لو بعث الكواكبي حياّ

همام عبد الملك الشامي

لو بعث الكواكبي حياّ

همام عبد الملك الشامي


 

 رب يوم بكيت منه فلما     صرت في غيره بكيت عليه


توفي عبد الرحمن الكواكبي عام 1902 بعد أن عاش حياته يحلم بنهضة بني قومه، ويهيب بـهم أن ينفضوا عنهم غبار الجهل والتخلف والرضا بالظلم والتسليم للاستبداد، وخلف آثاراً مكتوبة مهمة لا يستطيع مؤرخ أو متعرض لحياة العرب والمسلمين في العصر الحديث أن يتجاهلها. وقد كانت هذه الآثار من وحي الفترة التي عاشها الكواكبي، ونظر إليها بثاقب فكره ولهيب غيرته، وهي فترة الحكم العثماني لبلاد الشرق العربي.
وهناك حقيقة تحسن الإشارة إليها فيما نحن بصدده؛ وهي تلُّون الحكم على تلك الفترة: مالها وما عليها، بحسب أغراض الذين يصدرون هذه الأحكام، واختلاط النوايا المخلصة لكثير من أهل البلاد الذين كانوا يريدون الخروج من الواقع المأساوي الذي آلت إليه الدولة العثمانية؛ بالنوايا الخبيثة والمدخولة التي كانت توجه كثيراً من الكتاب والمؤرخين الذين تناولوا تلك الفترة بالحديث والتحليل، ونعني بـهم: أصحاب المشروع التغريبي الذي كان يعمل بجد وكيد يحسد عليهما للإجهاز على البقية الباقية من كيان هذه الدولة، واقتسام أملاكها، وفرض الثقافة والأفكار والأحوال التي تسخرها لصالح هذا المشروع إلى الأبد.وإذا لاحظنا أن الغلبة البدهية في صراع النوايا هذا، وما يتمخض عنه هي لأصحاب المشروع التغريبي المسلح بالعلم والمعرفة والتنظيم والنفوذ والمال؛ فسندرك أن الصورة التي استقرت في ثنايا العقل الباطن العربي عن تلك الفترة ليست مطابقة للواقع الذي كانت تصفه وتلونه أقلام أصحاب المشروع التغريبي ومن يسير في ركابـهم عن علم أو عن غفلة.
وقد أصبح بأيدينا من المعلومات والدراسات ما يساعدنا على عقد المقارنات بين ما كانت عليه أحوالنا تحت "النير العثماني" كما يسميه مشوهو الفكر والهوية ممن استلحقهم المشروع التغريبي؛ وما آلت إليه الأحوال ونحن نتمتع بشمس الحرية التي تطلع علينا ونحن "ننعم ونرفل بحلل السعادة" تحت حكم الدولة القومية التي حَلَمَ بـها كثير من كتابنا ومفكرينا في أواخر العهد التركي.
لاشك أن هذه المعلومات والمقارنات ستكون إلى جانب ذلك العهد غير الكامل على كل
حال، ذي العيوب الكثيرة، والعلل الخطيرة، هذا إذا كان هناك إنصاف، ووجد منصفون.
إن الفترة المثالية الحافلة بأمثلة الظلم والاستبداد والتضييق على الأفكار وكبت الحريات، والتي تعتبر منجماً غنياً يزود أصحاب هذه النظرية المتحاملة غير العادلة على الحكم العثماني بالأدلة والأسانيد على أنه حكم معادٍ للحريات وسنن التقدم والتطور.. هي فترة حكم عبد الحميد ومن بعده الاتحاديون. لكن كم بلغ عدد السجناء والمعتقلين والذين أعدموا، أو ماتوا تحت التعذيب بسبب معارضتهم الحكم وبسبب أنشطتهم السياسية يا ترى؟! نسأل هذا السؤال عن عدد هؤلاء في شتى أنحاء تلك الإمبراطورية المترامية الأرجاء، وطوال تلك الفترة الممتدة بين عام 1876 عند اعتلاء عبد الحميد كرسي السلطنة؛ إلى نـهاية حكم العثمانيين للبلاد العربية، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 وهي اثنان وأربعون عاماً تقريباً.نريد رقماً نقارنه بما حدث ويحدث الآن في ولاية واحدة كانت في يوم ما من ولايات هذه الإمبراطورية، وهي ولاية سورية في فترة حكم حافظ الأسد فقط.رحم الله الكواكبي، فلو بعث اليوم من تحت أطباق الثرى، ونظر إلى واقع بلاده التي أحبها وتحمل من أجلها ما تحمل، وكتب في سبيل مجدها ما كتب؛ لكسر قلمه، وعض على جرحه، وتوارى في زاوية من زوايا النسيان كمداً وخجلاً.
لكن لا، إن أمة أنجبت الكواكبي وغيره من محاربي الظلم والتسلط، وفاضحي أحوال الطغيان والطغاة؛ لم ينته دورها - ولن ينتهي - وهي مدعوة اليوم وغداً أن تتدبر في أمرها، وترجع إلى مكامن العزة عندها، وتنفض عن أفكار رجالاتـها غبار التجهيل، وتبرزها أمام أعين أجيالها، وتبلغ رسائل آباء الأمس إلى أبناء الغد، "فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه".ولكن قد يقال إنه لا أمل اليوم من الخروج من هذا الواقع، فقد أوصلتنا النكبات المتلاحقة إلى جدار مسدود، وأشد هذه النكبات وأنكاها هي تلك التي صنعها العسكر.
وقضت الديكتاتوريات والحكومات الشمولية على عناصر القوة والحيوية في شخصياتنا وكياننا، ليست الكارثة في عشرات الآلاف من الشباب الذين تحطمت آمالهم وضاع مستقبلهم، وأكلت السجون والمعتقلات أجسادهم، ولا في الآلاف الذين فقدوا حياتـهم، ولا في ما يصعب حصره من الأسر المشردة التي افتقدت الكاسب، وعدمت المربي الغيور.. ليست هذه هي الكارثة الحقيقية، فكثير من الأمم تفقد أكثر من ذلك في كوارث وجوائح كالزلازل والأعاصير والبراكين، إن الكارثة بالنسبة لنا في بلاد الشام هي في الروح التي خلفها الحكم الطاغوتي في النفوس، في التخريب الذي أصاب الأرواح والشعور الجمعي العام، وفي انتشـار عقلية التسليم والدوران في فلك الطغيان بل مواجهته، وفي ترديد آية: ((ليس لها من دون الله كاشفة))، التي اشتكى رشيد رضا والكواكبي من شيوعها على الألسنة وتردادها كلما اقترب الناس من مناقشة ما يدور حولهم.هذه هي الكارثة الحقة، وليست فقد الأرواح، والسجن، والاعتقال، والنفي، والتشريد، الكارثة أن يصبح هذا الهروب من الواقع المرِّ البائس الذي يقبع فيه الشعب السوري هو الأسلوب الذي يعتاده في حياته، والسياسة التي يشب ويشيب عليها، والقدر الذي لا خروج منه، والثقافة التي يتزود بـها يومياً، ويرى من يقول ذلك أنه على افتراض أن الواقع السياسي في سورية قد تغير الآن إلى شكل معقول يتنفس فيه الناس تنفساً طبيعياً، وغادر ما كان فيه من احتقان، وإقصاء، وشوفينية ومزايدات، وباطنية وتعتيم، وما جرت على البلاد سياسة الحزب الواحد الذي احتكر كل شيء، وانتهك كل حرمة، وخنق الأصوات النقية الحرة، وأسكت كل نقد بناء، وباض في ظل هيمنته النفاق والتملق وفرّخ! وأصبح الخوف والقلق والشك هو الذي يحكم  تصرفات الناس ويضبطها، فتراجع الاقتصاد، وقتلت المبادرات، وتكلست الثقافة، وساد الفساد والرشوة، وانتشر الفقر، وانكشف الشعب السوري أمام غزو البترودولار بحجة تشجيع السياحة .. لو "افترضنا" أن الناس تنفسوا الصعداء وارتفع عنهم نير الإرهاب وقانون الطوارئ فإنـهم لن يتصرفوا مثل بشر طبيعيين قبل مرور فترة طويلة الله وحده أعلم كم ستطول، وذلك لأن المريض الذي عولج من مرض خطير وشفي لا يمكن أن يغادر فراش المرض وينهض ليمارس حياته العادية بمجرد إحساسه بتحسن صحته، بل لابد من مروه بدور نقاهة يكون فيه بمنتهى الحذر، وإلا انتكس، فكيف إذا كان يعاني من عدة أمراض اصطلحت كلها على جسمه العليل كحال الشعب السوري؟!
إن هذا الوصف لأحوال الشعب السوري تحت حكم البعث الطائفي، وفي فترة البيات الشتوي من ذلك الحكم؛ وهي فترة انفراد حافظ أسد بسورية هو جزء من حقيقة مرة ستكشفها الأيام القادمة إن شاء الله، وإذا كانت الحال قد وصلت إلى هذه الدرجة من الخطورة فليس أمامنا من خيار إلا بالإسراع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإن الندب وضرب الخدود وشق الجيوب لا يجدي نفعاً، هذا هو قدرنا، وهذا هو واقعنا، والإصلاح والإنقاذ ممكن.
إن لنا من رصيدنا الثقافي ما يعصمنا من الوقوع ضحايا الفرعنة والاستبداد، وإن من أوجب الواجبات - الآن وفي المستقبل - على أهل العلم والرأي في بلادنا أن يضعوا هذا الرصيد موضع الدراسة والتطبيق، عندنا الرصيد: القرآن والسنة وأقوال الصحابة الكرام والقادة الفاتحين العظام، والشعر العربي في تعشق الحرية وإباء الضيم:

وأستَفُّ تُرْبَ الأرض كي لا يرى له    عليّ من الطَّولِ امرؤ متطوِّلُ
ولولا اجتناب الذام لم يُلْفَ مشرب       يعاش به إلا لـديّ ومـأكلُ
***
إذا ما الملك سـام الناس خسـفاً          أبينا أن نقـر الظــلم فينا

وعندنا الوسائل التي تربي الشعب على الأنفة والخروج من حياة الاستعباد، عندنا المدارس والمساجد والصحف، وعندنا الشعب الحي القابل للغرس، هل نحن أقل قدرة ومواهب من الروم الذي وصفهم عمرو بن العاص بقوله للمستورد القرشي حين روى أمامه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" فقال له: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً:
إنـهم لأحلم الناس عند فتنة،وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة،وأوشكهم كرة بعد فرَّة،وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف،وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. صحيح مسلم
هب أننا لم يعطنا الخالق عز وجل ما أعطى غيرنا من الأمم من المواهب - حاشا لله - وليس عندنا شيء نعتز به ويدفعنا إلى الأمام؛ أفليس عندنا عيون مفتوحة ترى العالم كيف يعيش، وأصبحت وسائل الاتصال ترينا الدنيا كما هي، لا كما يصفها الواصفون، أفلا نتعلم من غيرنا، ونتعظ بأن التضييق على الناس، سيعود على الذي يفرضه بأوخم العواقب؟!.
نعم، لقد بلغ سوء أحوالنا درجة لابد من الخروج منها، لن يجدي الشعب السـوري أن ينتظر ملك الموت أن يحل له مشـكلته، بل يجديه أن يتحد بوجه الديكتاتورية ويخلعها وآثـارها إلى الأبد ليسـترد كرامته، ويعود إليه دوره المفقود ...