قصة الإنسان المعتقل
قصة الإنسان المعتقل
1976 – 1985
د. محمود ترجمان
لكل فرد الحق في الحياة
والحرية
وسلامة شخصه
"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" المادة الثالثة
الإهداء
إلى من فقدتها..
إلى كل ضحية.. في بلدي
إلى كل المعتقلين،
من استشهد منهم
ومن لا يزال على قيد الحياة
تقديم
لكي يتأله الوحوش
عندما أخبرني الصديق محمود ترجمان بمشروع هذا الكتاب، أشفقت عليه من قسوة هذه الذكرى التي انتشلت من ربيع عمره تسع سنوات كانت فيها حياته وإنسانيته وجسده رهناً حلالاً مطلقاً لمخالب ضباع الاستبداد وأنيابهم وطبيعتهم المتوحشة.
أشفقت على أعصاب صديقي وروحه وحياته، لأن مجرد فتح الملف وتقليب صفحاته سيعيد إلى ذاكرته سنوات القهر والحرمان، وصورة الجلاد الوحش، والزنزانة المظلمة.
غير أنني فوجئت عندما وصلتني مخطوطة الكتاب بالبريد، وقرأته، بأن استعادة هذه الذكرى المؤلمة لم تبدل شيئاً من طبيعة صديقي الهادئة، ونظرته الإنسانية، بل جعلته يتعالى على الذين آذوه، ويترفع عن مجاراة روح الكراهية والحقد التي واجهوه بها، كما واجهوا بها هذه الأمة، منذ أن تسلّطوا عليها، وتحكّموا برقابها، وأهانوها، وسرقوا لقمة عيشها.
لن أقول إنني أحسد صديقي على تعاليه الإنساني على جراحه الخاصة.
ولن أقول: إنني أغبطه على هذه القدرة الرائعة على تحويل قضيته الفردية إلى قضية إنسانية، فهذه مواهب لا يستطيعها الرجل العادي، خاصة أولئك الذين ما يزال أبناؤهم أو إخوتهم أو أحباؤهم يعانون داخل معتقلات الكراهية والحقد ما عاناه محمود ترجمان على مدى تسع سنوات، أو أولئك الذين فقدوا أهلهم وأحباءهم، وربما بيوتهم وأرزاقهم في غارات وحوش الاستبداد عليهم، وفي مجازرهم التي ذبحوا فيها الأبرياء العزّل ذبح النعاج داخل السجون والمعتقلات، لا لشيء إلا لإرواء غليل الحقد والتسلط والانتقام، وتحويل هذا البلد الطيب إلى غابة يفترس فيها القوي الضعيف.
لا أعرف كيف قرأت مسودة الكتاب وأنا وراء زجاج نافذتي المطلة على ثلوج الشتاء القاسي، غير أن شيئاً أقسى من الثلج ذاب في أعماقي وراح يتدفق بالتعالي الإنساني مع هذه الرموز والعبر التي تملأ الكتاب والتي أتمنى للمتسلطين أن يقرأوه ويتخيلوا أن هذا الإنسان المعتقل قد يكون أخاً لهم أو أباً شيخاً تتدافعه ثلة من الجلادين ضرباً ورفساً، أو تربطه بالأسلاك والحبال وهو يصرخ ألماً ويذرف الدموع وينزف الدماء فلا يسمع إلا شخير الوحوش.
ثلاثة عقود وسورية هي "الإنسان المعتقل" الذي ينزف ويدمى لكي يروي غليل حكم الأحقاد والرعونة، ثلاثة عقود ظلت فيها قلعة بني أمية تذبح عِرقاً عِرقاً، وتنهب كنزاً كنزاً، وتُشيّع بطلاً بطلاً، وتستعيد عزيزاً بعد عزيز، وهاهي تتمزق كفريسة بين أشداق الضباع. ثلاثة عقود وهي تحارب العرب مع الفرس، وتقاتل تحت لواء واشنطن لترد "الصواريخ" عن تل أبيب إلى أن وجدت نفسها مرمية تحت أقدام الصهاينة تستجدي الاستسلام.
نعم أتمنى لكل جلاد أن يقرأ هذا الكتاب الإنساني المؤثر، ويتخيل أنه مكان هذا الإنسان المعتقل، لعله يدرك أخيراً مشاعر عشرات آلاف المواطنين الذين كسر قلوبهم ولوّعهم بأبنائهم وأحبائهم، ولعله ينبش ضميره من تحت الأنقاض، ويدرك أنه آن لهذا البلد الذي استعبد ونهب وأهين أن يرى ديمقراطية حقيقية تلم شمل كل المواطنين، وترأم جراحهم وتنتصف لهم من عهد اعتقل فيه الإنسان لكي يتألّه الوحوش.
د. عزت اللاذقاني
المقدمة
كيف أبدأ قصتي، وليست هي كباقي القصص، لها بداية، وليس لها نهاية؟
هل أصف السجون والمعتقلات وهي كثيرة؟ عدد المهاجع فيها، وعدد الزنزانات؟ طولها وعرضها، وكم تسعُ من المعتقلين؟ أساليب التعذيب والتفنن فيها؟
لقد سبقني المئات ممن اعتقل قبلي، وربما بعدي، إلى وصفها وتعدادها، وأصبحت حقائق وأرقاماً مثبتة في عقول الناس وضمائرهم، وفي سجلات العشرات من المنظمات والهيئات العربية والدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، قصد معالجة انتهاكاتها –وما أكثرها- في بلدي!
هل أصف شعور المعتقل وأحاسيسه وعواطفه عندما يُجلد ويُعذّب ويهان؟
عندما ينام ويستيقظ وحيداً في زنزانة مظلمة!
عندما يرى ما حوله ويسمع بكاء المعذبين ونحيبهم؟
عندما يأكل وكأنها آخر الوجبات؟
عندما يسمع رفيقاً له يصيح من كثرة الألم ولا علاج.. ولا دواء؟
هل أصف شعور الجلاد عندما يجلدُ ويقبض ثمن الأتعاب؟
وكيف يزداد الثمن كلما تفنن في أساليب الجلد والتعذيب والاضطهاد؟
وهل يستطيع أن يصف هذا الجلاد من ليس باستطاعته أو بعواطفه أن يكون جلاداً؟
وهذا أصعب ما في قصتي، قصة الإنسان.
السجون والمعتقلات في بلدي، ليس كمثيلاتها في باقي البلدان، فهي على أنواع.
سجن كبير
ويشمل معظم المواطنين والسكان، يشعر المواطن فيه بقلق دائم ورعب وخوف على نفسه وعلى عائلته، على شرفه وعلى مصالحه ولقمة عيشه، على مستقبله ومستقبل أولاده.
في هذا السجن الكبير، نجح النظام إلى حد كبير، بأسلوبه القمعي والمخابراتي، في عملية تطويع المواطنين وإرضاخهم.. فأصبح المواطن يشعر باللاءات الثلاث: لا مسؤولية، لا مواطنية، ولا انتمائية.
في هذا السجن الكبير، يخاف الإنسان المواطن من جاره.
يخاف من هاتف البيت عندما يرن.
يخاف من سائق التاكسي ومن السمان واللحام في الحارة.
الأستاذ في المدرسة والجامعة يخاف من الطالب.
والطالب يخاف من الأستاذ.
المواطن يخاف من موظف الدولة الذي جاء بالأصل لخدمة المواطن.
والموظف بدوره يخاف من المواطن.
فالكل في خوف دائم مقيم.
في هذا السجن الكبير! أتقن الناس، معظم الناس، فن الباطنية: يقول شيئاً ويضمر أشياء.
مسموح لك في هذا السجن الكبير أن ترشو وترتشي.
وأن تسرق وتُجرم بحق الآخرين.
وأن تفسد في الأرض ما طاب لك الفساد.
وأن تكون من أصحاب الملايين بين ليلة وضحاها.
كل شيء حلال في قاموس النظام إلا أن تكون صاحب رأي حر، صاحب ضمير وصاحب وجدان، أو أن تعمل بالسياسة، أو أن تعارض، أو أن تنتقد "الباب العالي" من قريب أو بعيد.
كل شيء مسموح ضمن جدران هذا السجن الكبير، إلا أن تكون مواطناً شريفاً: ترى.. وتسمع.. وتتكلم. ولهذه الفئة من الناس بني النوع الثاني من السجون والمعتقلات.
السجون الصغيرة
وتتسع للعشرات والمئات والآلاف من المواطنين من هذه الفئة، وهي منتشرة في كل مدينة وكل قرية، بل وفي كل حارة، فوق الأرض وتحتها. وأشهرها "سجن تدمر، المزّة العسكري، القلعة، العدوي، كفر سوسة، القصاع، الحلبوني، الشعلان، فرع فلسطين" وغيرها وغيرها من السجون الجديدة والقديمة المنتشرة في المحافظات الأخرى: حلب، حمص، حماة، اللاذقية، دير الزور.. وغيرها.
* * *
قبل أن أنتقل إلى السجن الصغير في الشهر الخامس من عام 1976 –وكان سجن المزّة العسكري في دمشق- كنت مواطناً كباقي المواطنين أعيش في السجن الكبير، أحمل هموم العائلة، وهموم الحارة، هموم دمشق وطرطوس وهموم المواطنين، فالناس تشارك بعضها بعضاً في الأحزان والمآسي، في الدعاء والأمنيات. ترى وتسمع ما يدور في العلن والخفاء عن تصرف المسؤولين والكبار داخل القصور وخارجها، في المدن الكبيرة والصغيرة، عن الفساد والرشاوي، عن الطبقة المميزة التي أصبحت من أصحاب الملايين. عن التمييز بين الناس، عن استغلال الطائفية، هذا المرض الخبيث الذي أصاب الجميع، عن القتل والتعذيب في السجون وخارج السجون، وعما يقترفه النظام ضد البلد والأمة والعروبة والإسلام وباسم الوطنية والقومية والإسلام.
لقد انعكست القاعدة، فأصبح الشعب خادم السلطة، بدل أن تكون السلطة خادمه الأمين، كما في الدول والمجتمعات التي تحترم نفسها.
سورية هذا البلد العظيم بشعبه وتراثه وتاريخه، هذا الشعب الذي كان يعتبر يوماً من الأيام قلب العروبة النابض، يدافع عن قضاياه القومية والإنسانية، كما يدافع عن قضاياه الوطنية، شارك في نضال الأمة قبل الاستقلال وبعده بكل رجولة وشهامة وتضحية.
سورية هذه وشعبها العظيم، ماذا ألمّ بهما؟
* * *
في ظل هذا النظام العاتي، صمت الشعب وكان صمته مؤلماً، وتراجع بل أغمض العيون، وأغلق القلوب عن الجرائم التي ارتكبها النظام باسمه، في الداخل وفي الخارج، في الوطن وفي الأمة، كما حدث في لبنان ومع شعبنا الفلسطيني المناضل، وفي حربي الخليج –الأولى عندما وقف مع إيران الطامعة في أرض الأمة، والثانية عندما وقف مع ألد أعداء الأمة.. الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل ضد شعبنا العربي المناضل في العراق الذي شارك في الدفاع عن الأمة وحمى دمشق من السقوط بحربها مع العدو الإسرائيلي.
في ظل النظام القائم غادر الآلاف، بل مئات الآلاف، ومن جميع الفئات والاختصاصات ديارهم، وانتشروا في بقاع الأرض شرقها وغربها، طلباً للسلامة والاطمئنان، طلباً للرزق وفرص العمل ولقمة العيش النظيف، وأهم من ذلك طلباً للحرية التي افتقدها المواطن في بلده بعد أن أفرغها النظام من محتواها، فصارت مجرد شعار كباقي الشعارات تردد في الاجتماعات والمناسبات.
* * *
في عام 1975 غادرت دمشق مع المغادرين، وعملت موظفاً لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ومكثت في مدينة "ناطحات السحاب" بضعة أشهر، شعرت خلالها بالضيق والحرمان، بالوحدة القاتلة بعيداً عن أهلي، عن أرضي، عن قضيتي، عن مدينتي الصغيرة، وحاراتها الضيقة ومقاهيها القديمة العتيقة.
نقلت من نيويورك في بداية عام 1976 إلى مركز الأمم المتحدة في بيروت "اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغربي آسيا" وكانت فترة من أصعب الفترات بل من أخطرها: حرب أهلية غذّاها العربي والأجنبي على السواء، فحرقت الأخضر واليابس، وقتلت الصالح والطالح، ودمرت كل حلو وجميل في المدن والقرى، في السهل والجبل، ومزق لبنان أخيراً ثوبه الملون الزاهي الجميل –ثوب التعايش والتآخي والتسامح- وبدا عارياً ليتفرج عليه الآخرون، القريب قبل الغريب.
كان عليّ، وبسبب هذه الظروف، أن أرحل من وقت إلى آخر، عن بيروت، كما كان يفعل موظفو الأمم المتحدة، وكنت أتوجه إلى دمشق مقر إقامة عائلتي.. وهكذا عشت متنقلاً بين بيروت ودمشق خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 1976.
كنت أكره الحدود وخصوصاً هذه الحواجز الاصطناعية المقيتة التي أوجدها المستعمر قديماًُ للقضاء على كل حلم عربي بالوحدة.
الحدود
طريق بيروت – دمشق
الطريق قصير وطويل، جميل وقبيح. الأجنبي يجتازه في ساعة، والعربي يجتازه في ساعات، فمراكز التفتيش والمراقبة كثيرة، وعناصر الأمن والمخابرات والجيش والجمارك منتشرة في كل مكان.
وسؤال.... وجواب
من أين أتيت؟
إلى أين أنت ذاهب؟
ما هي مهنتك؟
من تعرف؟ وأين ستنزل؟
هل معك هدايا؟ ألا يوجد شوكولاه في دمشق؟
- نعم يا سيدي، إلا أنها هدية صغيرة بعد غياب طويل.
انتظر... وما أصعب الانتظار..
قالوا إنها حدود مصطنعة أوجدها الأجنبي، فكفرنا بالأجنبي.
ولكنه خرج هذا الأجنبي، فكثرت الحدود وتشعبت وتضاعفت مراكز التفتيش والمراقبة، فكفرنا بأنفسنا، ولعل هذا كان قصد من حكموا وتحكموا بالبلاد..
وهناك في دمشق الحبيبة قالوا: "انتبه! الحارة مراقبة، يسكن فيها مسؤول كبير" ثبت هذه الحدود، وراقب كل بيت وباب وشباك فيها..
والهاتف لا حرارة فيه، فالكلام قليل..
والجيران أين هم؟ فهم لا يضحكون كعادتهم، وعندما يضحكون تراهم وكأنهم يبكون..
وحوش الليل
الساعة الثانية صباحاً من شهر أيار عام 1976. الليلة مظلمة وظالمة. أيقظتني زوجتي على سماع دقات على الباب، دقات خفيفة، خيّل إلي –وللوهلة الأولى- بأنها جارتي المسكينة.. أزمة قلب، أو أزمة نفسية ككثير من الأزمات في بلدي.
قلت: من الطارق؟
وبصوت خفيف من وراء الباب، قال:
"جارك أبو محمود، أريد استخدام الهاتف".
وفتحت مسرعاً لأخفف عنه، وإذا بعشرات الرجال، أصحاب الشوارب الكثيفة الغليظة مدججين بالسلاح، بمسدسات ورشاشات، وخيّل إليّ –ولثوانٍ معدودات- أن هناك اعتداء إسرائيلياً على البلاد، أو هجوماً إسرائيلياً كبيراً، وأن الجنود جاؤوا لطلب المعونة أو لحث المواطنين على حمل السلاح، على الأقل للدفاع عن شوارع العاصمة الغالية، ولكن لم تكن هذه هي الحالة هذه المرة.
اندفعت المجموعة بكل أفرادها إلى داخل البيت، وتوزعت في أقسامه وغرفه القليلة، تقيم الدنيا وتقعدها.. ووقفت زوجتي مرتعبة مذعورة تبكي في زاوية من زوايا غرفة النوم الصغيرة لا تدري ما حصل وما سيحصل.. إنها الصاعقة.
وجاء العريف، عريف المجموعة، بعد أن أكمل عملية تخريب ما يمكن تخريبه من أثاث البيت وكتبه، وقال:
"نحن نحتاجك في القسم لمدة خمس دقائق".
والدقائق الخمس في مفهوم النظام تعني السنين الطوال.
وسألت: هل أحتاج حقيبتي وبعض أغراضي الخاصة..؟
قال: أسرع!
وخرجت من البيت بمرافقة مسلحة، وهذه تحصل بحالتين، إما مرافقة مسؤول كبير، أو مرافقة معتقل سياسي، والحمد لله كنت ضمن الحالة الثانية.
وصعدت إلى إحدى السيارات المنتشرة في الحارة، ووُضعت على عيني قطعة من قماش أسود (طماشات) رائحتها رائحة البصل..
من جملة الممنوعات أن يرى الإنسان طريقه، لأن ذلك تهديد لأمن البلاد.
يتحسس، من يعرف دمشق، طريقه ضمن شوارعها. وعرفت بدون أن أرى أنني باتجاه منطقة المزّة.. حيث سجن المزّة العسكري، وعندها أيقنت أنني أنتمي إلى هذه الفئة من الناس التي ترى وتسمع.. وتتكلم، فوجب نقلي من السجن الكبير إلى السجن الصغير.
سجن المزّة العسكري
يقع على تلة من التلال المحيطة بالعاصمة، وهو من معالم دمشق المعروفة والمشهورة والخالدة كالجامع الأموي، وقصر العظم والمكتبة الظاهرية، وقبر صلاح الدين وسوق الحميدية.. وغيرها.
يتألف السجن من طابقين: طابق بني في عهد الاستعمار الفرنسي للبلاد، وطابق بني في ظل العهود "الوطنية" لمتابعة عهد الانتداب، وهو في الوقت نفسه رمز للتقدم والازدهار والبناء.
يضم كل طابق ستة مهاجع، سعة كل مهجع منها 35 شخصاً بالحالة الاعتيادية و 80 شخصاً في حالة "الحشر" وكانت الحالة الأخيرة هي السائدة.
يحتوي السجن على 49 زنزانة موزعة على أنحاء السجن، الإفرادية تتسع لشخص واحد، وهي مشغولة على مدار السنة..
من معالم السجن، ومن أشهر غرفه –غرفة الاستقبال- والتسمية الدارجة "المستودع" وهو يحتوي على أدوات التعذيب وأجهزته المختلفة الكثيرة.. وعلى سبيل المثال لا الحصر.. الدولاب والسوط والكرباج والسلم الخشبي الذي يربط عليه المعتقل عارياً ورأسه إلى الأسفل، وآلة كهربائية قديمة تربط أسلاكها على مختلف أعضاء الجسم، بهدف القضاء على كل مقاومة جسدية أو نفسية للإنسان.. وكرسي كبير يجلس عليه الجلاد.. ينتظر الضحية.. بفارغ الصبر، وبلهفة قاتلة..
الزنزانة رقم 8
دخلت البوابة الحديدية مباشرة باتجاه المستودع حيث تتم عملية التسليم والاستلام، ووقعت على سجل "التشريفات" وهنا انتهت مهمة المجموعة الأولى، وعادت من حيث أتت لمزيد من الاصطياد.. قبل بزوغ الفجر.
طلب إليّ أن أسلّم ما عندي من أغراض خاصة وحاجيات، وكل ما يصلح للبيع بالأسواق.. بالمزاد، كالحذاء، وخاتم الزواج، وساعة اليد.. الساعة الثالثة صباحاً توقفت دقاتها.. وتوقف الزمان..
شقتي كانت "الزنزانة رقم 8" التي تتسع بالكاد لشخص واحد، الخالية من كل شيء، إلا من البقع الحمراء المنتشرة على جدرانها وبابها بطريقة فنية سريالية تأخذ بالألباب.
في ساحة السجن، وما تبقى من ساعات الليل، ضجيج وحركة مستمرة، زنزانة تفتح، وأخرى تغلق. لقد أنجزت المجموعة الأولى مهمتها بنجاح تام، فقد امتلأت جميع الزنزانات.
اليوم التالي، وفي الصباح الباكر هدوء تام.. وفجأة، وبصوت عال، نودي على رقم 8، كما نودي على بقية الأرقام.. بدأت المعركة.. لجنة التحقيق جاهزة ومتشوقة.
وجاء دوري، وأخرجت من "شقتي" بقوة السلاح.. بضرب ولكمات وإهانات.
نفذ قرار الحكم قبل صدوره.
لجنة التحقيق هذه نالت شهرة كبيرة في البلاد، أعضاؤها جميعاً من الرتب العالية.. نجوم ساطعة على الأكتاف، ونياشين هنا، ونياشين هناك، علماً بأنه لم يكن منهم من دخل معركة أو حتى أطلق رصاصة باتجاه الحدود على الأعداء.
وهناك في وسط الغرفة المشهورة كأصحابها، جلس رئيس اللجنة وكأنه رب العباد، وأمامه طبق مليء بأنواع الفاكهة والمأكولات: قلوب الخس، والتفاح والعنب والرمان.. شهية للأكل ما بعدها شهية، يتلذذ بالأكل كما يتلذذ بالتعذيب والعذاب.
وبدأت المسرحية الأولى!! سؤال وضرب، وسؤال وشتم وإهانات، وسؤال يتلوه سؤال. منهم من يقف في الغرفة راقصاً، ومنهم من يصرخ غضباً من الجواب.
يريدون أسماء، مجرد أسماء، حتى ولو لم يكن لها أصحاب في الوجود أو قيد النفوس، وكلما كثرت الأسماء حققت اللجنة نجاحها وأثبتت الولاء وزادت النجوم على الأكتاف..
بعد ساعة أو أكثر ينطق رئيس اللجنة بكلمته المفضلة والمحببة إلى نفسه: "خذوه" أي إلى المستودع. وهناك تبدأ مسرحية المسرحيات، تراجيديا إنسانية حقيقية. الجلادون من جهة، و "الإنسان المعتقل" من جهة ثانية، فمنهم من يُجلد، ومنهم من يضرب ويُرفس، ومنهم من يصب الماء البارد، ومنهم من يربط الأسلاك أو الحبال على الأعناق، وبينهم "الإنسان المعتقل" يصرخ ألماً يشكو ويشتكي، يذرف الدموع وينزف الدماء.
أعود إلى غرفة التحقيق.. وبعد فترة أسمع الكلمة المفضلة ذاتها: "خذوه" وهكذا إلى أن ينتهي الفصل الأول.. فأحمل ما تبقى مني إلى زنزانتي الجميلة رقم 8 أنتظر بداية الفصل الثاني، أفتش عن ذاتي وأكلّم نفسي، ليس المطلوب "أنا" المطلوب هو "الشعب" صموده، قضيته، وحدته، حريته، عروبته ودينه.
وهكذا أمضيت المرحلة الأولى من اعتقالي الأول متنقلاً بين الزنزانة رقم 8 وغرفة التحقيق.. والمستودع.
مرحلة صعبة وقاسية، وأصعب ما فيها هذا الانتقال السريع والمفاجئ من القرن العشرين إلى العصر الحجري.
الزنزانة رقم 4
نُقلت بعد شهر ونصف إلى الزنزانات الداخلية، وهي من أسوأ الزنزانات على الإطلاق. ومكثت في إحداها، رقم 4، مدة شهرين تقريباً. هناك مرتفع أرضي في إحدى زواياها –سرير حجري- وعليه قطع بالية ممزقة من قماش أو شبه غطاء يستخدمها المعتقل لتغطية بعض أجزاء جسده، في الزاوية الأخرى مرحاض صغير، رائحة نتنة كريهة تساعد في معظم الحالات على تخدير المعتقل..
الزنزانة معتمة، لا يرى الإنسان جدرانها إلا لمساً، ولا يرى حتى أصابع يديه. وللوهلة الأولى لا يعرف الإنسان ليله من نهاره. يفتح بابها عندما تكون الزنزانة رقم 4 على جدول التحقيق والتعذيب اليومي، أو عندما يدفع الحارس برجليه صحناً صغيراً من "البلاستيك" فيه وجبة غداء أو ربما عشاء.. خليط جميل أقله من مادة البرغل وأكثره من مادة الحصى، ينتظره المعتقل بفارغ الصبر كحد أدنى لاستمرار الحياة.
أول المستقبلين لي في "رقم 4" كان صاحبها الشرعي "جربوع" كبير، خرج من المرحاض متنقلاً بين أرجاء قصره، رافضاً وجودي واحتلالي مكان إقامته، اعتداء صارخ على حقه في بيته وعلى حريته في اختيار شريك له يقاسمه بيته الجميل هذا.
في الأسبوع الأول، خفت أن أنام، وخفت حقاً أن أغمض عيني، خفت من هذا العدو الجديد الذي فرض عليّ وفرضت عليه..
في الأسبوع الثاني، بدأت أشعر بالاطمئنان، فقد قبل عدوي الجديد هذا إقامتي المؤقتة معه، كان يخرج من مخبئه مرة كل يوم فأصبح يخرج مرتين، وتوطدت أواصر الصداقة فيما بيننا وأخذ يشاطرني أحزاني وأحلامي، وخصوصاً عندما بدأت أقص عليه قصتي.. كان يصغي متألماً مما يجري خارج الزنزانة وخارج السجن من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وبدوره بدأ يقص عليّ قصته متألماً كذلك كيف قضى معظم حياته مستقبلاً ومودعاً لأمثالي من المعتقلين، وبالفعل فقد ودعني بعد شهرين لاستقبال شخص آخر فرض عليه.
في الأسبوع الثاني، بدأت أتعوّد على الزنزانة، أرى جدرانها وأسمع صوتها وأنينها، وأقرأ ما حفر عليها من قصائد شعر وقصص صغيرة ورسائل موقعة من أصحابها المعتقلين السابقين إلى رفاقهم وإخوانهم أو إلى ذويهم فقي الخارج –أسماء معروفة وأسماء غير معروفة- منهم الضابط، ومنهم الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة والفلاح والعامل والطالب والمحامي والموظف، ومنهم من وقع اسم بلده من دمشق، من الزبداني، من حلب، من حماه، من حمص، من طرطوس، من اللاذقية، من بيروت، من طرابلس، من عكار، من مخيم اليرموك، من مخيم تل الزعتر، من عمان، من بغداد، مختلف المدن والعواصم العربية، لقد أراد النظام أن يحقق الوحدة العربية فزجّ بمن يحمل شعارها في السجون والزنزانات.
بدأت في هذه المرحلة أحفر رسالتي الأولى على الجدار* وأن أحفظها عن ظهر قلب قصد نقلها على الورق الأبيض إن تيسر ذلك مستقبلاً. وتركت بجانبها مكاناً لعل من يأتي بعدي أن يحفر اسمه ورسالته الأولى أو ربما الثانية.. وكانت رسالتي الأولى هذه إلى ابنتي..
رسالة إلى ابنتي
لقد ترددت أكثر من مرة أن أمسك المسمار القلم، وأن أحفر كتابة على الجدار، بعضَ أفكاري وتجاربي ليتسنى لك ولها وللأجيال القادمة في بلدي –سورية الحبيبة- والأمة العربية جمعاء أن تقرأ وتحس ما عانيته خلال فترة اعتقالي الطويلة، ولتشاركني التجارب المرة التي عشتها، والتي لا يزال يعيشها كل معتقل داخل الزنزانات الرهيبة في سجن المزّة العسكري وغيره من السجون الكثيرة والتي أصبحت رمزاً للاضطهاد والتعذيب والقهر والمعاناة والحرمان.
لا أعلم إن كان هذا القلم (المسمار) الذي أمسكه بيدي قادراً على أن يرسم الصورة بكل ما فيها من سواد وأشواك ودماء، فمتى كان القلم، بل متى كانت الكلمات قادرة على أن تخرج من القلوب كل المآسي والمعاناة؟ بل متى كانت الكلمة في بلدي قادرة على أن ترسم حبل مشنقة ويد جلاد، أو قادرة على أن تنقل أحاسيس إنسان مذبوح ينزف الدماء وبجانبه سكينة حمراء تشكو من التعب والإرهاق؟
كيف يمكن يا بنيتي أن ينقل إليك قلمي أحاسيس هذا الرجل الذي كان يقف في الزاوية ينتظر دوره، ورفيق له معلق يتأرجح، بل كيف يمكن أن ينقل إليك ما أحسست به وما تمنيته عندما فتح عليّ الباب في الظلام وخفت حقاً أن أكون الثالث أو الرابع أو الخامس، بعد هذا أو ذاك.
وتوالت الأيام، وتناوب الجلادون، فكان النهار أشد ظلاماً من الليل، وكان الليل أشد ظلماً من النهار، وكم كنت أتمنى أن أنام وكم كتبت على الجدار اسمك واسمها وأسماء الشهداء. وكنت أترك مكاناً لعل من يأتي بعدي أن يكتب اسمه مع بقية الأسماء..
وجاءني من يطلب مزيداً من المعلومات، ووضعت للمرة السادسة في الدولاب: السوط لا يرحم يا بنيتي، والجلاد لا يفهم العربية ولا يؤمن بالله ولا بالإنسان.. وهناك وجدت صديقاً لي معلقاً بين الأرض والسماء ينزف دماً من أنفه ورأسه وجانبيه..
وحدث ما حدث، وجاءني بعدها طبيب السجن ليعالج الجراح، وسألني عن اسمي ورقمي وعن الأسباب، وخرج كما دخل خوفاً من السجان.. وأيقنت عندها: أن لا طبيب يعالج الجراح في بلدي بعد الآن..
ونودي عليّ للمرة.. لا أذكر بالتمام، فقد اختلطت عليّ الأمور بعد يوم أو يومين، فقد سمعت الحارس يصرخ رقم شقتي عفواً زنزانتي التي كنت محجوزاً فيها في الطابق السفلي، والذي بني أثناء الانتداب الفرنسي للبلاد، بينما بنيت الزنزانات في الطابق الثاني في "العهود الوطنية" أي بعد الاستقلال وكان عليّ أن أعيش العهدين، وشتان يا بنيتي بين الاثنين.. شتان..
وشاء القدر في هذه اللحظة أن يلعب دوره فقد انشغل السجان عني والجلاد، نظرت من ثقب صغير في الباب فإذا بقافلة جديدة نازحة تصل لمستقر لها، مطمشة العينين، ومقيدة اليدين، تضم الشيوخ والعجّز والأطفال، يجرها رجال شبه رجال.. وأشير إليها بدخول المستودع، وما أدراك ما المستودع؟ المكان المخصص لحفلات الاستقبال. ودخلت هذه القافلة وخرجت بعد ساعة أو ساعتين.. وقد تغيرت ملامحها وأشكالها بل والألوان.
الزنزانات مليئة والدهاليز والساحات تعجّ بالمئات، أزمة سكن في كل مكان اقتيدت هذه المجموعة إلى الحمام، وهناك يقف الإنسان عارياً لمدة يوم أو أكثر ريثما تدبر له زنزانة دائمة أو مكان..
توالت الأيام ببطء، فالدقائق كانت كالساعات، وأصبحنا وأمسينا على التعذيب والعذاب، ونقلت أكثر من مرة من زنزانة إلى أخرى، وفق أهواء السجان، رأيت ما تقشعرّ له الأبدان.
يد متورمة، ورجل استخدم عليها تيار الكهرباء حتى باتت مشلولة لا وجود لها في جسم الإنسان، وآخر فقد عقله فأصبح يناجي ربه بلغة غير لغة الإنسان، وآخر تذكر زوجته وابنته، وطلب من ربه أن تصبرا على الحرمان، وأجسام هنا.. وأجساد هناك وكلها بلا حراك ولا أرواح..
من يتصور أن يصدق أن دولة متحضرة تمارس هذه الممارسات على أبنائها ومواطنيها، ما هي الجريمة! نعم ما هي الجريمة؟ السؤال كبير ولا جواب، ولكن أليست هي الجريمة قتل إنسان بريء بدون محاكمة أو تهمة لمجرد أنه يؤمن بهذا المبدأ أو ذاك.
لقد كنت ومنذ أن وعيت دوري في هذه الأمة، أؤمن بأن مصيرها مرهون بما يقدمه لها جيلها الجديد الواعي من تضحيات، مرهون بالإنسان الجديد الذي يعمل دون تعب أو ملل لإنقاذ هذه الأمة من محنتها، والوصول بها إلى ما تصبو إليه من رقي وتقدم وحضارة.
فهل كتب على هذه الأمة أن تشقى إلى الأبد؟
وكما قال فيلسوف قديم:
"إلهي امنحنا الصفاء لقبول الأمور التي لا نستطيع تغييرها، والشجاعة لكي نغير ما نستطيع تغييره، والحكمة التي تمكننا من أن نعرف الفرق بين الاثنين".
وإلى رسالة قادمة.
* * *
قرب الزنزانة رقم 4 من المستودع جعلني أعيش حالتي وأعيش حالة الآخرين.. فصول مسرحيتي وفصول مسرحيات الآخرين من المعتقلين زمن مختلف الاتجاهات والمبادئ.. وقد تعلمت الكثير..
أرى وأسمع الجلاد نفسه والسوط وصوته، والسلم الخشبي ومن عليه، والدولاب ومن فيه، أحزن على أحزانهم وأبكي على بكائهم.
تنتعش نفسي وترتفع معنوياتي على سماع كلمة تحد للجلاد وسوطه، وكم هي راحة للإنسان كبيرة عندما يشارك الآخرين ولو بالشعور والإحساس، وهو أقل الإيمان.
الآن، وقد مضى عليّ حوالي ثلاثة أشهر، جدول الأعمال اليومي لم يتغيّر.. من رقم 8، من رقم 4، إلى غرفة التحقيق، إلى المستودع، سوى أنني بدأت أرى جيداً في الظلام.. وبدأت أحب شقتي خوفاً من غرفة التحقيق وكرهاً بالمستودع، هذا المسلخ الذي لا ينام، ويعمل في الليل كما يعمل في النهار.
في هذه المرحلة، يأكل الإنسان القليل ويشرب القليل، الحد الأدنى للحياة.
عندما كنت أعطش.. كنت أكتب على الجدار أبيات شعر استذكرتها من تاريخ الأمة بدءاً من المعلقات، وأحياناً كنت أنظم بعض الأبيات، فقد صيرتني الزنزانة شاعراً.
وعندما أجوع، كنت أغني وأغني، وكم غنيت، "يا ظلام السجن خيّم" وعادت إنسانيتي إلى ذاتي بعد فراق، وانتصرت على نفسي وهذا.. هو الانتصار..
الطلب كبير على الزنزانات الخارجية والداخلية في الطابق السفلي، لكونها قريبة بمعظمها من غرفة التحقيق والمستودع، تسهيل مهمة المحققين والجلادين، إلا أنه وبسبب الكثافة السكانية فيها واستمرارية النزوح من السجن الكبير، تضطر إدارة السجن (دائرة التخطيط) من وقت لآخر إلى إجراء تنقلات فيما بينها وبين الزنزانات في الطابق الثاني من البناء، أو بينها وبين المهاجع وأحياناً بينها وبين زنزانات السجون الأخرى، تنسيق جميل بين السجون، وقد أتقنت الإدارة عملية تبادل السكان..
الزنزانة رقم 6
وجاءت التعليمات، وحضر رئيس الحرس، ورافقني إلى الطابق الثاني: الزنزانة رقم 11.
اعتُبرت هذه الزنزانة، ومنذ زمن طويل، في عداد الأموات، من كثرة ما رأت وسمعت.. ولقد جربت أن أصفها، فلم أتمكن، فهي فوق الوصف.. مكثت فيها مدة عشرة أيام لم أرها ولم ترني..
ونقلت بعدها إلى رقم 6، زنزانة جميلة صغيرة تحمل براءة الأطفال، أجمل ما فيها شباك صغير مستدير في جدارها، تدخل منه أشعة الشمس والهواء، وخلعت ما تبقى من قميصي الداخلي الدامي الملون ووقفت أمامها أعرض جسدي لأشعة الشمس.. ما أعظمها شمس بلادي.. فقد أعطتني الدفء وحرارة الإيمان.
وجلست أرتب شقتي... قد تطول الإقامة، وحاولت صنع أحجار الشطرنج من هذا الرغيف الحجري الذي كنت أستلمه كل صباح، ورسمت على الأرض المربعات، وبدأت أتبارى مع نفسي، أحرك حجراً هنا، وأنتقل إلى الطرف الآخر، أحرك بالمقابل حجراً آخر هناك، وهكذا إلى أن ينتصر أحدنا.. وفي الحالتين.. أنا المنتصر.
وجاءني رئيس الحرس هذا يوماً وأنا ألعب الشطرنج، وقال:
"ومع من تلعب؟"
قلت: "مع هذا الجالس أمامي".
قال: "ولكن لا أرى أحداً".
قلت: "وهذه هي مصيبة المصائب".
وفي الأسبوع الثاني أو الثالث، لا أدري تماماً، فقد دخلت عليّ فراشة من الشبّاك، اعتقدت، وللوهلة الأولى بأنها أضاعت طريقها وفرض عليها اتجاه الريح دخول الزنزانات،ـ فمن طبيعة الفراشات أن تفتش عن وردة تنقل إليها ومنها رسائل الحب والحياة. وحارت في أمرها، وتجولت في جو الغرفة كما تشاء، ساعة ربما أو أكثر، وحطت على الأرض بعد مشاق، ووضعت بيضتها الأولى، حجمها كرأس الدبوس.
وتعبت وماتت.. ونزلت دمعتي حزناً عليها.. الفراشة كالإنسان تنهي حياتها لتعطي الحياة.
* * *
في الأسبوع الرابع من إقامتي في "رقم 6" زارني طبيب السجن محاولاً إصلاح ما أفسده الجلاد.
ففي اليوم الأول إبرة كزاز، وفي اليوم الثاني حبة أسبرين وبعض حبات ضد الالتهاب..
عجباً! هل يستطيع أن يعالج من ليس بيده العلاج؟..
وفي يوم من الأيام فتح عليّ الحارس الباب يقول:
"مسموح لك الآن أن تتنفس، خمس دقائق يومياً في الصباح، ولكن انتبه، الأوامر صارمة: ممنوع الركض، ممنوع التوقف، حتى ولو لشربة ماء، وعليك أن تدور حول الساحة بهدوء تام".
وخرجت في الصباح الباكر إلى الساحة الصغيرة المجاورة، وقضيت فيها أجمل خمس دقائق في حياتي.. أحياناً يكون الحارس (ابن حلال) فيتكرم بدقيقة إضافية أو أكثر، وحسب الأهواء.
وأعود إلى زنزانتي لأنتظر الصباح التالي ودقائقه المعدودات... ما أجملها سماء بلادي.
الساحة هذه هي التي كان يتنفس بها ومنها المرحوم الدكتور نور الدين الأتاسي، والمرحوم حسين زيدان، والمرحوم صلاح جديد، والمرحوم محمد وداد بشير، والمرحوم رباح الطويل.. وغيرهم.. وغيرهم.. فمنهم من كان.. ومنهم من لا يزال..
لقد تركت هذه الساحة بصماتها على الأحياء والأموات.
* * *
ومرت الأيام والليالي الطوال... ومضى عليّ متعايشاً مع زنزانتي رقم 6 مدة شهرين. وصدرت الأوامر بإعادتي إلى الطابق السفلي..
هل هي عودة إلى البداية؟ إلى المستودع!! ولكن السجن كبير، وكان عليّ أن أعيش أسرار جميع زواياه... وكان المهجع رقم 2، وبهذا انتهت فصول المسرحية الأولى.
المهجع رقم 2
بدأت رحلتي الشاقة الطويلة، رحلة إلى المجهول، واتجهت نحو محطتي الأولى "المهجع رقم 2" ماراً بالمهاجع السفلية، مقابر جماعية للأحياء.
كيف أكتب قصتي؟ وماذا عن قصص هؤلاء الناس وهذه المئات والمئات؟
لقد كتبت لجان حقوق الإنسان، ولكنها كعادتها لم تنصف، ولم تأت إلا على ذكر القليل القليل من واقع الحال.
وفُتح الباب، وأغلق الباب، وبين غلقه وفتحه يمر عام بعد عام.. فأنت في ظل الأحكام العرفية، وقانون الطوارئ، يحكم البلاد ولا يعطي للإنسان فرصة للدفاع.
"قانون المستودع" نعم هو قانون الغاب.
ودخلت أصافح هذا وأعانق ذاك، وقد استقبلت بالترحاب. ومنذ اللحظة الأولى شعرت بالأمان، أنا بين أهلي وعشيرتي، نتكلم لغة واحدة، ونتشارك بالمبادئ والأهداف. وكم اشتقت إلى الكلام، وإلى من يفهم الكلام.. ولكن أين يجلس الإنسان؟ وأين ينام؟
وانشغل المهجع لساعات يجري مسحاً للمساحات وتقسيماً جديداً للمسافات، سنتيمتراً من هنا، وسنتيمتراً آخر من هناك.
مساحة المهجع 12 متراً بـ 6 أمتار، على جانبه الأيمن مرتفع حجري، سرير جماعي، وعلى جانبه الأيسر مرتفع آخر، وفي الوسط ممر منخفض ينتهي بمرحاض صغير، وقد استثمرت الإدارة كل شبر فيه، وحشرت في مرتفعيه ومنخفضه الوضيع حوالي الثمانين من الناس المعتقلين.
لقد ضاق "رقم 2" ذرعاً بهذا الازدحام، والعدد دائماً بازدياد.
حالة شاقة ومرهقة، لكنها كبقية الحالات ليست مستحيلة، فقد تغلبنا قبلُ على كثير من العقبات.
يضم المهجع، كباقي المهاجع، معظم شرائح المجتمع، مختلف فئاته السياسية والفكرية والاجتماعية، المهنية والنقابية، فمنهم المعلم، والطالب، والضابط والطبيب والفلاح والعامل والمهندس والمحامي والموظف والمرأة (في السجن النسائي).
الممثلون الحقيقيون للمجتمع.. داخل السجون..
ويضم أيضاً السوري واللبناني والفلسطيني والعراقي والأردني.. مشاركة وجدانية من شعبنا العربي وفصائله المناضلة مع شعبنا السوري.. هنا تحققت الوحدة.. وحدة النضال.
الحارس الجلاد
حارس المهاجع السفلية جلاد سابق، استبدلته الإدارة بجلاد آخر أكثر شراسة وأكثر عطاء، كلمة حارس لا تفي بالمطلوب، وهو مصر على استعادة لقبه واستعادة عرشه الضائع في المستودع.. وعليه هنا.. وعلينا إثبات الوجود.
حفلة يومية صباحية.. يدخل وعصاه بيمينه، يضرب الجالس ويرفس النائم، يفتش دائماً عن فريسة يفترسها وعن نفس يعذّبها.
كان أحياناً يجمع فئة من الناس، أعداداً مزدوجة: ستة أشخاص أو ثمانية، ويرتبها نظام صف، ثلاثة أمام، ثلاثة أو أربعة أمام أربعة، ويصادف أن يكون الأب تجاه ابنه، أو الأخ تجاه أخيه، ويأمر بأن يضرب الواحد الآخر على وجهه وعلى رأسه، والذي يرفض يساق إلى الزنزانة حيث الطريق إلى المستودع سهلة ومعبدة.
وعندما لا تسمح الظروف بإقامة حفلته الصباحية وبرنامجه اليومي.. كان يصطحب صديقه "المستودع" إلى بيته، فيضرب زوجته ويعذب أولاده، وهكذا عشنا هذه الحالة، وتعايشنا معها مدة عام أو أكثر، وصبرنا.. صبر الرجال.
وجاءنا صباح يوم، وكنت بجوار نافذة المهجع، وقال بهدوء تام:
- أريد أن أعتذر منكم جميعاً، فقد أسأت لكم ولنفسي، أطلب السماح والغفران.
قلت: وماذا حصل؟ وهل يحيا ضميره بعد ممات؟
قال: "اسمع يا أخي! منذ شهر أصاب ابنتي الصغرى شلل تام، وبعد قليل أصاب المرض نفسه أختها الأكبر.. ولم أجد لمثل هذه الآفات أي علاج.. فقد أصاب عائلتي ما أصابكم".
قلت: بالنسبة للسماح، فقد سامحناك، أما بالنسبة للغفران فهو من رب العباد.
قال: "هل تعتقد بأن ما حدث صدفة؟"
قلت: ألم تقرأ: من قتلَ نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناس جميعاً؟ (المائدة: 32).
وما هي إلا أيام معدودات حتى استُبدل هذا الجلاد الإنسان بمجرد جلاد.
تفتيش عام
ويمر الزمان بدون علمنا، وتستمر الإدارة في تطوير أساليبها. محاولات يومية لقهر النفوس واستعبادها، وقد نزل هذا اليوم على المهاجع بيانُها، مضيفة بنداً جديداً على جدول اختصاصها... تفتيش عام أو نفير عام، يشمل السجن كله.
مسرحية هادفة
يخرج الإنسان المعتقل حاملاً (فرشته) على ظهره إلى الساحة العامة ويعود إلى مهجعه لينقل حاجياته الخاصة أو ليساعد من لا يستطيع حمل فرشته أو نقل أغراضه.
وفي الساحة، تتوزع الأدوار على الحراس والمفتشين والجلادين بطريقة محكمة.. فمنهم من يمزّق الفرشة ليتأكد من تفاصيل محتوياتها، ومنهم من يمزق كتاباً أو دفتراً أو يكسر قلماً، ومنهم من يصادر الصحون والكاسات والملاعق وكل من يراه مفيداً أمامه.
والجلاد وعصاه، على استعداد لتوجيه الضربات لكل من يرفض أو يتردد، أو توجيه الإهانات لمن يتأفف.
ويعود الإنسان المعتقل إلى المهجع في نهاية النهار منهكاً. أين ينام وفرشته قد تمزقت؟!
ويمضي أسبوع أو أكثر، ويقوم ممثل الإدارة بزيارة ودية إلى المهاجع مصطحباً معه حراسه، يعرض علينا بضاعته المستعملة بأسعار محددة. من يحتاج صحناً؟ كاسة؟ ملعقة؟ ونشتري البعض منها، فأسعارها فوق طاقتنا، وننتظر نفيراً آخر لننقل من جديد إلى الساحة أغراضنا، فتصادر ثم تعرض للبيع.. ونشتريها.. وهكذا.
وكلما زاد المعتقلون عدداً.. حققت الإدارة أرباح نجاحها، ويقضي الإنسان المعتقل ما تبقى من حياته، متنقلاً في أرجاء السجن، مكتشفاً زواياه الخفية.
من زنزانة إلى أخرى، ومن مهجع إلى آخر، ليأخذ دوره ومكان إقامته من جديد في نهاية الممر الوضيع قرب المرحاض.. يعيش مأساة تلو مأساة.
الفاتورة
أما عن الطعام فحدّث ولا حرج، مجاعة قاتلة وظمأ كافر.
رفعنا أصواتنا وقدمنا العرائض، طالبين تحسين الشروط والظروف المتعلقة بكمية الطعام ونوعيته.. انسجاماً مع الاتفاقيات والأعراف الدواية والحقوق الدنيا للإنسان.
جهل تام بهذه الاتفاقيات أم تجاهل؟!!
وما علاقة حقوق الإنسان بالطعام والشراب؟
هذه الأمور الغريبة التافهة التي لا تتفق وتقاليد السجن وسمعته.
وتجاهلت الإدارة طلباتنا لفترة طويلة من الزمان.. واجتهدت في نهاية المطاف، وكان اجتهادها صبغة سمتها "فاتورة" تجني من ورائها الأرباح.
سمحت لنا بإعداد لوائح أسبوعية بالمواد الغذائية التي نحتاجها، ووضعت نفسها وسيطاً بيننا وبين تاجر جشع في السوق المحلية.. فهو يحضر فاتورته وأسعاره إليها.. وهي أي الإدارة تحضر فاتورتها إلينا بأسعار خاصة بها لا تتفق ومستوى الدخل، لا في الدول النامية ولا حتى في الدول الغنية المتقدمة.
رأسمال الإدارة.. السجن والإنسان المعتقل واجتهادها.. تجارة رائجة.
الزيارة العائلية
وتابعت الحياة السجينة نمطها، وتعود الإنسان المعتقل على أن يتنفس دون أن يعيش، وأن يعيش دون أن يتنفس.
وكان غذاؤنا اليومي قضيتنا والأمل.
ننتظر بشوق كبير زيارة الأهل والأطفال والعائلة، فقد انقطعت عنا أخبارهم، وانقطعت عنهم أخبارنا، فنحن بعرف الإدارة مجهولو العناوين والإقامة، والاتصالات والمواصلات ممنوعة ومعدومة.
ما حلّ بهم؟.. وماذا جرى لهم؟
وهل هناك ساحات مثل ساحتنا.. كيف يتنفسون؟ وهل عندهم جلاد مثل جلادنا؟
نخاف عليهم أكثر مما نخاف على أنفسنا، فسجنهم أكبر من سجننا.
وشهور تلحقها شهور، وفجأة علمنا بفتح زيارتنا: عشرون دقيقة، مرة أو مرتين، كل شهر أو شهرين، حسب ظروف السجن وحالة المستودع ورغبة الإدارة.
وجلست أحضر في ذهني لائحة بالأسئلة والأجوبة..
وجاء دوري ومشيت مسرعاً باتجاه مكان الزيارة بجانب المستودع, أقف وراء القضبان الحديدية الداخلية، وتقف عائلتي وراء القضبان الخارجية، وبيننا الحارس وسلاحه وساعته..
كيف يبتسم الإنسان؟
كيف يخفي حزنه وألمه؟
كيف يخفي غضبه؟
كيف يخفي جرحه العميق وما تغير من ملامح وجهه.
وتضيع عبر القضبان ابتسامة الأطفال والكلمة، وتختلط الأسئلة بالأجوبة.
ازدحام شديد وضجيج كبير، وقد نحتاج إلى مكبر الصوت في المرة القادمة.
ولحظات، ويشير حارسنا الأمين إلى ساعته.. وتنتهي العشرون دقيقة قبل بدايتها.
وفي طريق عودتي إلى المهجع، مكان إقامتي، عادت إلى ذاكرتي صورة الأرض المحتلة وأرض الجولان المغتصبة، وكيف يقف الإنسان "المواطن" وراء الأسلاك الشائكة، وبيده مكبّر الصوت ينادي عبر الحدود الجديدة والده أو ولده، وبجانبه الحارس وسلاحه.
ماذا حل بأمتي، أمة العرب، فقد تجزأت أجزاؤها، وتغيرت خريطتها، أضيفت مجتمعات جديدة إلى مجتمعاتها.
تسميات ومصطلحات وهويات مختلفة. يعجز حتى المعجم السياسي العربي عن استيعابها، جديرة بالانتماء إلى الجامعة العربية لزيادة أعلامها ومكاتبها...
اللاجئون، النازحون، الوافدون، المغتربون، المهاجرون، المهجرون، المحاصرون، المعتقلون... وكل يمسك بمكبر الصوت ينادي وبصوت عالٍ من وراء قضبان الأسلاك الشائكة والحواجز والحدود. ينادي أهله وعائلته وعشيرته وشعبه.
ولا سامع ولا مجيب!!! والحارس وسلاحه.
ومرت سنة بعد سنة، متجاهلة وجودنا، فنحن خارج عصرنا وزماننا، نعيش ظلام الليل وظلم النهار: الزنزانة، المستودع، الجلاد، المهجع ، الإدارة وجدول أعمالها، الزيارة وقضبانها.. منا من استشهد باكراً، ومنا من كان ينتظر أوانه..
نستقبل نازحاً من السجن الكبير.. ونودع عائداً إلى السجن ذاته.
نستقبل أفواجاً، ونودّع أفراداً، ويبقى السجن مزدحماً..
سياسة النظام وتطلعات الإدارة.
وتنتهي فصول مسرحيتي.. في السجن الصغير.
النهاية
وأعود أفتش عن حارتي.. وعن بيتي الجميل.. وهل تغيّر مع الزمان عنوانه؟
انفتح باب، وأغلقت أبواب..
أنا في بيتي، ولكني غريب.. البيت نفسه، لم تتغير محتوياته أو يتغير أثاثه، ولكن أين الإنسان.. هذا الذي أعرفه صادقاً مع نفسه ومع غيره، حنوناً، رؤوفاً، طيب القلب، صبوراً.
تغيّر القاموس. دخلت مصطلحات غريبة.. تغيرت معاني الكلمات..
أيقنت أن الزنزانة ستبقى معي مدى الحياة.
حملت حقيبتي الصغيرة العتيقة التي رافقتني سنوات القهر والطغيان، أفتش عن مكان آخر أرتاح إليه، ربما سجن آخر ألجأ إليه، فلا زلت بحاجة إلى أن أتعلم..
وسرت في الحارة وفي الشارع، أمام الفندق الكبير وفي الحديقة العامة حيث لا ناس يجلسون، أفتش عن نفسي، فالناس تسمع ولا تتكلم، وإن تكلمت فبدون كلام!!
وودعت عائلتي، وودعت أهلي، وقبلت يد والدتي، هذه الإنسانة التي قضت معظم حياتها تنتظرني عندما كنت معتقلاً في وطني، وعندما كنت معتقلاً في غربتي..
واتجهت نحو المطار، ومنه إلى مطار آخر أكثر قسوة، لأبدأ من جديد صراع غربتي.. في مدينة "ناطحات السحاب" والأمم المتحدة.
سلام عليك وعلى أهلك يا دمشق!!
رأي
السجن مدرسة، يعلم فيها الإنسان ويتعلم، بدون كتاب أو قلم، يكتشف فيها ذاته، يكتشف فيها قوته وضعفه، فإما أن ينجح ويتخرج وينال شهادة دكتوراه شرف، ويتابع طريقه، طريق الحياة، وإما أن يفشل حتى بالابتدائية ويخرج من الصفوف ويعيش على هامش الحياة..
ولكن السجن في النهاية ليس هو الحل..
الحل هو وحدة المجتمع والدولة، وحدة الشعب والقيادة، قيادة تحمي وحدة الشعب وحريته وكرامته وتحقق طموحاته وأهدافه في الوطن.. وفي الأمة..
* كان هناك مسمار صغير يتوارثه المعتقلون، يوضع في ثقب صغير في الجدار.