غزة تنتصر 69-72

د. مصطفى يوسف اللداوي

غزة تنتصر

د. مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

(69)

العدو بين الخيارات الصعبة والحلول المكلفة

ظن العدو الصهيوني أن عدوانه على قطاع غزة سيكون مشابهاً لاعتداءاته السابقة، وأن أيامه لن تتم الشهر بأي حالٍ، وإن تجاوزت الشهر فبأيامٍ قليلة كعدوانه على لبنان في العام 2006، الذي استمر ثلاثة وثلاثين يوماً، انتهت بعدها كافة العمليات العسكرية، بقرارٍ صدر عن مجلس الأمن الدولي، أخرج الكيان من الحرج الذي وقع فيه، وتكفل القرار نيابةً عنه بتنظيم علاقته مع لبنان، والتنسيق مع المقاومة، التي عجز عن طردها شمال الليطاني، وفشل في نزع سلاحها، وتصفية قيادتها، وتفكيك بنيتها العسكرية والتنظيمية، ما جعله يقبل بالأمم المتحدة، لتنوب عنه في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح، وكثافة النيران، والخراب والتدمير الأعمى الواسع، الذي لم يأتِ بنتيجةٍ لصالحه.

لكن قيادة العدو الإسرائيلي، السياسية والعسكرية قد أخطأت الحساب، ولم تحسن التقدير، ولم تأتِ النتائج وفق ظنها، فالمقاومة التي كانت تملك صواريخاً مداها لا يتجاوز الأربعين كيلومتراً، أصبح لديها صواريخ تكاد تصل إلى الحدود الشمالية لفلسطين، فضلاً عن المدن الداخلية بما فيها مدينة القدس، كما باتت مستودعات المقاومة متجددة، فلا ينقص مخزونها حتى يكتمل.

وقد ظن العدو الصهيوني أن الحصار وتدمير الأنفاق سيحدان من قدرة المقاومة على امتلاك السلاح، وأن عمليات التهريب ستتوقف، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع مخزونها من الذخيرة والصواريخ بسرعة، ولكنه ما كان يظن أن معامل الذخيرة، ومصانع السلاح تعمل في قطاع غزة ليل نهار، وأنها جزء من منظومة المقاومة، وهي منظومة متكاملة، تشمل التصنيع والتخزين والمنصات والنقل والتلقيم والإطلاق.

صدم العدو الصهيوني بكل أركانه أمام ثبات المقاومة وصمودها، وغنى مخازنها، وثراء مستودعاتها، وعنفوان شبابها، وقوة مقاوميها، وجرأة قادتها، وصمود شعبها، وقدرته الكبيرة على الصبر والتحمل والثبات، فما شكى ولا أَنَّ، ولا بكى ولا تذمر، ولا تبرم ولا تأوه، بل سبق المقاومة في مواقفها، وحضها على الثبات في الميدان، والصمود في المفاوضات، وعدم تقديم تنازلاتٍ للعدو أياً كانت، بحجة أن الشعب قد تعب، وأن ما أصابه أكبر من قدرته على الاحتمال، وأن ما ينتظره في حال مواصلة العدوان سيكون مزلزلاً ومرعباً، وسيكون أشد وأقسى مما يتوقعون.

أمام الورطة العسكرية، والمغامرة غير المحسوبة العقبات، والعجز الفاضح عن تحقيق نصرٍ واضحٍ على المقاومة الفلسطينية، باتت خيارات العدو الإسرائيلي للخروج من المأزق محدودة جداً ولكنها واضحة، وأصبح يعرفها السياسيون والعسكريون، والمراقبون والمواطنون على السواء، وهي جميعها بالنسبة إلى حكومة الكيان الصهيوني خياراتٌ سيئة، لا تتناسب مع الطموح، ولا تلبي الآمال التي كانوا يمنون أنفسهم بها، فالاختيار والمفاضلة بينها بالنسبة إلى العدو الصهيوني سيئة ومحرجة.

لكن أصبح لزاماً على الحكومة الإسرائيلية أن تقرر، فالوقت لم يعد في صالحها، والظروف باتت لا تخدمها، ومعسكر الحلفاء وإن كان صادقاً في حلفه الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، ولا يتخلى عنه، ولا يتركه في أزمته وحيداً، إلا أنه أخذ يتذمر ويشكو، وربما شرع بعضهم في ممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وإن بدا ضغطاً خفياً غير ظاهر، ناعماً غير خشن، دبلوماسياً غير فظ، إلا أنه يدل على غضب الحلفاء، ويبدي عدم رضاهم عن أداء وسياسة الحكومة الإسرائيلية.

كما بات من الواضح للعدو الإسرائيلي أنه من المستحيل نزع سلاح المقاومة، أو تفكيك بنيتها العسكرية، أو القضاء على قياداتها السياسية والعسكرية، وإن كان قد نجح في اغتيال بعضهم، إلا أنه يدرك أن قيادة المقاومة ما زالت بخير، وأن مؤسساتها متماسكة، وتنظيماتها قائمة وقوية، وقدراتها على التواصل والتنسيق والاجتماع ما زالت كبيرة، فضلاً عن قدرتها على الصمود والمواصلة، بل إنها تبدي رغبةً في المواجهة، وتتحين فرص الاشتباك، وتعتقد بأنها قادرة برياً على تحقيق بعض الكسب العسكري على الجيش الإسرائيلي.

على حكومة العدو الصهيوني أن تقرر في الأيام القليلة القادمة ماذا ستفعل، وكيف ستتصرف، إذ من المستحيل عليها وعلى المجتمع الدولي أن تستمر في المراوحة مكانها، دون أن تخطو خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف، أو أن تركب حافلةً صديقة تقلها وتنقلها إلى نقطةٍ آمنة، أو أن تحقق أهدافها التي أعلنتها، وهذا أمرٌ بات في حكم المستحيل وغير الممكن.

على الحكومة الإسرائيلية وقيادة جيش العدوان، القبول بالشروط الإنسانية والوطنية للشعب الفلسطيني، ومواصلة المفاوضات عبر الوسيط المصري، وعلى أساس الورقة المصرية التي عدلها الوفد الفلسطيني المفاوض، على أن يلتزم ما يتم الاتفاق عليه، ويقر بأن العودة إلى الحال السابق غير ممكن، وأن إقرار سياسة التهدئة مقابل التهدئة غير مجدية، لأنها ستقود حتماً إلى حربٍ جديدة.

أو مواصلة العدوان، والدخول في حرب استنزاف طويلة، وتحمل نتائجها على شعبه واقتصاده وحياته العامة، بالإضافة إلى صورته السيئة لدى المجتمع الدولي، في ظل التدمير والخراب وقتل المدنيين واستهداف المؤسسات، واستخدام القوة المفرطة، والأسلحة المحرمة دولياً، علماً أن المقاومة ستمضي في حرب الاستنزاف، لأنها الحالة الطبيعية بين شعبٍ محتلةٍ أرضه، وبين عدوٍ غاصبٍ يحتل الأرض وينتهك المحرمات.

أو أن تقرر إعادة احتلال قطاع غزة، عبر اجتياح بري واسع، علماً أن العملية البرية ستكلفه الكثير، وسيتكبد فيها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات والممتلكات والاقتصاد وكافة مرافق الحياة، وسيكون مضطراً للبقاء في قطاع غزة لعدة سنوات، يتحمل فيها كافة المسؤوليات تجاه الشعب الخاضع لسلطته.

أو أن توقف العمليات الحربية العدوانية من طرفٍ واحد، وتتعامل مع الأحداث بما يناسبها، وهي حالة تشبه حرب الاستنزاف، وقد تقود إليها، كما قد تؤدي في حال وقوع خسائر كبيرة إلى نشوب حربٍ جديدة، أو القيام بأعمالٍ انتقامية واسعة.

أو أن تقبل بإحالة قضية قطاع غزة إلى مجلس الأمن الدولي، لتتكفل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول أوروبا الغربية، بتحقيق ما عجزت عن تحقيقه بالقوة، وهو الخيار الأنسب والأفضل لها، إذ ترغب في أن تشرك المجتمع الدولي كله في مراقبة قوى المقاومة، ومنع تسليحها، وتجفيف منابعها العسكرية، مقابل خدماتٍ إنسانية كبيرة تؤديها الأمم المتحدة برعايتها وتحت إشرافها لسكان قطاع غزة.

هي أيامٌ قليلة وتنجلي الصورة عن أحد الخيارات الخمسة، لكن الكيان الصهيوني والأمم المتحدة سيخطؤون كثيراً، إذا أهملوا المقاومة، وتجرأوا على سلاحها، وتجاوزوا حقوق الشعب المشروعة، وأبقوا على الحصار، أو أعادوا تنظيمه، سيخطؤون أكثر إذا تصرفوا وحدهم وكأنهم الغالب والمنتصر، وأن من حقهم الجلوس على طاولة المنتصرين، ليعيدوا التقسيم والتوزيع، وكأنهم في يالطا جديدة.

غزة تنتصر (70)

بالدم تكتب غزةُ تاريخها

لم تعد غزة تلك المدينة الصغيرة، حاضرة البحر، الكائنة في جنوب فلسطين، المحدودة المساحة، والمكتظة السكان، والمحاصرة من البحر والعدو والصديق، مدينةً مغمورة، لا يعرفها إلا القليل من الناس، ممن لهم دراية بالسياسة، ومعرفة بالجغرافيا، ولا يهتم بها سوى أهلها، القاطنون فيها أو المغتربون عنها، أو المتضامنون معها، والراغبون في زيارتها تأييداً ومساندة، ونصرةً ومساعدة، بل غدت بمقاومتها الجبارة، وشعبها العظيم، وإرادتها الصلبة، وصبرها العنيد، واحدةً من أعظم المدن في التاريخ، ثورةً ومقاومة، وتمرداً وانتفاضة.

فكما أنها واحدة من أقدم المدن في تاريخ الإنسانية، وإحدى أهم حواضره التجارية، ومعابره القديمة، التي عرفتها القوافل، وطرقها الرحالة والمؤرخون، فإنها ستبقى علماً في التاريخ، وعلامةً فارقة في حياة الشعوب، يرجعون إليها، ويتعلمون منها، وينسبون إليها، وينقلون عنها، فقد أصبحت واحدة من أعرق المدارس النضالية، وأكثرها خبرة وتجربة، وأعظمها عطاءً وتضحية، فقد انتصرت غزة على الحصار، وكسرت القيود، وانعتقت من الأغلال، وانتفضت ماردةً قويةً، بأجنحةٍ عملاقة، ترفرف في سماء غزة والوطن، كأعظم ما تكون المقاومة، وأشد ما تكون القوة، وأنبل ما تكون التضحية.

غزة اليوم تكتب تاريخها بمدادٍ من دمٍ، وتسطر صفحاتها في كتاب الخلود، وتسجل اسمها في سجل المجد، وصحائف الخالدين، وتحفر لنفسها مكانةً بأجساد أبطالها، وأشلاء أبنائها، وألعاب أطفالها، وعرائس بناتها، وفساتين صباياها، وتبني بركام بيوتها، وأنقاض منازلها، صرحاً عظيماً، يعتز به الفلسطينيون، ويفخر به العرب والمسلمون، حتى غدت غزة مدينة تنافس ستالينغراد، وتبزها نضالاً ومقاومة، وتفوق عليها أنفاقاً وخنادق آمنة، يعجز العدو عن اكتشافها أو الوصول إليها، ويحار في البحث عنها ليقصفها ويدمرها.

تعداد سكانها لا يصل إلى المليوني نسمة، ومساحتها لا تزيد عن المائتي ميل مربع، وبين شمالها وجنوبها بضعٌ وأربعون كيلومتراً، وأقصى عرضٍ لها لا يتجاوز الثلاثة عشر كيلومتراً، بينما يضيق في أماكن أخرى ليصبح دون السبعة كيلومترات، ويكاد يخنقها البحر والعدو الصديق، الذين يحاصرونها كقيد، ويضغطونها كمكبس، ويعتصرونها كزيتونة، بلا رحمةٍ ولا شفقة، بل بقسوةٍ وشدةٍ، فلا يسمحون لطيرٍ في السماء يحوم، أو سمكٍ في البحر يعوم، أو عابر سبيلٍ عبر الحدود يمر، لئلا يرفع الحصار، ويخفف القيد، وتزول المعاناة.

ولكن غزة صنعت من الضعف قوة، ونسجت من النور عزة، وغزلت من الألم كرامة، وخاطت من الجوع سترة، ومن الفقر درعاً، وجعلت القيود تروساً، والأغلال فؤوساً، ومن جوف الأرض استخرجت الكفاف، وصنعت المستحيل، وأجرت فوقها شلالاتٍ من عناصر القوة والمنعة، وسبل الصمود والتحدي، وتسربلت بالحديد، وركبت الصعب، وسكنت تحت الأرض، وشقت فيها أخاديداً وأنفاقاً، وجعلت بيوتها للعدو مقابر، وشوارعها له مهالك، فأذهلت العدو وأعجبت الصديق، وأسرت الحبيب والشقيق.

أطفالها سبقوا الرجال، وهتفوا أمامهم أن فلسطين بالأرواح نفديها، وبالدماء نرويها، ولا نفرط في شبرٍ منها، ولا نقبل للعدو أن يستبيحها، ولا أن يقتل أهلها، ويدمر بيوتها، ويخرب مساكنها، ثم يخرج منها آمناً مطمئناً، وكأنه لم يرتكب جرماً، ولم يمارس قبحاً، بل لا بد أن يدفع الثمن، وأن يذوق من ذات الكأس، وأن يتجرع المرارة، ويعاني من الغصة، ويشكو من الألم، فدمنا "لايروح هيك".

ونساؤها خنساواتٌ بواسل، يحرضن الرجال، ويدفعن بهم للصمود والمواجهة، والصبر والتحدي، والثبات والتصدي، فلا يخفن من الموت، ولا ينتحبن أمام الفقد، ولا يشققن الجيوب ويضربن الخدود عند سماع الخبر، بل تعلو أصواتهن عند الفزع، أن فلسطين أغلى وأعز، والقدس أسمى وأطهر، وأقدس وأنبل، مهرها الدم، وفي سبيلها تهون الحياة، وتبذل الأرواح والمهج.

لا شبيه لغزة، ولا مثيل لأهلها، بمساحتها الصغيرة، وتعداد سكانها البسيط بالمقارنة، وانعدام العمق الآمن، والرديف الصادق، والنصير الواثق، فقد حاربها العدو واستشرس، وتآمر عليها الأخ والشقيق، والجار القريب والبعيد، فكانوا للعدو عوناً، ومعه جنداً، ولأجهزته الأمنية عيناً، ولجيشه دليلاً، ووقف المجتمع الدولي إزاء محنتها صامتاً متفرجاً، لا تحركه الدماء، ولا تفزعه الأشلاء، ولا يغضب لحجم الدمار، ولا ينتفض للقوة المفرطة، ولا للسلاح المحرم والممنوع، ولا تعنيه التجاوزات والأخطاء، ولا يتمعر وجهه إن هاجم العدو المواطنين في مقراته، وقتلهم في دوره، ونال منهم وهم لاجئين في مؤسساته وتحت أعلامه.

إنها غزة جزءٌ من فلسطين، وبعضٌ من الوطن، أصيلةٌ كالأصل، متجذرةٌ كزيتونةٍ، أبيةٌ لا تقبل الضيم، وعزيزةٌ تثور على الإهانة، وترد الصاع للمعتدي عشرة وأكثر، تأبى إلا أن تكون مثالاً يحتذى، ونموذجاً يُدرَّسُ، وهي تعلم أنها ستصبح بعد الحرب مدرسة، يتعلم منها الفدائيون، ويلتمس خبرتها المقاتلون، ويعتمد وسائلها وطرقها المدربون، وستصبح تجربتها مناهج تدرس، وتجارب تعمم، يحوز من يتقنها على الأهلية، وينال من يستوعبها الشهادات العليا والإفادات ذات المصداقية.

لن يذهب دمُك هدراً يا غزة، ولن تضيع أرواح أبنائك سدى، وستنبت الأرض التي ارتوت من دماء شهدائك رجالاً، يتطلعون نحو الشمس، ويفتحون أذرعهم نحو السماء، يعانقون النجوم، ويسمعون الجوزاء وقع أقدامهم، وخطى مشيهم، وسيصنعون للأمة نصراً، وسيعوضون الأهل عما أصابهم أو لحق بهم، وستفرح قلوبنا بما تصنعه غزة، وبما يرسمه أبناؤها، ويصنعه رجالها.

شًرُفت يا غزة، وشَرُفَ أبناؤك، وعزَّ رجالك، وارتفعت هامة شعبك، وكنت لنا وللعالمين فخراً، فلا أضاع الله عطاءك، ولا بدد جهودك، ولا أساء أهلك، ولا أهدر الدم الذي به تقدمت وتميزت.

غزة تنتصر (71)

هل أن العدو لم ينتصر والمقاومة لم تنكسر

انتهى العدوان الإسرائيلي البغيض على قطاع غزة بعد واحدٍ وخمسين يوماً ضروساً، لم تتوقف خلالها آلة الحرب الصهيونية عن القصف من البر والبحر والجو، قتلت وجرحت خلالها الآلاف، ودمرت وخربت مئات البيوت، وأنهت عدوانها بغاراتٍ قاسية على الأبراج السكنية العالية، فسوت بعضها بالأرض، وأخرى بقيت صامدةً شامخةً عصيةً على الانهيار، رغم أن الدمار قد طال أطرافها، وهدد أساسها، وخرب بنيانها.

أما وقد وضعت الحرب أوزارها، وسكتت مدافعها، وغابت طائراتها، وانسحبت الدبابات والجنود الذين كانوا يحيطون بقطاع غزة، ويهددون كاذبين من حينٍ إلى آخر، بنيتهم خوض حربٍ برية، قد ذاقوا مرارتها، وخبروا صعوبتها، وعرفوا استحالة النصر فيها، فإننا نستطيع القول، بكل ثقةٍ وثباتٍ، ويقين وتأكيدٍ، أن العدو لم ينتصر في عدوانه الذي سماه الجرف الصامد، ولم يتمكن من تحقيق أهدافه، ولا الوصول إلى غاياته، رغم أنه قتل ودمر وخرب، إلا أن شيئاً مما أعلنه لم يتحقق.

أهداف العدو كانت واضحة، وهي كبيرة وعديدة، وقد أعلنت عنها الحكومة وقيادة الجيش، إذ أنهم جردوا حملتهم العدوانية على قطاع غزة، انتقاماً من المقاومة التي نفذت عملية خطف المستوطنين الثلاثة، فأرادوا تجريد المقاومة من سلاحها، لتأمين المستوطنين ومدن الغلاف، ومنع المقاومة من إطلاق الصواريخ عليها.

كما أرادت تدمير الأنفاق التي استطاعت المقاومة من خلالها أن تنفذ إلى الجانب الآخر من الحدود، وتقوم بعملياتٍ عسكرية خلف خطوط النار، كبدته خسائر حقيقية، وأضرت بهيبته العسكرية، وأضعفت الروح المعنوية لدى جنوده ومستوطنيه.

كما خطط العدو لاغتيال القادة، وتصفية المسؤولين العسكريين والسياسيين، وقد اعتبرهم جميعاً أهدافاً مشروعة، وأنه سيلاحقهم في كل مكان، وسيقتلهم أينما وجدهم، وأعلن بعض قادة العدو أن حياة قادة المقاومة بموازاة جنوده الأسرى أو القتلى، وأنهم سيدفعون الثمن غالياً لأسرهم الجنود، أو احتجازهم لجثتهم.

كما تطلع العدو إلى زرع خلافٍ بين المقاومة والشعب، ونزع الثقة بينهما، وإنهاء حالة التلاحم العظيمة التي بدت بينهما، ودفع الشعب للانقلاب على المقاومة، وعصيان أوامرها، والثورة عليها، لتصبح المقاومة معزولة عن محيطها، ومحرومة من حاضنتها، مما يضطرها للخضوع والقبول، والتنازل والاستسلام.

لم يحقق العدو شيئاً من أهدافه المعلنة والسرية، فلا سلاحاً نزع، ولا صواريخاً منع، ولا أنفاقاً هدم، ولا قادةً صفى، ولا منابع جفف، ولا خلافاً زرع، ولا أسرى حرر، ولا هيبةً لجيشه استعاد، ولا شريطاً عازلاً أبقى، ولا تعهداً من المجتمع الدول حصل، وكل ما قام به أنه قتل وجرح آلاف المدنيين، ومنهم مئات النساء والأطفال والمسنين، ودمر مساكن المواطنين وخرب بيوتهم، وهذا كله لا يعد نصراً، ولا قيمة له في ميزان الحرب، لأن الانتصار في المعارك نتيجته سياسية، وثمرته وقائع جديدة على الأرض، وهو ما لم يتحقق له، وعليه قطعاً فإن العدو لم ينتصر على المقاومة الفلسطينية.

أما المقاومة الفلسطينية فقد تمكنت من الصمود في وجه جيشه القاتل، وتحدت آلته الحربية، وأفشلت كل أهدافه، ومنعته من تحقيق شيءٍ مما كان يحلم به، ولكنها إلى جانب ذلك فقد نجحت في تحقيق وحدةٍ فلسطينيةٍ عز الوصول إليها في غير هذا الظرف، وتمكنت من خوض معركةٍ عسكرية بألوية وكتائب موحدة، تنسق فيما بينها، وتتعاون على تحقيق الأهداف.

واستطاعت المقاومة أن تجمع شتات الشعب، وأن توحد كلمته، وترص صفوفه، حتى غدا الشعب هو الجبهة الأقوى، والجدار الأكثر تحصيناً للمقاومة، ولم يقتصر التلاحم الشعبي على الفلسطينيين في قطاع غزة، بل شمل الفلسطينيين في كل الوطن والشتات، فوحدتهم جميعاً تحت راية المقاومة، التي اعتزوا بها وفخروا، وجعلت قوى المقاومة والسلطة الفلسطينية فريقاً واحداً، يتفقون على الهدف، ويتحدون في سبيل الوصول إليه.

كما نجحت المقاومة في إثبات خيرية وأفضلية المقاومة المسلحة، وأنها الخيار الأنسب لتحقيق الأهداف، وأثبتت أن الشعب الفلسطيني قادر على خوض الحروب، والانتصار في المعارك، وأن المقاوم الفلسطيني صنديدٌ وعنيد، وقويٌ وجبار، وينجح في إنجاز المهمات، وتحقيق الأهداف، والوصول إلى الغايات، بل بينت أيضاً أن العدو الصهيوني مهزوزٌ ضعيف، وأن جيشه قد يهزم ويرد على أعقابه، ويعجز عن تحقيق أهدافه، فأعادت المقاومة للشعب الثقة بقواها الحية، وقدراتها المكينة والمخبوءة.

كما تمكنت المقاومة الفلسطينية من زعزعة الثقة بين الكيان الصهيوني وحلفائه، الذين ساءهم سلوكه واعتداءه، وأغضبهم قتل الأطفال والنساء، وتدمير البيوت والمساجد والمدارس والمؤسسات والأبراج السكنية، وقد أحرجهم بأفعاله، ما دفع بعضهم للدفاع عن أنفسهم، والبراءة من جرائمه.

ومن قبل نجحت المقاومة في نزع ثقة المواطن الإسرائيلي بحكومته، وعدم الاطمئنان إلى قدرة جيشه، ولا الركون إلى تطمينات وتأكيدات قادته، بل إنهم أصبحوا لا يصدقون قيادتهم العسكرية والسياسية، وباتوا يستقون الأخبار، ويعرفون الحقائق من مصادر المقاومة الفلسطينية التي لا تكذب ولا تزور.

إلا أن الخلاف لم يقتصر على الشعب تجاه قيادته، بل إن المشاكل قد دبت بين أقطاب الحكومة وقيادة الجيش، كلٌ يتهم الآخر، ويدعي أنه السبب وراء الفشل والعجز، وما زالت الخلافات تتفاقم وتكبر، ومن المؤكد أن الأيام القادمة ستحمل أخبار التحقيقات والمحاكمات والمسائلات، وسيأتي دور صناديق الانتخاب التي ستحاسب وتعاقب، وستقصي وتؤدب.

المقاومة في نهاية العدوان أجبرت العدو الإسرائيلي على الجلوس على طاولة المفاوضات، والعودة إلى القاهرة، والقبول بالكثير من الشروط الفلسطينية، ومنها رفع الحصار وفتح المعابر، وتسهيل تدفق الأموال والمساعدات، والمباشرة في إعادة إعمار القطاع، وغير ذلك من الشروط التي أعلنت عنها الورقة المصرية التي على أساسها تم الاتفاق على وقف إطلاق النار.

ربما نخطئ كثيراً إذا قلنا أن العدو لم ينتصر، لأن الحقيقة الواضحة القاطعة تقول أنه هزم واندحر، وتراجع وانكسر، واضطر لتقديم تنازلات والتراجع عن سياسات، كما نظلم المقاومة الفلسطينية وشعبها عندما نقول بأنها لم تنكسر، لأن الحقيقة أنها انتصرت وفازت، وحققت الكثير مما كانت تحلم به وتتمنى، وأسست لما بعد هذا الانتصار، ووضعت الشروط اللازمة لانتصاراتٍ أخرى في فلسطين وعلى أي أرضٍ عربيةٍ أخرى.

غزة تنتصر (72)

وداعاً للحرب وأهلاً بالانتصار

حُق لسكان قطاع غزة أن يفرحوا، وأن ينتشوا ويسعدوا، وأن يخرجوا إلى الشوارع والطرقات، في مسيراتٍ وتجمعاتٍ، واحتفالاتٍ ومهرجانات، بهجةً وسعادة، وفرحاً واستبشاراً، فقد انتهت الحرب، وتوقف العدوان، واندحر العدو، وغادر كل أماكننا الجميلة في قلوبنا، وابتعد عن بيوتنا ومساكننا، وعن مساجدنا ومدارسنا، التي عدنا إليها، وإن كانت مهدمة ومدمرة، إلا أننا فرحين بالعودة إليها، وسعداء بها ولو كانت ركاماً أو حطاماً، أو بقايا حجارةٍ أو جدراناً آيلة للسقوط، ولكنها تقول إنَّا ها هنا باقون، وإنَّا إلى أرضنا راجعون، وإلى قرانا ومخيماتنا عائدون، هنا هويتنا، وفوق ترابنا بقيةٌ من دمنا، وتحت الثرى الكثير من شهدائنا.

انتهى العدوان، ورحل جنوده يجرون أذيال الخيبة، يعضون على شفاههم، ويأكلون أطراف أصابعهم، غيظاً وكمداً، وحسرةً وأسى، إذ ما نفعهم طيرانهم الحربي، ولا صواريخهم المدمرة، ولا قنابلهم المزلزلة، ولا شيء مما أعدوه واستخدموه، أو أخفوه ولم يظهروه، وقد كانوا يمنون أنفسهم بنصرٍ ناجزٍ، وفوزٍ كاسحٍ، يذل الفلسطينيين، ويرغم أنوفهم، ويجبرهم على الصراخ والعويل، والبكاء والنحيب، طلباً للأمان، وسعياً وراء السلامة، وإيثاراً للحياة بذل، والعيش بمهانة، ولكن غزة خيبت ظنهم، وأيقظتهم من سكرتهم، وتركتهم في خلافاتهم يتخبطون، وفي اتهاماتهم لبعضهم يتلاومون، وقد كزت على أسنانها بعزمٍ ومضاء، وإيمانٍ ويقين، أن أحداً بعد اليوم لن يهزمنا، وأن عدواً بعد اليوم لن يقهرنا.

لكن الفلسطينيين الذين فرحوا بالنصر، وخرجوا إلى الشوارع مبتهجين مهللين، يحملون الرايات، ويدقون الطبول، ويطلقون العنان لأبواق سياراتهم، ويحملون أنفسهم فوق الأعناق، ويمسكون بأيدي بعضهم في الشوارع والطرقات، يعقدون حلقات الدبكة، ويرددون أهازيج النصر وأغاني العزة، هم أصحاب البيوت المدمرة، والأحياء المنكوبة، ممن لا مكان عندهم يبيتون فيه، ولا يجدون ما يلبسون غير بقايا ثيابٍ، وتلافيق وجدوها تحت الركام، أو منثورةً فوقه، لكنها تصلح للسترة، ولا تعيب صاحبها، وهم أهل الشهداء وذوو الجرحى والمصابين، الذين لا يزالون في المستشفيات يتلقون العلاج، وتعدادهم يفوق العشرة آلاف، وهم أيضاً البقية الباقية من الأسر المنكوبة، التي قتل أغلبها، وشطب أكثرها.

الفرحة التي عمت قطاع غزة وبدت على سكانه، وعبر عنها الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، بكل الأشكال والهيئات، أكبر من فرحتهم بانتهاء الحروب السابقة، وإن كان العدو واحداً، وسياسته نفسها لم تتغير، إلا أن هذه الحرب مختلفة شكلاً وجوهراً، وعمقاً واتساعاً، وشمولاً وتنوعاً، استخدم خلالها العدو كل أسلحته، واستخرج من ترسانته أشدها فتكاً وتدميراً، واستدعى من حلفائه أقواها وأكثرها قدرةً على الاختراق والتدمير، والوصول عميقاً تحت الأرض.

رسالة الفلسطينيين عموماً وفي قطاع غزة خصوصاً إلى العدو الإسرائيلي، أننا اليوم نغزو ولا نٌغزى، ونهاجم ولا يعتدى علينا، ونقاتل ولا نلقي بندقيتنا، ونجوع ولا نفرط في سلاحنا، ونموت ولا نسلم رمز عزتنا، فلا يعتقدن أن ما عجز عن تحقيقه بسلاحه، سيحققه عبر حلفائه وأصدقائه، وما فشل في إحرازه في الميدان سيناله على طاولة المفاوضات، فهذا شعبٌ يقظٌ واعيٌ، ومدركٌ فهيمٌ، يعرف أن سلاح المقاومة هو الذي قهر العدو وأجبره، وهو الذي أزعجه وأقلقه، فلا تفريط في هذا السلاح، ولا تخلي عنه، بل إنه الذي سيأتي ببقية الحقوق، وسيستعيد ما فقد منها.

دبت الحياة في قطاع غزة من جديد، ونفض الناس غبار الحرب، وبدأوا في إزاحة الركام، ورفع الأنقاض، واستعادة ما بقي صالحاً من المتاع، وإنقاذ ما أمكن من الأثاث، والكل فرحٌ وسعيد، باشٌ يمشي في الطرقات، يشعر بعزة المقاومة، وقوة الشعب، ولا يبدي خوفاً أو جزعاً، فجداره مكين، ومقاومته عنيدة، وحصونها منيعة، وإرادتها صلبة، وعزمها شديد، وحنينها إلى المقاومة لا يضعف ولا يفتر.

الفلسطينيون جميعاً شركاء في النصر، ومتساوون في الأجر، جمعتهم المقاومة، ووحد صفهم القتال، فكانوا صفاً واحداً في مواجهة العدو، الذي أعياه تكاثفهم، وأضناه تعاونهم، وأربك خططه تفاهمهم، وأفشل برامجه تنسيقهم، ودقة عملياتهم، وسرعة ردودهم.

اليوم في غزة يتصافحون جميعاً، ويتبادلون التهاني، مباركٌ النصر، وهنيئاً الانتصار، وعقبال التحرير والعودة، ويوزعون الحلوى والسكاكر، وكلهم أملٌ ويقين أن زمن الانتصارات قد أقبل، وأن الزمن الذي كان فيه العدو يغزوهم ويعتدي عليهم قد أدبر، وأن صبح الانتصارات قد أسفر،  فلا عودة لزمن الهزائم، ولا خضوع لهيمنة الغاشم، مهما كان سلاحه، وأياً كان حليفه وناصره، فالله معنا، وهو يكلأونا ويرعانا، وهو حامينا وناصرنا.

لكن لا تأخذنا نشوة الانتصار، وسكرة الفرح، وحبور الأمل، فننسى غدر العدو ومكره، ونتجاهل خبثه وجبنه، فقد ينكث العهد، ويخون الوعد، وينقلب على الاتفاق، ولا يلتزم ببنود التفاهم، ولا يراعي أصول الرعاية والوساطة، فضلاً عن أننا لم نستعد حقوقنا كاملة، ولم نحقق شروطنا كلها، إذ ما زال الكثير منها عالقاً وينتظر التفاوض، وممنوعاً وينتظر الضغط، وصعباً ويلزمه الفرض، الأمر الذي يفرض على الفلسطينيين جميعاً مواصلة التلاحم والاتفاق، والتعاون والتنسيق، لنبقى في مواجه العدو وحلفائه أقوياء، فلا يتآمرون علينا، ولا ينتهزون ساعة ضعفنا أو اختلافنا فينقلبون علينا.

مرحى بسواعد غزة الأبية، وشكراً لمقاومتها الفتية، فقد والله صنعت لنا فخراً، وطوقت أعناقنا بأكاليل الغار، ورفعت رأسناً عالياً نباهي ونفاخر، أننا ننتمي إلى هذه الشعب الجبار العظيم، الذي انتصرت عينه على المخرز، وغلبت إرادته الحصار، وتجاوز ضعفه بالإرادة، وقهر المتآمرين عليه بالصدق، وصنع انتصاره بالصبر، ورسم صورته بالدم القاني، وسلط الضوء على قضيته بالتضحية والتفاني ... هنيئاً لك غزة.