هم حسموا أمرهم ... فماذا ننتظر؟
هم حسموا أمرهم ... فماذا ننتظر؟
أنس العبدة
إن زيارات رئيس الوزراء البريطاني لواشنطن في السنوات الثلاث الأخيرة غالباً ما تعطي الانطباع بأن مصيبة معينة على وشك الوقوع. فبعد إعادة انتخاب بوش مباشرةً انطلق لسان توني بلير قبيل زيارته لصديقه في واشنطن بالحديث عن مبادرة جديدة تتعلق بالشرق الأوسط في محاولة للتقليل من الآثار السلبية للمصيبة آنفة الذكر.
وبالطبع فإن العزف على وتر القضية الفلسطينية يجد
آذاناً صاغية في أوساط حزب
العمال الحاكم في بريطانيا كما أنها تدغدغ عواطف وآمال المراهنين على عدالة ومصداقية السياسة الأنجلوساكسونية في منطقتنا المنكوبة. هذا المسلسل تكرّر كثيراً منذ حرب الكويت مروراً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية فحرب العراق، وهاهي معركة الفلوجة تقرع أجراس كارثة جديدة مع بداية مشهد متجدد لذلك المسلسل الذي يبدو أننا لم نسأم متابعته بعد. المحزن في الأمر أن عدداً كبيراً من المثقفين العرب انضموا إلى جوقة الردح العربية في تعاملهم وتحليلهم للأحداث الجارية حالياً، هذه الجوقة قضت جلّ وقتها إمّا في تحليل الأحداث بهوى أمريكي غير مبرر أو في محاولات نصح خجولة وغير مقنعة من خلال تذكير الأمريكيين وإدارتهم بأن مايفعلونه لن يكون في مصلحتهم على المدى الطويل.
والمشكلة هي أن المواطن الأمريكي لم يستمع لهذه الجوقة كما أن الإدارة الأمريكية لاتضعها في حساباتها، فعنصر الخوف صار مسيطراً حيث تمكن المحافظون الجدد من غرسه بذكاء في حالة اللاشعور الأمريكي لدرجة توحي بأن أهل الفلوجة على وشك احتلال نيويورك.
والغريب أن المواطن الأمريكي نسي نصيحة رئيسه الأسبق روزفلت عندما قال في حفل تنصيبه عام 1933: "إن الشيء الوحيد الذي يجب أن يخشاه الشعب الأمريكي هو الخوف بحد ذاته"، محذراً شعبه من استخدام الخوف كأداة سياسية تحجب الناس عن الحقائق وتدفعهم بغريزية مفرطة للتفكير بقلوبهم بدلاً من عقولهم، هذا بالضبط ماتريده الإدارة من شعبها فقد حسمت أمرها لتنفيذ ماوضعته من خطط غير عابئة بأحد، متسلحة بأغلبية ثلاثة ملايين ونصف صوت توفر لها الغطاء الشرعي لأي سياسة ترتئيها في الأربع سنوات القادمة، مذكرة الجميع بمقولة وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر: "إن الدول لديها مصالح لامباديء". هكذا إذاً يبدو الوضع على أرض الواقع وعلى الجميع عربهم وعجمهم أن يتعامل مع هذه الحقيقة.
إن طريقة تفكير وأسلوب عمل الإدارة الأمريكية الحالية وأيديولوجيتها تختلف اختلافاً كلياً عن سابقاتها، وكل من يريد أن يتعامل مع هذه الإدارة بالعقلية القديمة فعليه أن يعيد النظر. فهي لاتعير اهتماماً يذكر لحقائق الوضع الراهن في العالم، فهي ترى بل تعتقد أنها قادرة على تغيير ثوابت هذا الواقع وصناعة الحدث ومسوغاته ومجرياته، فالثوابت تصبح متغيرات وقيم المباديء المطلقة تتحول إلى نسبية: في السياسة كل شيء يصير ممكناً.
لذا فإن الإسهاب في توصيف الواقع الحالي للولايات المتحدة ودورها في العالم والإمعان في إيجاد المبررات سواءً لمواجهة أو دعم توجهات هذه الإدارة يصب في باب الترف الفكري الذي يُشعرنا بالراحة الآنية مع الإبقاء على الصداع الشديد الدائر في ثنايا العقل. وبمعنى آخر فإن الإدارة الحالية مصممة على تفكيك ماتبقى من عناصر النظام العربي التي لاتخلو من اهتراء وإعادة تركيبها وفق منهجية ورؤية واضحة تضع مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل أساساً لبنائها الجديد.
وهكذا فإن محاولة الدفاع عن الحالة العربية الراهنة والأنظمة الرسمية التي أثبتت فشلها على جميع الأصعدة تبدو محاولة يائسة إن لم تكن فاشلة. كما أن الانضواء تحت راية المشروع الأمريكي غير مقبول أصلاً خاصة في ظلّ ماحدث ويحدث في العراق، فكارثة الفلوجة دليل على فشل هذا المشروع وقصر نظر كل من راهن عليه من انتهازيي الأحزاب السنية والشيعية.
فالمعاني النبيلة لمفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية لايمكن أن تنتشر وتترسخ بأساليب قذرة بعيدة كل البعد عن تلك المفاهيم، فالحروب ـ كما قال جورج باتن الجنرال الأمريكي الشهير في الحرب العالمية الثانية ـ وإن اشتعل أوارها بالأسلحة الفتاكة إلا أن الرجال ومن يقودهم من ذوي الروح المعنوية العالية هم من يحددون المنتصر في النهاية. ولكم في فيتنام مثال لما يقوله الجنرال الأمريكي. مع العلم بأن عدداً من المراقبين في واشنطن قد أشار إلى أنّ لهجة البنتاغون لم تعد كسابق عهدها مليئةً بالثقة والتفاؤل، إذ يقر كثير من المسؤولين أن المعركة العسكرية وإن كان حسمها سهلاً إلا أن ضمان نتائجها السياسية المرجوة تبدو بعيدة المنال.
وعليه فإن الخيار المنطقي لشعوبنا وأمتنا هو في مواجهة محاولات التغيير القادمة عبر المحيطات بمحاولات تغيير مضادة وجذرية من حيث المضمون والهدف واضعة في أولى أولوياتها مصالحنا الحيوية والاستراتيجية، فلم يعد ممكناً الاعتماد على النظام العربي بهيكلياته المتآكلة في حماية ماتبقى من مقدراتنا ومكتسباتنا، ففاقد الشيء لايعطيه.
وعند انعدام الثقة في هذا النظام ومؤسساته فلا بد من اللجوء إلى الوحدة الأساسية المكونة لجسم الأمة وهي الفرد العربي باعتباره الخاسر الأكبر في مايحدث الآن ومحاولة العمل على أمرين اثنين:
أولاً: رفض الاستبداد بكل أشكاله وصوره سواء السياسية منها أو الاقتصادية وحتى الاجتماعية ومقاومته بكل الأساليب العملية الممكنة وطرد ثقافة الاستبداد وكل مايرفدها من حياة الإنسان العربي و تكريس الحرية كمعنى أساسي.
ثانياً: مواجهة حالة التشرذم الداخلي بأبعادها الطائفية والعرقية والقبائلية. هذا الضعف الداخلي الشديد يجعلنا مجرد فرصة في انتظار الاقتناص، وإلا مالذي دفع الولايات المتحدة لاستهداف العراق دون كوريا الشمالية أو إيران مع استواء البلدان الثلاثة في ميزان الشر الأمريكي؟ الجواب ببساطة هو ما قاله نائب الرئيس الأمريكي تشيني عندما سئل عن ذلك الاستهداف:" لأن فعل ذلك ممكنٌ " .
وقع العراق ضحية كونه الحلقة الأضعف، ويشير كثير من المراقبين إلى أن الحلقة الأضعف القادمة لن تكون إيران أو سورية أو كوريا الشمالية وإنما السودان، ولكم أن تدركوا الأسباب الكامنة وراء ذلك.
إن استمرار البعض في نهج التباكي على عدم عدالة الديمقراطية الأمريكية وتمسك شريحة أخرى عريضة بحسن الظن بها لن يقودنا إلا إلى مزيد من الكوارث. فعلى هؤلاء المثقفين تقع مسؤولية الاعتراف بأخطاء الماضي والعمل الفوري على نقد الواقع العربي بنفسية نزيهة وشريفة وطرح الحلول الممكنة في سبيل مواجهة الخطر الأمريكي الذي لن يستثني أحداً في النهاية. وأمام هؤلاء المثقفين فرصة نادرة للتعويض عن تقصيرهم برفع الصوت عالياً ضد النهج الأمريكي في العراق وضد الوحشية الممارسة في الفلوجة وفي كل المدن العراقية المقاومة. هذه الوحشية التي شهدنا جزءاً يسيراً منها بأم أعيننا من خلال الصور التي بُثت على الفضائيات الإخبارية الأمريكية والتي ربما سقطت سهواً من مقص الرقابة العسكرية حكمت على المشروع الأمريكي بالفشل في نهاية المطاف.
إن كل مايطالب به أي عراقي وطني هو جدول لانسحاب الاحتلال وقيام دولة يشعر الجميع فيها بالحرية والعدالة والمواطنة الصادقة. وإن القادة السياسيين والدينيين العراقيين الذين اختاروا الصمت عندما نطقت فوهات البنادق والمدافع والدبابات والطائرات الأمريكية في الفلوجة إنما ارتكبوا خطأً استراتيجياً فادحاً. فهذا الصمت يؤدي إلى تكريس التشرذم الطائفي ويكشف زيف دعاوى الحرص على مصالح العراق بكل مكوناته.
ولعل الشيء الإيجابي في كل مايحدث الآن هو أن السياسة الأمريكية تدفعنا جميعا بعنف وتصدمنا بقوة لأن نمعن النظر في داخلنا الممزّق وأن نحسم أمرنا كما حسموا أمرهم.