بناء الإمبراطورية والوعي الجماعي الإسلامي

بناء الإمبراطورية

والوعي الجماعي الإسلامي**

South Africa- Durban, Icc

هيثم مناع*

الحديث عن بناء الإمبراطورية الأمريكية اليوم على أساس القبول والانخراط الإلزامي لشعوب العالم الإسلامي، وبشكل خاص منه أبناء الحلقة الأقوى موضوعيا والأضعف واقعيا، أي العالم العربي، في هذه العملية على أساس القبول بمنطق الإمبراطورية السائدة وتصوراتها ومفهومها لمصالحها ولهذا الجزء من العالم، يعيد طرح أكثر المفاهيم قدما في العلاقة بين النحن والآخر، ويبعث في الوعي الجماعي الإسلامي كل ما يتقاطع مع هذه اللحظة في منطق المرجع في كل ما له علاقة بالإمبراطورية والإمبريالية والسيطرة والعلاقات غير المتكافئة بين البشر. بهذا المعنى، تلتحق جماعات مصالح سياسية واقتصادية منسجمة أو مندمجة مع مشروع بناء الإمبراطورية هذا  بخطاب الأقوى، في حين تتحول الجموع الأوسع لما يمكن تسميته المقاومة، بتعبيريها السلبي أو الإيجابي. فنحن أمام ثقافة سائدة تعتمد في مقوماتها الأساسية، بوعي أو بدون وعي، على فكرة الخلافة الكونية والإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.

عود على بدء

على حساب الوثنية ومع ولادة الديانات التوحيدية، اكتسبت فكرة التوسع بُعدا ً أخلاقياً كان ينقصها. فصارت تبشيراً وفتحاً وإعلاء لكلمة الله.  ورغم أن البعد العقائدي "للإمبريالية" لم يلغ سبي النساء وغسل دم الأمم وفكرة التفوق الذاتي، فقد نال التوسع الديني وسام شرف لم يحمله من سبقه من رواد التوسع.

جاء الإسلام ليؤكد على فكرة عالمية الدين، وبالتالي ضرورة انتشاره في الزمان والمكان ضمن مبدأ دنيوي يكرّم الإنسان ومبدأ ديني يرتقي بالتوحيد لتعبيره الأكثر تجريداً ومثالية بآن في الديانات الإبراهيمية. وقد تمكّن الدين الجديد من تحقيق مكاسب مادية وروحية كبرى لحمله رايته، ونقل العرب من العصبية القبلية الفارغة المعنى والمبنى إلى معارك مجدية بنت الإمبراطورية. كذلك نقلهم من عقائد محدودة الفعل والأثر على الناس إلى عملية تكوين شاملة للوعي العام تجدد المعطى أو تنسخه بثوب إسلامي. وكانت النتيجة الأكثر وضوحا ً في الوعي المادي للناس، صيرورة المسلم المواطن من الدرجة الأولى في الفضاء الأكبر من العالم القديم. ومهما كانت المظالم والمعارك الداخلية والانقسامات المذهبية.. فقد كان في جوفها الباطن أو المعلن فكرة الإمامة أو القيادة للسلطة الأقوى في مناطق انتشار الإسلام.

 لذا، وبالرغم من كل عاهاتها وسلبياتها، تشكل حقبة الإمبراطورية الإسلامية في الوعي الإسلامي الباطن، حقبة سيادة وتكريم ومكاسب وامتيازات أكرم الله بها من نصر كلمته.

ولا تختلف هذه المسالة كثيراً في الوعي المسيحي بعد القرن الرابع للميلاد. فقد تداخلت فكرة التبشير بالتوسع والقوة، ولم ينجح الإصلاح الديني وأشكال التجديد المختلفة في التعرض له بقراءة نقدية راديكالية.

 وأذكر أن الدكتور جمال الأتاسي طلب مني في عام  ( 1979 ) ترجمة بعض نصوص لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية فأرسلت له تراجم دقيقة فتفاجأ بالموقف الإيجابي من الحروب الصليبية وأذكر أني كتبت له حول ذلك يومها: "هذا شئ طبيعي، هل يجرؤ رجل دين مسلم، مثلا، على استعمال كلمة احتلال للفتوح الإسلامية ..؟"

لقد كانت أولى طموحات ومخاوف رواد التنوير الأوربيين "أنسنة" فكرة الإمبريالية بعد حقبة تدينها. ولم يخل الأمر في بعده السياسي، من صراع أكثر عملية وواقعية لأصحاب القرار بعيداً عن أحلام المفكرين الجميلة، لذا حرصت قوات الاستعمار على مكانة للتبشير المسيحي في حملاتها فيما يظهر لنا التناقضات البنيوية الدائمة لأوربة العلمانية المتفوقة مادياً وثقافياً وبالتالي العالمية بالضرورة لأن ثقافتها هي الأكثر دينامية وثورتها الصناعية هي الأكثر قوة وبنفس الوقت، الإعلان الدائم بأن تدخلها في كل زمان ومكان إنما يهدف للتقارب بين البشر باسم وحدة المصير المشترك والشراكة في المكتسبات الحضارية، ولو كان ذلك عبر فعل عنيف، ولكن ضروري لتحريك مياه المستنقعات الآسنة.

في هذا الوضع المركب والمعقد، ولدت الأنتلجنتسيا العربية و/ أو الإسلامية كنتيجة مباشرة للهيمنة الأوربية، وبتعبير ٍ أدق، لتعميم نمط المؤسسة الثقافية الأوربية على صعيد المستعمرات، ولدت الأنتلجنتسيا في ومع المحاماة والجامعة والصحافة والبنوك الخ... وعاشت في هذه الولادة أزمة داخلية عميقة بين المفهوم المجسد للقوة والمفهوم المجرد للنهضة: أمام ناظرها بهجة عصر التنوير والثورة الصناعية، وفي عقر دارها بؤس الاستعمار المباشر. لذا، نادراً ما نجحت في فك ارتباط راديكالي بين العناصر الإنسانية في الحضارة الغربية وبين الوجه القبيح للهيمنة. من هنا نجد أن المثقف في هذا الجزء من العالم، علمانياً كان أو إسلامياً، يحمل في دمه فيروسي القوة والوحدة.. بمعنى أنه بدأ المسيرة من العناصر الأسوأ في الحضارة الغربية. فهو بوعي أو بدون وعي، يترحم على الخلافة العثمانية باعتبارها آخر تعبير للإمبراطورية غير الغربية. يكفي تتبع ردود أفعال ناقدي الخلافة عند صدور دستور 1908 وتحولهم لتأييد حماسي للتغير من الداخل، لإدراك أهمية هذا المركب النفسي البنيوي الذي يصدق على المسلمين وغير المسلمين.

عندما يتحرر، من يتحرر من مثقفينا من عقدة الخلافة والدولة القوية، يصبح هاجسه تكوين معرفة "اللحاق" غربياً، فيسرق دون أن يسترق ويتّبع دون أن يبدع، وباستعارة تعبير الشاعر جورج حنين يروج "لثقافة تبحث عن مراضاة عرابيها ودائنيها الأبعد، ولاشيء يفوق في وهنه المراضاة".

عاشت النهضة في ظلال  "الليبرالية الكولونيالية" وكانت أولى ضحايا عملية الاستلام والتسليم بين المستعمر القديم والدولة القطرية الوليدة، عبر صيغتين كلاهما مُرّ: الأولى تسليم مفاتيح السلطة إلى الأعوان المحليين الأكثر ولاء للغرب من مشايخ أو أعيان أو أشباه أمراء. والثانية بوصول الاتجاهات القومية إلى السلطة بانقلابات عمدتها ثورات. ليست نقطة الألم في مدى شعبية هذا أو ذاك، بقدر ما تكمن في تعميق هذه الصيغ لفكرة تاريخية مفادها أن التغيير بيد من يملك زمام السلطة أما المجتمع فهو مادته وموضوعه. بتعبير آخر جرى تأميم الفضاء السياسي والمدني والثقافي وتحجيم الاجتماعي والاقتصادي بشكل لم يعد فيه للمواطن أبسط تعريفاته أي القدرة على المشاركة في الشأن العام. هذا التهميش للمجتمع كان أول صفعة تتلقاها الدولة الحديثة كمفاهيم وممارسات، ومهما كانت  تلاوينها، قومية أو إسلامية، يسارية أو ليبرالية، فقد أضحت مجرد عباءة صناعية موضوعة على الجسد المجتمعي من خارجه. ففي الواقع، كان هناك فئات، أو تجمعات مصالح أو تجمعات مصالح أو تجمعات عضوية، أمنية، عسكرية، قبلية، إقليمية لا يهم، احتكرت الثورة والثروة وقررت أنها مبدعة الرسالة الخالدة ولها العلو على الجميع وبيدها الحقيقة والخلاص.

هذا الأنموذج للتسلط هو بالضرورة موضوع ارتكاس للعلاقات ما قبل المدنية، باعتبار الحق المدني محرم ومدنس، وثمن المقاومة لا يتناسب مع قدرة الفعل. وفي مجتمع يرى المشهد الديمقراطي الغربي في الإعلام ويعيش المشهد الاستبدادي العضوي في الحياة اليومية، تعتبر النقلة لعالمية الإسلام وعدالة الرحمن ومشاركة المؤمنين برنامجا سياسياً متقدماً.

عودة الإسلام بهذا المعنى، كانت نقلة من الوعي الطائفي والقبلي والعشائري إلى الدين العالمي الذي بنى الإمبراطورية يوما ً وقاوم الغزاة في أكثر من مناسبة ووضع حداً للحملة الصليبية وشارك في كل حروب التحرير من الاستعمار ويمكنه إعادة إنتاج ما سبق وقدّم. لذا فهو يشكل في الذاكرة الجمعية مرجعاً إيجابيا خاصة وفي المقابل صورة لدول تتصارع على ميراث الرجل المريض ( الخلافة العثمانية ) في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ولدولة تسعى لبناء إمبراطوريتها في البطن الرخو (العالم العربي ) في مطلع القرن الواحد والعشرين.

آلية الدفاع الذاتي في جو أفرز مسلمات أساسية أولها أن زراعة الاستبداد حصادها التطرف الديني وثانيها أن زراعة عنف الدولة ينتج الحركات الجهادية وثالثها باقتضاب شديد، أن بذر الحريات يعني حصاد حريات أكثر. آلية الدفاع الذاتي هذه تجعل من مواجهة الديمقراطيين للإسلام، مواجهة مفتوحة مع احتمالات التغيير من المجتمع والداخل نحو الديمقراطية، وتفتح الباب للحرب الأهلية كخيار ممكن لقوى استئصال الآخر.

من هنا، نقول لأصحاب نظرية الاستقواء : ليست مهمتنا فرض أي تغيير على المسلم أو الإسلام،

أولا،  لأننا لم نرتق في يوم من الأيام لمستوى علمانية عالمية، وما عرفه الغرب نماذج شتى للعلمانية من التعبير النضالي الراديكالي الفرنسي، إلى الشكل البراغماتي التوافقي الألماني وصولا للتعبير المجتمعي البريطاني وإلى حد ما الأمريكي.. وباستثناء التجربة الفرنسية، لم تكن العلمانية ابنة حرب أهلية بل على العكس فصّلت على ثياب الحؤول دون العنف الأهلي. أما في المجتمعات الإسلامية فكانت العلمانية تسلطية واستئصالية، أي مناهضة بطبعها وبنيانها للمشروع الديمقراطي. أليس من المضحك أن تكون العملات في بلد معظمه من المسلمين الممارسين لشعائرهم بدون أي مرجع ديني ويكتب على الدولار "بالله نؤمن". وأن نطالب بعض الدول الإسلامية بضبط البرامج التلفزيونية الدينية وحجم هكذا برامج في الولايات المتحدة يقارب إن لم يفق أي بلد إسلامي؟ هل يمكن التعامل مع العلمانية إلا بوصفها حماية معتقدات وآراء البشر ممن يستعمل سلطة الدولة لحرمانهم من ذلك؟

ثانيا، لأن اقتصاد العنف يقوم على فلسفة التسامح والحوار لا على مبدأ الرهاب (الفوبيا) التسلطي: "دمقرطة المجتمع تعني أسلمته"، الذي تروج له نظم التسلط ومن يغطيها دوليا. وبالتالي نحن لا نخوض في تكتيكات آنية أو نضحك على "ذقون" الإسلاميين لأنهم يملكون حصة هامة في الشارع.  ولكن، وبكل بساطة، نعتبر احترامهم والتعامل النقدي والجدي معهم من شروط زراعة بذور صالحة للديمقراطية في الحياة اليومية. وعليه، نتبنى عودة العقد الأخلاقي للسياسة كشرط حيوي، علماني وإسلامي، لعودة الثقة المجتمعية بالسياسة.

 ثالثا، ليست الغاية كسر العظم أو تثبيت المواقف، بل إيجاد كل فرص الحوار والنقد والتفاعل الداخلي والخارجي من أجل تعزيز دينامية حقيقية للتغيير تسمح بولادة تيارات سياسية إسلامية وغير إسلامية تعتبر وجود الآخر شرطاً ضروريا لكرمة الذات ونجاة الجميع.

*هيثم مناع، مفكر عربي وصاحب موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان.    

**مداخلة ألقيت في ديربان (جنوب أفريقيا في 4 فبراير 2004)