سالُومَه عجرم ترقص في دم الشهداء

سالُومَه عجرم ترقص في دم الشهداء

د. جابر قميحة

[email protected]

حكم «هيرودس» الكبير مناطق فلسطين إلي سنة (4 ق. م) وكان ظالمًا قاسيًا, قتل كثيرًا من الزوجات والأبناء والأقارب, وأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم. مات وهو في السبعين من عمره, بعد أن حكم أربعًا وثلاثين سنة, ولم يفارقه شذوذه وغرامه بإراقة دماء الأبرياء وهو يحتضر, فأمر بقتل كل وجهاء القدس وأشرافها ساعة موته حتي يعم الحزن المدينة, وحتي لا يبتهج أحد بموته, بل يعم الحزن كل المدينة أيًا كان مصدره.
سالومه.. ورأس النبي يحيي
ولما تولي الحكم في هذه المناطق ابنه الثاني «هيرودس أنتيباس» (4 ق.م- 39م), أراد أن يتزوج «هيروديا» ابنة أخيه, وكانت بارعة الجمال, وكان مثل هذا الزواج محرمًا في الشريعة فعارضه بشدة نبي الله يحيي (يوحنا المعمدان), وكانت المرأة وابنتها الجميلة «سالومة» حريصتين علي هذا الزواج طلبًا للجاه والملك والسلطان .

ولجأت الأم إلي حيلة شيطانية, فدفعت بنتها «سالومه» في أجمل زينتها, وأخذت ترقص طيلة الليل رقصًا فاضحًا أمام الملك المخمور. ومن شدة انتشائه عرض علي الراقصة المتهتكة أن تطلب ما تتمناه, فطلبت منه -كما أوصتها أمها- رأس يحيي -عليه السلام- في طبق, لأنه كان العقبة الكأداء التي تقف في طريق زواج هيرودس بأمها. وحقق الملك الفاجر ما طلبته سالومه بتكليف من أمها.
وأتانا الربيع... الحزين
وحلّ أبريل.. شهر الربيع والمنطقة العربية تعيش أسوأ حالاتها, وأحطها, وأضعفها, وأشد فترات تاريخها حزنًا وفقرًا وبؤسًا, وتضاربًا وخلافًا واستسلامًا:
- فهناك مذابح في العراق, وخصوصًا الفلوجة, راح ضحيتها مئات من المدنيين, منهم شيوخ, ونساء, وأطفال, ومازال نزيف الدم يتدفق بلا انقطاع, زيادة علي ما يُنسَف من بيوت, ويُدمَّر من مساجد.
-وهناك المذابح اليومية التي يرتكبها اليهود في كل المناطق الفلسطينية, بوحشية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.
- واستُشهد الشيخ أحمد ياسين روح النضال, ورمز الإصرار والإرادة والعزيمة, اغتاله الصهاينة بطريقة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً, حتي إن أقسي الناس قلبًا يأخذه الجزع الأليم إذا نظر إلي أشلائه الممزقة المتناثرة بما فيها الأطراف والمخ وعظام الرأس. ثم بعد ذلك بأيام كان اغتيال الرجل الثاني عبد العزيز الرنتيسي بالصواريخ الموجهة من طائرات الأباتشي.

-         وبوش - بصلف ووقاحة- يعلن تحيزه الفاضح لإسرائيل, وتأييده لسياستها بإطلاق بما فيها من عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين, لأن من حق إسرائيل أن تدافع عن وجودها «بالطريقة التي تراها» علي حد قوله.
- وهوة الخلاف والتطاحن تزداد اتساعًا بين الأنظمة العربية, بقدر ما تزداد اهتراءً, واستسلامًا للإرادة الأمريكية , وابتعادًا عن المطالب والطموحات الشعبية.
- وفي مصرنا المحروسة يطّرد انحدار المستوي المعيشي, والاقتصادي والتعليمي, واشتد الغلاء بصورة لم يعرف لها المواطن شبيهًا, وانتشر الفساد والسرقة والرشاوي, وأصبح المصري يعيش غريبًا في وطنه في ظل نظام يحكم الشعب بالطوارئ, ويحرمه التعبير عن إرادته بحرية واطمئنان .
- تفاقم المشكلات إلي درجة يعجز العقل عن تصور مداها: الفقر, الإسكان, التعليم, البطالة... إلخ, وأخيرًا سمعنا عن مضاربة «حكومة بني عبيد» بأموال التأمينات والمعاشات, ومن خسائرها في المضاربات 900 مليون جنيه ولا أستبعد أن تصرف المعاشات لأصحابها مستقبلاً في شكل أقمشة من إنتاج المحلة, وفواكه وخضراوات من إنتاج مديرية التحرير, وأوراق تواليت, وبضائع عينية من الجمعيات الاستهلاكية, كما جري في روسيا.
سالومَهٍ عجرم في الربيع
هذه بعض ملامح مجتمعنا العربي والمصري, التي تظهر لكل ذي عينين في «ربيعنا الأسود الدامي». وكلنا قرأنا عما يسمي «المشاركة الوجدانية» وهي تعني - في إيجاز شديد: احترام مشاعر الآخرين, ومشاركتهم أحزانهم وأفراحهم, ولو تظاهرًا . فلا يُقبل من الشخص أن يبدي مظاهر فرح أمام آخر يعيش مناسبة أو حادثة محزنة. وأذكر أن أبي - وأنا طفل صغير- نهر إحدي قريباتنا لأنها أطلقت «زغرودة» في «عقد زواج» شقيقتي الكبري, والسبب أن جارنا المتوفي لم يربعن بعد, أي لم يمض علي وفاته أربعون يومًا. وتم عقد الزواج «سُكيتي»- كما كانوا يقولون- وذلك مراعاة لشعور أهل جارنا المتوفي.
***

-         ولكن أبطال إعلامنا -وعلي رأسهم الوزير الهمام جدًا صفوت الشريف- مازالوا يتمتعون بالقدرة الخارقة علي تحدي الواقع- لا بحل مشكلاته, أو بعضها- ولكن بالبصق في وجه شعبنا المكسور المحروق المطحون, فمكنوا «سالومه» العًصر- الشهيرة بـ «نانسي عجرم» من الوقوف في ثوب فاضح بواح, يكشف أكثر مما يستر, وهات يا رقص, وهات يا غُنا. وقد علق أحد الكتاب الطرفاء علي «ثوبها» بقوله «لقد أرادت نانسي أن تكون قدوة لشعبنا الفقير في «التقشف والتوفير», فلم تستهلك من القماش إلا قطعًا صغيرة.. يا ناس يا شر, كفاية قر».
وكنت أعتقد أن وسائل إعلامنا ستشارك الأمة العربية والإسلامية أحزانها بإلغاء برامجها المتهتكة الماجنة يومي استشهاد البطلين: أحمد ياسين, وعبد العزيز الرنتيسي مستبدلين بها تلاوة القرآن الكريم, والأناشيد الفلسطينية. وأحاديث عن فضل الشهادة, وقيمة الشهداء.. ولكن
ما كلّ ما يتمني المرء يدركه.
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفنُ
مبررات ثورة قادمة...
وأنا أرفض ثلاثة أرباع فكر الأستاذ حسين أحمد أمين, وقد فصلت اعتراضي هذا في مقالين نُشرا بـ «آفاق عربية». ولكني أعجبني منه جملة من مقال كتبه من قرابة عامين في صحيفة «القاهرة» بعد الذي رآه من حفلات ساقطة ماجنة في «مارينا» يقول فيه «... وما يحدث في مارينا يعد مبررًا من مبررات ثورة قادمة».
وأنا أقول للصفوتيين وأنصار المدرسة النانسية العجرمية: إن ما يقدم حاليًا في قنواتنا المحلية والفضائية من فن داعر يحطم قيمنا, وموروثاتنا الخلقية والدينية إنما يصنع مخاض ثورة عارمة نحن لا نريدها والله, فكفانا ما حدث لنا من هزائم وتخلف وضياع وذلة وفقر وحرمان بعد قيام الميمونة سنة 1952.
للصبر حدود يا سادة
وكما أطاحت «سالومه» برأس نبي الله «يحيي» إرضاء لشهوتها, وإرضاء لأمها التي هيمن عليها الحقد والروح البهيمي, وعشق العدوان والتهتك والجاه والسلطان والملاذ الحرام... أطاحت المحروسة نانسي عجرم برءوس آلاف من الشباب, واتزانهم, ورجولتهم, وهم يتمايلون معها في حركات هستيرية داعرة, وهي تغني وترقص في «عيد الربيع».. ليلة شم النسيم في 12 من أبريل 2004, وشعرت أنها - بشماتة- تخوض في دم أحمد ياسين, وكأنها تغطي المسرح الملعون. ليس هذا فحسب, بل استخدمت الجمهور «ككورس» يردد ما تقول, وهي في ثيابها العارية العارية تزداد حماسة, وعربدة وتمايلاً, ورأيت فيها «سالومه بنت هيروديا» وشعرت كأن رأس الشهيد أحمد ياسين يطل علينا من وراء كل مصباح في المسرح- رحم الله أحمد ياسين, ورحم الله هؤلاء الشباب ضحايا الإعلام وضحايا «سالومه عجرم».
وقلت في نفسي: هي ليلة ومرّت, ولكن الإعلاميين التلفازيين الصفوتيين مازالوا يخرجون ألسنتهم للناس ويعيدون عرض هذا الحفل الداعر في القنوات المحلية كلها, أو أغلبها, وأقول لقادتنا: اطردوا هذه السالومه العجرمية من بلادنا.. واتقوا الله في ديننا وخلقنا ووطننا وشبابنا, فإني:
أري خلل الرماد وميضَ نار
ويوشك أن يكون له ضًرامُ