على جواب...

قلت في نفسي وانااودع صاحبنا هذا وقد تملكني قليل من الحلم المشوب بالغضب ...لابد وان في اللجنةاطباء زملاء بل واساتذة عقلاء...اذا نظروا بأمري ...واطلعوا على ملفي واوراقي فسيعلموا من انا ...وما قيمة شهاداتي وخبراتي ... ثم اشتط بي الخيال بعيداً فقلت في خلدي : وقد يستدعونني ليشكرونني على الجهد المضني الذي بذلت والشهادات العالية التي حصلت والخبرات الراقية التي اخذت واكتسبت ...

وبالفعل لم تمضي الا ايام واذ بي اتلقى دعوة مبهمة استدعى بها الى العاصمة من جديد ... وفي الطائرة اخذت نفسي تحدثني ...لقد ظلمت القوم ...وظننت بهم ظن السوء ...وهاهم اليوم يستدعونك ليعتذروا لما بدر من بعض موظفيهم في باريس وفي (......) ثم ذهب بي الخيال ابعد من ذلك فتخيلت ان القوم عندما رأو شهاداتي وخبراتي واوراقي ...تعاطفوا معي بل ساءهم ان هذه الخبرات والشهادات مدفونة في ذلك المشفى الخاص الذي اعمل به والغير معروف للعامة ولاللخاصة ...وقد يكونوا .. ومن يدري .. قد هيؤوا لي عملاً  في ذلك المشفى ذائع السيط .. في العاصمة .. حتى اذكر انني قلت في خلدي هل اقبل؟.. واذكر ايضا اني اخذت اقلب الرأي بين ان احجم  او ارضى اذا ما عرض علي القوم ذلك .. واذكر ان الرأي عندي استقر على القبول استحياء من القوم ومراعاة لشعورهم ونزولاً عند رأيهم ورغبتهم  فانا بحمد الله ومع أني أعيش في الغرب منذ فترة طويلة إلا أنني مازلت احمل اباءالمسلم وشهامة العربي  .. وعندما وصلت  سألت واستعلمت ثم سلمت .. واذ بي اساق الى قاعة كبيرة خيل الي من رحابة مساحتها وسعة فضائها وجمال سقفها وحيطانها وكثرة تزويقاتها وتزييناتهاانها قاعة للتكريم لامحالة .. ولم يبتعد الحلم عن الخيال ويعيدني الى واقع البال والحال  الا حينما طال بي الانتظار وبدأت اشعر بالضجر والتململ وان الصبر راح يسير الى الانحسار.. واذا بشخص يدخل علي وبدون ان يطلب استئذاناً ولا حتى ان يلقي علي السلام ...لكنه القى الي بضع وريقات وقال بفظاظة : عندما تنتهي من الاجابة ...خذ الاوراق للسكرتير و...انصرف . فاسقط قي يدي ...وغم قلبي وتوقفت انفاسي ...اذن انا هنا لاقدم امتحاناً .. ومرت برهة من الزمن  قبل ان استطيع ان افهم الموقف... وبرهة اثقل قبل ان استطيع ان اتحمل الموقف ...وشعرت بالذل لاول مرة في حياتي يسقط علي دفعة واحدة ...وكم تمنيت حينها ان لو تبتلعني الارض التي تحت قدماي ...وبدون مقدمات او مؤخرات ...اخذت ورقة وكتبت اشتم- بأدب طبعاً- اللجنة واعضاءها...الامتحانات واوراقها... وسلمت الورقة الى .. السكرتير بعد ان صورتها ولازلت احتفظ بها الى اليوم .. وخرجت وانا اسب الذل والعن الظلام واشتم الجهل وما نسيت الاستعمار والمال... لكن غضبي كان اكثر ماكان على هذا الثالوث المرعب اذا اجتمع بعضها الى بعض : الجهل مع المال مع الكبر.

وصلت المشفى ...وذهبت من فوري الى حاجياتي احزمها والى كتبي ارتبها واضبها ... فقد عزمت – يا اخوتي – الرحيل هرباً هذه المرة بكرامتي ان تجرح ... او كبريائي ان يقدح ...او علمي وشهاداتي وخبراتي ان يهزأ بها مرة اخرى ويمزح ... وكان ان تناهى الى سمع وبصر مدير المشفى ما جرى .. واني عازم الرحيل الساعة لامحالة .. فهرع الرجل الي وهو بالكاد يلتقط انفاسه .. فعصب ونرفز .. وسب  وشتم – بأدب طبعاً – وزاد وتوعد ان يوصل الامر الى علٍ .. فهدأ روعي.. ورطب خاطري .. ومسح على بعض كلمي .. ووعدني ان  يتبنى الامر بنفسه اذا عدت عن قراري بالرحيل .. فقد كان الرجل يثمن ويقدرالسمعة الطيبة التي كانت لي في قلوب مرضاي وزملائي .

قبلت على مضض .. فتحرك الرجل وكتب كتباً وارسل رسلاً .. وهاتف وفكس وابرق .. ثم قابل وناقش وتحدث وشرح .. وانتهى الى ان لابد ان يكتب للوزير لالشيء ... الا لكي  ترتدع هذه اللجنة الفتية عن الاستهزاء باهل العلم ...وحتى لايتكرر ماحدث  مع الاخرين وتكون درسا لاينسى لامثال هؤلاء الجالسين خلف المكاتب .

واسركم القول ... ان الفكرة استهوتني  وقلت في نفسي -  جاءت -  فسأكيل الضربة الفنية القاضية لهؤلاء وامثالهم وانتقم لمكانتي وشهاداتي وعلمي ومقامي .. وكتبت رسالة الى الوزير .. شرحت وفصلت .. اتهمت وبالغت .. استصغرت وقزمت .. كبرت وضخمت .. وارفقت مع هذه الرسالة التي احتفظ – طبعاً – بنسخة منها، اوراقي وشهاداتي وخبراتي ... وكل سجلي الذي فيه تقريظات اساتذتي .. ورسالات رؤسائي .. وتوقيعات زملائي.. ولم انسى عناوين مقالاتي التي كتبت .. واماكن مؤتمراتي التي حضرت .. وخلاصات محاضراتي التي حاضرت.. وضمنتها ايضا بطاقتي في الجمعية التي اسست .. وبطاقتي في الجمعية التي اليها انتسبت .. وبطاقتي في الجمعية التي اليها تشرفت .. وبطاقتي .. وبطاقتي .. وكن حينذاك لم يتجاوزن الدزينة بعد .

وبعد .. وبعد اسابيع .. اتلقى دعوة الى المشفى العام القريب .. لاقابل استاذين جامعيين كبيرين مشهورين لطيفين مهذبين رقيقين... هكذا قالوا لي ...

وبلا تفكير ولاسابق حكم ولا كثير تردد- فقد كان كل ذلك سابقا قد ارهقني واخذ مني كل قدرتي على التوقع -  وجدت نفسي بينهما .. وياليتني ما ذهبت وما رايتهما .. فمذ وصلت وما كدت استقر في مقعدي حتى هطلت علي الاسئلة غزيرة كالمطر .. سريعة كالريح .. باسلوب شاحب وجو مكهرب .. فاجبت ودققت .. وشرحت وفصلت .. وبينت ووضحت . ثم كان كلما زادوا سؤالا زاد ضغطي درجة .. حتى اذا ماوصل الى العشرين، اخذت زمام المبادرة كما يقول اخواننا اهل الحروب والمعامع .. فصرخت وصدعت .. وبهدلت وانبت .. وارعدت وازبدت .. وبادرت وسألت ... ماهي شهادات الأخوان ؟ .. ثم استانفت وتابعت .. هي كيت و.. كيت ( فقد كنت اعلم مسبقاً مستوى شهادات القوم ) ... وازلفت ... فقارنت وفرقت ووازنت بين ما لدي وما يحملان ... وبين مااوصف به وما يدعيان ... و...و... وخرجت ...

 

-4-

 وبعد عشر ساعات تماماً كنت قد كورت جسمي في مقعدي والقيت برأسي الى الخلف واستسلمت لنوم عميق في الطائرة التي تعيدني الى باريس ، باريس .. التي مازالت تحفظ الود وتصون العهد، باريس..التي لم تنسى كم سهرت الليالي وأنا انعش الخدج بعيد قيصرياتها وأعتني بالولدان بعيد مخاضيها.. وكم طببت وداويت ومسحت الدمع عن مآقيها .. وهاهي اليوم  - ومن جديد-  قد عادت وفتحت لي كل أقسامها وعياداتها ومشافيها.

         

 

د.مصطفى عبد الرحمن