العرب وطاعون الكرسي القاتل

منير مزيد / رومانيا

[email protected]

كنت جالساً في شرفة شقتي ، أدخن سيجارتي، وفكري كان منهمكاً في مكالمة جرت بيني وبين سفير عربي في رومانيا. وكان في داخلي شعور ممزوج بالحزن والفخر ، بالفخر بما كتبته عن فاسد أغضب سعادة السفير؛ ليتصل معي هاتفيا معاتباً فيما كتبت ، ولأنني أحترم وأقدر هذا السفير الذي يعمل بجد لأجل صورتنا كعرب ؛ لهذا لن أتحدث عن فحوى المكالمة ، وما جرى بينه وبيني من حديث ، و سأعد ما قاله كبوة حصان ، إلا أن ما قاله خلق في داخلي شعورا بأن أمتنا فعلا تحتضر ، وأن أوطننا صارت ملعبا للصوص ، وبنفس الوقت أعطاني دون أن يدري شحنة إيمانية دفعتني إلى مواصلة الطريق ، وأبقت قلمي ـ إلى أن يتغمدني الله برحمته ـ خارج غمدة لمن اغتمد الليل من هؤلاء اللصوص والفاسدين الذين عاثوا في الأرض خراباً وفسادا ، وحولوا شعوبنا إلى عبيد، وطلبوا ولاء الطاعة والتغني بأمجادهم السرابية، والويل لمن خالفهم في شتات النفي أو القتل أو السجن أوالتعذيب في زمان العَثاعِث. . وأود تقديم نصيحة لسعادة السفير بأن عليه أن يتذكر بأنه سفير دولة وليس سفيرا عند هذا الفاسد ، وأنك يا سعادة السفير تمثل كل أبناء دولتك ، وفيهم من لا يرضى بالمفسدة.

وأود تقديم نصيحة لسعادة السفير بأن عليه أن يتذكر بأنه سفير دولة وليس سفيرا لهذا المسؤول الفاسد الذي اقتربت نهاية خدمته وطرده وربما محاكمته ، وأنك يا سعادة السفير تمثل كل أبناء دولتك حتى الخونة والصعاليك والكفار حسب تصنيف الفاسدين ، وهم من أبناء دولتك الذين تخدمهم جميعا بلا استثناء ، وتذكر بأنك عربي أصيل وحاج لبيت الله ، وأنت تعرف جيدا من هو منير مزيد الذي لا يسمح لضميره بأن يتجمد أو يموت . ولو أعرف يا سعادة السفير بانك فاسد لا سمح الله ما انتظرت لحظة لكي أكتب عن فسادك ، وأود تذكيرك بما قاله نبينا العظيم محمد صلوات ربي وسلامه عليه: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، حاكماَ في عباد الله بالإثم والعدوان، ولم يغيّر عليه بقول أو فعل، كان على الله أن يدخله مدخله وقال أيضاً: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان وقوله كذلك: لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول به، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا، فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى والله تعالى يقول: فلا تخشوهم واخشوني... والساكت عن الحق شيطان أخرس، يستحق عذاب الله بسبب سكوته . وأود تذكيرك كذلك بموقف الخليفة العادل ( عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه حين وقف ليخطب في الناس

فيقول : أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم... وإذا بأحد المسلمين يقول لعمر بن الخطاب أمام الجمهور: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا فيرد عمر عليه: الحمد لله الذي أوجد من يقوم اعوجاج عمر بحدِّ سيفه .

 سرعان ما رن هاتفي الخلوي من شاعر روماني يطلب مني مشاهدة برنامج يعرض على القناة الثقافية ، وفعلا أسرعت للذهاب إلى التلفزيون لمشاهدة العرض ، في تلك اللحظة لم يصمت تلفوني من أصدقائي الرومان؛ فأغلقت جهازي متابعا العرض المثير للراقص الفنان الفلسطيني(طارق حلبي).

 (طارق حلبي) : فلسطيني ـ أمريكي، يقيم حاليا في بروكسل ، تخرج من جامعة ايوا ، وحصل على شهادة بكالوريوس في الفنون الجميلة في أداءِ الرقصِ . عاش وعمل في مدينة نيويورك لمدة ثلاث سنوات كراقص مستقل ، وقدم العديد من العروض مع مؤسسات عدة، وراقصين منفردين، قبل أن يبدأ مشاريعه الخاصة، وتلك الـمشتركة مع عدد من أصدقائه. أما المفاجأة الكبرى فكانت في الجهة المنظمة لهذا العرض ومكانه الذي قدم فيه الفنان (طارق حلبي) فنه الرفيع على مسرح ميتروبولتون في بوخارست ، حيث شارك في مهرجان " اكسبلورار دانس " والذي يعني بالعربية مهرجان مستكشف الرقص وذلك في 14 أكتوبر 2008 ..

 حين علمت بأنه كان موجودا في رومانيا ، ولم تتح لي فرصة التعرف إليه ، أو مشاهدة عرضه الحضاري ، والشعور بالفخر بأن فنانا فلسطينيا حرا يعرف تفاصيل القضية ومرآتها بلغته العصرية ، وهو بهذا الأداء الفني أفضل بكثير من تلك القيادات السياسية الهرمة ودعاة النضال والثورة ، وفي المقابل شعرت بحزن شديد وغضب وَهَمّني نفر من أبناء الجالية الفلسطينية في رومانيا لا هم لهم إلا الصراع على مناصب لا يستحقونها ، وكأن فلسطين أمست بينهم كعكة والكل يريد نصيبه منها بعد خطاباتهم الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، وعزائم يستعرض فيها كرمه لينال رضا أصحاب " الكروش المنتفخة " وقد (نامت نواطير.... عن ثعالبها) وكأن فلسطين سوف تحرر بالخطب وموائد الطعام ، والطامة الكبرى جهلهم بقيمة الفن في خدمة القضية الفلسطينية ، فإذا كان الفنان (طارق حلبي) يرقص لأجل فلسطين ، فهناك من يرقص على جراحنا فرحا ليحظى بالدولارات الوافدة لدعم قضية فلسطين وتلك الدولارات التي يتصارع عليها ما يسمى بقادة النضال الفلسطيني ...

لو أن هؤلاء فعلا تهمهم قضية فلسطين ما تركوا هذا الفنان ليكون ضيفا على الرومان في حضرة غيابهم الذي لم تعرف خلاله الجالية الفلسطينية بوجوده وحضوره المتميز ، وكان الأولى لو قامت هي بتقديمه إلى الرومان ، فأي كارثة حلت علينا كفلسطينين وعرب حين تولى أمرنا هؤلاء الفاسدون (ولات حين مناص) ..

 حقيقة أتمنى لو يفهم دعاة النضال والمقاومة بأن فنانا مثل (طارق حلبي) يخدم القضية الفلسطينية أكثر في الغرب من الفصائل الفلسطينية التي لا هم لها إلا " الكرسي " مرض عقدة الإنسان العربي المعاصر حتى لو كان كرسيا من سراب ..

 أما العرض الذي قدمه الفنان طارق حلبي فهو فنتازيا تعج بالألم والفجيعة ، وكوميديا ملونة، يتناول فيها مأساة الإنسان الفلسطيني وتصوير معاناته في البحث عن كينونته الوجودية والحضارية ، وعن هويته المسلوبة وعن أرضه ووطنه وقد عبر بأداء مدهش عن حيرة الإنسان الفلسطيني جراء ما حدث له وحالة اللاتوازن والضياع والشتات و الترحال الفلسطيني الـمتواصل ، وسخر بشكل فكاهي من ألمه وجرحه الجماعي حتى أبكى غيرنا قبل أن يباكينا.

ويقول (طارق حلبي) معرفا بمشروعه الثقافي : أتعامل مع هذا الـمشروع الراقص على أساس أنه وسيلة لزيادة معرفتي واطلاعي على الوضع الفلسطيني، لعله يساعدني على فهم التركيبة الـمعقدة لهويتي ، فأنا فلسطيني أميركي، ولدت في المملكة العربية السعودية ، وأحمل الجنسيتين الأردنية والأميركية ، وتربيت على تعاليم الكنيسة الكاثوليكية ، وانتقلت للعيش في أمريكا، وأنا في العاشرة من عمري..

 ويؤكد (حلبي) على أنه قد عاش بعيدا عن فلسطين ، وشعبها، إلا أن الضياع والارتباك اللذين يعيشهما ناحية هويته ما هما إلا حالة يختبرها الكثير من الفلسطينيين، وهذا ما يحاول الفنان (حلبي) إبرازه في عروضه الفنية وبالتالي هذا يصور أو يعكس المعنى الحقيقي بأن تكون فلسطينياً في يومنا هذا..

 وأخيرا أتقدم بالشكر والعرفان للفنان (طارق حلبي) على ما يقدمه لأجل فلسطين و شعبها ، وكذلك أتقدم باعتذار لأخي الذي لم أحظ بشرف اللقاء معه في رومانيا...