العلم العراقيّ .. سيادة ، وعروبة ، وإسلام
العلم العراقيّ .. سيادة ، وعروبة ، وإسلام
د. محمد سالم سعد الله
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
تشكل الحياة الرمزية في حياة الشعوب مُلهماً حيوياً للإبداع ، والانفتاح على الآخرين ، لأن هذه الحياة تنبني أُسسُها على نمط إشاري دلالي يعد مرحلة انقلاب جذري في الثقافة المحلية بشكل خاص ، والثقافة العالمية بشكل عام ، ويُعد هذا النمط لغة تركيبية تُعنى بالبحث عن المعاني والمضامين الفلسفية والنفسية ، بل وحتى التربوية المحيطة بتلك الرموز ، وبهذا التمثل أصبح لكل ثقافة رمز ، ولكل رمز أشكال وخطوط ، فأصبح نظامُ الحياة نظاماً رمزياً منفتحاً على مجموعة من الرسائل المنتظمة التي تشير إلى إمكانيات قومية سيادية ، أو دينية ، أو فكرية عقدية .
إنّ التحول من الحياة الواقعية المباشرة إلى الحياة الرمزية المركبة يُعد تحولاً على صعيد معايشة الغيب ، والانفتاح على اللاوعي ، لأن النظام الرمزي يتم اختياره وفقاً لآلية تتعلق بالجانب الميتافيزيقي ، أي الجانب اللاواعي من الإنسان ، والذي يمثل وسيلة من وسائل الاتصال مع الغيب ، وتحديد علاقة الفرد بربه ، ومن الجدير بالذكر أن محاولة تحليل الرموز وفك شفراتها تعتمد بشكل أساس على الإيمان بجانبين : الإيمان بقيمة الثقافة المحلية على تمثل الرموز ، والإيمان بالعلاقة المتزنة التي تربط اللاوعي بالوعي ، أي التي تربط بين الجانب الغيبي بالجانب الواقعي .
لقد تعامل الإنسان عبر مراحل تطوره مع الرموز بشكل منفتح وحيوي ، إذ مثلّ ذلك قمة التعامل مع الذات بوصفها المحور الأساسيّ الذي ترسل إليه وتنبعث منه الرسائل الإشارية ، إذ أسهمت في حفظ تجارب الشعوب والأفراد ، ولذلك تميزت الشعوب باتخاذ مجموعة من الرموز حفظت لها فكرها وتوجهها المعرفي والحياتي ، فضلاً عن حفظ التوجه السلوكي لها ، فمثلاً : ( دولة العراق اتخذت الصقر رمزاً لها ـ فضلاً عن عدد من الدول العربية : مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة واليمن والجزائر .. ـ ، فرنسا اتخذت رمز الديك ، أمريكا اتخذت رمز النسر ، بريطانيا اتخذت رمز الأسد، إسرائيل اتخذت رمز الخفاش ، الصين اتخذت رمز التنين ، .. إلخ ) ولكل منها دلالته الرمزية .
إن هذا التوجه الرمزي يحيل بشكل دائم إلى اطمئنان الفرد أو الجماعة إلى تمثلات اللاوعي المحتواة في تلك الرموز ، فضلاً عن اعتزاز معرفيّ وثقافيّ وتاريخيّ موجه من قبل الإفراد إلى تلك التمثلات ، إذ غدت بوصفها ( طوطم ) يلجأ إليه الفرد لشحذ الهمم ، وقد تطورت هذه التمثلات من اتخاذ الحيوان بوصفه رمزاً يحمل إرثاً ثقافياً ومعرفياً وقومياً متسعاً ، إلى تمثل من نوع آخر وهو : اتخاذ صيغة الألوان على شكل أعلام مخصوصة تُحمّل بطاقات دلالية لا تحيل إلاّ إلى ثقافة بيئية معينة ، ولا تشترك ـ عادة ـ صيغة الألوان في علم معين بأكثر من توجه معرفيّ وتاريخيّ لأكثر من دولة إلاّ على سبيل التشابه الدلالي العام المنتمي إلى دين أو معتقد أو إقليم أو نحو ذلك .
إذن يمكننا القول أن العلم بوصفه تمثلاً رمزياً قد جمع الإرث المعرفي والثقافي المخصوص لتجمع سكاني محدد ، أو لقومية بشرية معينة ، ولا يمكن اتخاذ التمثل اللوني في علم معين بشكل اعتباطي وفردي ، لأن ذلك يتم وفقاً لاختيار جماعي يُطلق عليه في علم النفس التحليلي : ( اللاشعور الجمعي ) .
ولهذا يمكننا الحديث عن التمثل الرمزي للعلم العراقي ( القديم والجديد بصيغتيه : النجمية والهلالية ) من خلال ما يأتي :
أولاً : الرمزية اللونية . ثانياً : الرمزية الثقافية .
q الرمزية اللونية :
يتشكل العلم العراقي ( الصيغة النجمية ) من أربعة ألوان : ( الأحمر ، والأخضر ، والأبيض ، والأسود ) ولا يوجد من بين هذه الألوان أرضية لونية عامة ، بل تشكلت بوصفها قيماً جمالية متوزعة على مساحات عيانية متوازنة ، فضلاً عن اكتساب اللون الأخضر مساحة موجزة محددة في إطار الرمز الثقافي المشكل للتوجه العقديّ لدولة العراق وهو الإسلام لأنّ للنجمة دلالة ربانية تشير إليها الآية الكريمة " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " ( سورة ، الآية : ) ، ويمثل اللون الأخضر مساحة لونية تحتكم إليها بقية ألوان العلم العراقي ضمن مصطلح تشكيليّ يطلق عليه ( نقطة الارتكاز ) ، أو ( بؤرة التوتر ) ، أو ( نقطة الإشعاع ) ، بمعنى أن الألوان الثلاثة الأخرى وهي : ( الأحمر ، والأبيض ، والأسود ) تحتكم في جماليتها اللونية الدلالية على القيم الدلالية المنبعثة من اللون الأخضر ، وبهذا يمكننا القول أن الألوان الرباعية في العلم العراقي ذي الصيغة النجمية قد اكتسبت اتجاهين : الأول محدد ببؤرة التوجه العقدي ( الأخضر ) وهو بؤرة الارتكاز ، والثاني محدد بمتممات التوجه السابق التي تشير إلى السلوك المعرفي والثقافي والقومي في رمزية ( الأبيض ، والأسود ، والأحمر ) من جهة تشكيل المساحة اللونية المتساوية المتزنة الممتدة عرضاً ، ويحيل الامتداد المعرفي لرمزية الاتجاه العرضي إلى التوجه التعايشي السلمي مع الآخر في إطار صياغة المعنى التراجيدي للإنسانية ، فضلاً عن صناعة المشهد الفكري الباني في الأساس على تحديد توجه الدولة القاضي بإنشاء علاقات التسوية والتفاوض لا علاقات الاختزال والتهميش ـ وهذا يعلل التوجه الممتد عرضاً في بعض الأعلام العربية مقارنة بالتوجه الشاقولي في بعض الأعلام الأوربية ـ ، وتقع ألوان هذا العلم ضمن متوالية نسقية متدرجة متوازنة على سلم النظر في العين ، إذ يتدرج استقبال العين للألوان انطلاقاً من اللون الأخضر الذي يقع في وسطية شبكية العين ـ لذلك كان اللون الأخضر لوناً إسلامياً مباركاً ، فالجنة خضراء ولباسها أخضر وأرضيتها خضراء ، والنبات كلّه اخضر ـ ثم اللون الأحمر فالأبيض فالأسود ، فضلاً عن أنّ هذه الألوان الأربعة تمثل تجسيداً حركياً للمعطيات الدلالية الواردة في نشيد العرب ، في بـيت صفـي الديـن الحليّ : ( بيض صنائعنا ، سود مواقعنا ، خُضر مرابعنا ، حُمر مواضينا ) هذه المعاني التي تجسدت في أغلب الأعلام العربية الموجودة الآن انطلاقاً من مصر وسوريا ، مروراً بالأردن وفلسطين ، وانتهاءً بالتجسيد الجزئي لها كما في أعلام بعض دول الخليج وتونس وليبيا والجزائر .
أما العلم العراقي ذو الصيغة الهلالية فيتكون من ألوان ثلاثة : ( الأبيض ، والأزرق ، والأصفر ) ، فضلاً عن مساحتين أساسيتين للعرض أولاهما : مساحة العرض الكلي متمثلة باللون ( الأبيض ) ، ومساحة جزئية متمثلة بلونين : ( الأزرق ، والأصفر ) ، وعند تحديد الصيغ العقلانية أو غير العقلانية في التحليل النفسي لاختيار هذه الألوان الثلاثة يمكننا القول : أن اختيار هذه الألوان قد تمّ بشكل غير خاضع لسلوك معرفي تمثليّ لدلالات الألوان لا سيما وأن هذه الألوان تعد ألواناً لا تلتقي من الناحية الجمالية مع بعضها نسبة لاختلاف وقع كل منها على العين، فالأصفر يقع في الجهة المتطرفة من العين ويمثل أبعد ما يكون عن تلمس القيمة الجمالية بالنسبة إلى عملية النظر ، أما اللون الأزرق فيقع في مستوى متدرج على شبكية العين ، وكذلك اللون الأبيض ، هذا فضلاً عن التنافر المعنوي الدلالي بين علامات اللون الأبيض وعلامات اللون الأصفر ، فالأول يدل على النقاء والصفاء والودّ وفتح العقل والعاطفة في الحديث مع الآخر ، في حين أن اللون الأصفر ـ وحسب التحليل النفسي والفلسفي للألوان ـ يدل على معاني الحقد والغيرة والبغضاء والشحناء، والاعتزاز بالرأي وإن كان واضح الخطأ ، والحالة النفسية المضطربة والحائرة التي لا تعرف توجهاً معيناً ، ولا تلتزم بمبدأ ثابت ، وهي عرضة للتشنجات النفسية ، والكوارث المرضية ، وتعاني بشكل مستمر من عقدة النقص التي تحاول تعويضها بإيذاء الآخرين .
q الرمزية الثقافية :
يمكن القول أن الرمزية الثقافية المكنونة في رموز الدول من أيقونات وأعلام وخطوط إشهارية تكتنز دلالات متعددة وتشير بشكل دائم ومتجدد إلى الهوية التي بُنِيَ العلم من أجلها ، فالعلم في العُرف السياسيّ هو هوية أصيلة غير ممسوخة يختارها أبناء المجتمع الواحد ، أو أبناء القومية الواحدة ، أو أبناء الدين أو المعتقد الواحد ، ويكون دليلاً لهم ، ومؤشراً على هويتهم المخصوصة بشكل دائم ، ولنا في ذلك مثال مشهور جداً ، فراية الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) المعروفة وهي : ( علم ذو أرضية سوداء ممتدة ، وفي داخله لون أبيض مكتوب بمداده العربي الأصيل : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) ، والمعنى الدلالي المشتق من هذه الراية هو : أن جميع هذه الأرض الممتدة هي في ظلام دامس وظلمات ممتدة بعضها فوق بعض ، وأن الإنسانية جمعاء تعيش في جهل مطبق ، ولن تخرج من واقعها المأساوي هذا إلاّ بكلمة الشهادة التي توشحت بلون أبيض لتشير إلى أنها تنقي القلوب من أدرانها ، وتحي الأفئدة بعد موتها ، وتنقل الإنسانية من الظلمات إلى النور ، وعلى هذا الغرار اكتسبت جميع ( الرايات ) القديمة والحديثة التي تطورت إلى (الأعلام) سيادة وقومية ومعتقداً ، والعلم العراقي ( ذو الصيغة النجمية ) ليس بدعاً من ذلك ، فقد اكتسب عبر سنين خلت ميزات ثلاث هي : ( السيادة ، والعروبة ، والإسلام ) ، السيادة متمثلة بالاختيار الأفضل لتطلع الجماهير في اقتناص الدلالات الملائمة للنسق والسلوك العام للدولة من دون تدخل المحتل أو العميل ، والعروبة متمثلة بالمعاني السابقة التي بينّاها آنفاً، والإسلام من خلال واقعية كلمة ( الله أكبر ) ، ورمزيتها في الوقت نفسه ، محيلة إلى أنّ هذه الكلمة تلعن الجبابرة والمعتدين ، وتذيق المحتلين أصناف الويلات ، وتعطي تصوراً : أن الشعب الذي اختار لرايته كلمة ( الله أكبر ) لن يستسلم لعدوه أبداً، ولن يركن إلى كيد مغتصبه وحقده ، فضلاً عن تفاعل الجماهير في احتضان رايتهم لأنهم لا يرضون أن تنكس راية فيها كلمة ( الله أكبر ) .
أما العلم المقترح ( الصيغة الهلالية ) فهو مشروع يفتقر إلى النقاط الآتية : ( عدم الانسجام بين دلالات الألوان ، خلوه من أي رمز إسلاميّ ، خلوه من أية إشارة للعروبة ، لا يجسد السيادة الوطنية ، جاء باختيار الاحتلال وليس باختيار الشعب ، العناصر التي تبنته هي من الجهات المتعاونة مع الاحتلال أو العميلة له ، فيه تأثر بدرجة كبيرة مع علم الكيان الصهيوني المغتصِب ) ، والرموز الموجودة في هذا العلم قد تمّ اختيارها بشكل مضطرب لأنها حوت على أخطاء معرفية وعلمية فضلاً عن الأخطاء في جانب السيادة ، أما الأخطاء على الجانب المعرفيّ فهي عدم وجود هلال أزرق بوصفه رمزاً إسلامياً ، لأن الهلال الإسلامي الذي يُتخذ رمز يكون لونه أخضراً وليس أزرقاً ، هذا من جهة ومن جهة أخرى اللون الأزرق لا يدل أبداً على السماء ، ولا يدل على النهرين المجسدين في هذا العلم المقترح لسبب علميّ بسيط هو أنّ السماء غير زرقاء ، وكذلك النهرين ، وما يحصل في ذلك توهم ناتج عن انعكاس الألوان على قزحية العين فيبدو الأمر كما لو كان هذا اللون حقيقة للسماء أو للنهر ، فالسماء سوداء ، والماء لا لون له .
أما الخطأ على الصعيد السياديّ ـ وهو الأكثر كارثية ـ فهو التأثر الكبير بين هذا العلم المقترح وبين علم الكيان الصهيوني المغتصِب ، إذ لا توجد دولة في العالم تضع حداً طبيعياً في عَلمها سواء كان نهراً أو سهلاً أو جبلاً أو نحو ذلك عدا الكيان الصهيوني الذي وضع رمزية النهرين ( النيل ، والفرات ) ، فاكتسب بذلك خصوصية رمزية جديدة في تشكيل الأعلام ، وانطلاقاً من ذلك جاء العلم المقترح ليضع هو الآخر رمزية النهرين ( الفرات ، ودجلة ) هذا أولاً ، أما النقطة الثانية في التأثر فهي : كون علم الكيان الصهيوني قد ارتكز على نقطة توتر وهي ( نجمة داؤد ) التي تشير إلى السيادة المفترضة الثيوقراطية لليهود ، وجاءت بوصفها محصورة بين النهرين ، وتحيل إلى معنى : أن السيادة اليهودية الدينية وجناحها السياسي المهيمن ستكون ممتدة من النيل إلى الفرات ، تطبيقاً لأسطورة تلمودية تعِد اليهود بتقديم المُلك الغائب عنهم عبر آلاف السنيين ، وهذه السيادة المفترضة لا تمتلك حدوداً واقعية جغرافية ، لذلك لجأت إسرائيل إلى تمثل حدود طبيعية بوصفها رمزاً للدولة الوهمية المفترضة ، وإذا كانت إسرائيل قد حصرت نجمة داؤد بين النيل والفرات في علمها ، فإن العلم العراقيّ الجديد قد حصر بين نهريه دجلة والفرات اللون الأصفر الذي يشير إلى الأقلية الكردية ، وإذا أردنا الغور في دلالة ذلك لأمكننا القول : أن هناك علاقات غزل قائمة بين دلالتيّ الحصر بين العَلمين ، ولهما وجه للتشابه لا يخفى عن أي متأمل ، ومن الجدير بالذكر أنّ واضع هذا العلم لا يقصد منه تمثيل جميع شرائح المجتمع العراقي بأطيافه بشكل مؤكد ، لأنّ العلم لم يترك للأحبة الشيعة أي دلالة ، وكان من المفترض أن تكون أرضية العلم سوداء عوضاً عن كونها بيضاء لتشير إلى تمثل الجانب الكبير من الشعب العراقي ، ويمكننا أن نستغرب عند التحليـل كيـف تمثـل ( الأقلية ) في علم ( الأغلبية ) ، وهل هناك دولة علمية حضارية في هذا العالم الممتد تضع علمها ورمز أجيالها على رمزية الأقلية الموجودة فيها وعلى حساب الأغلبية ! ـ مع احترامنا وتقديرنا لجميع الفئات والشرائح ـ .
وفي الختام لا يحق لأية دولة تغيير رمزها ومنبع اعتزاز كرامة أبنائها إلاّ بالرجوع إلى شعبها ، لأنّ هذه الراية تعد تمثيلاً صادقاً على الصيغ العقلانية والعقدية التي يعتز بها أبناء المجتمع الواحد ، وطريقة التلاعب بمعطياتها المعرفية والفلسفية يكون وفقاً لذهنية علمية سيادية لا تخضع لأوامر المحتل ، ولا تستجيب لأنواع الضغوط الممارسة من قبل العملاء والمنتفعين .