مآسي الشعوب بين (عنف الأفراد) و (إرهاب الأنظمة)
مآسي الشعوب بين
(عنف الأفراد) و (إرهاب الأنظمة)
محمود السَّيِّد الدّغيم*
تجتاح العالم موجات من القتل والدمار جراء انحطاط الأخلاق، وضياع الْمُثُل العُليا، وحلول الشر محلّ الخير، والكراهية محلّ المحبة، وسبب ذلك هو العدوان غير المبَّرر من قِبل بعض الناس على البعض، وطريق الخروج من دائرتي العنف الشعبي والإرهاب السياسي الدولي تقتضي إزالة الأسباب التي تُبرّر العنـف، وذلـك بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالإرهاب والترهيب القائم على كمِّ الأفواه والقمع، والعدوان على الأنفُس والأديان والأعراض والأموال والعقول التي عبّرت عنها الشرائع السماوية بالضروريات الخمس الواجب حفظها للناس.
إن الحروب بين الدول تقوم على إرهاب الأقوياء المهاجمين، وعنف الضعفاء المدافعين، والصراع بين الحاكم والمحكوم يتوزع بين الإرهاب والعنف، ومهمة القوانين والدساتير هي حفظ حقوق الجميع لمنع العنف الشعبي والإرهاب السُّلطوي بنفس الوقت لأن الإرهاب من قِبل الأقوياء المتسلطين يُبرّر عنفَ الضعفاء المقهورين الذي قد يكون دموياًّ مدمّرا في بعض المراحل، ولا سيّما عندما يعتدي الأقوياء على حقوق الضعفاء بطريقة تمسّ الكرامة، وتمنع الممارسة الحرة للحقوق الإنسانية الطبيعية، وتصادر الآراء والتفكير والأموال، وتحوّل الضعفاء إلى قطعان من العبيد لخدمة مصالح الأقوياء بشكل مُطلَق دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، وفي هذه الحالة يصبح العنف الشعبي ضرورةً للخلاص من الإرهاب الذي يمارسه الأقوياء المتسلطون على مقدّرات الشعوب.
إنّ الراصد لوقائع الأحوال يكتشف ظاهرتين متقاربتين في إلحاق الضرر بالناس، وهما: إرهاب الأنظمة السياسية المتسلطة الحاكمة بالقوة، وعنف الأفراد والمنظمات الشعبية، وبما أن مصطلحي الإرهاب والعنف قريبان من بعضهما، فإننا نرى أن الإرهاب السياسي أشدّ ضرراً من العنف الشعبي، والإرهاب السياسي صفة من صفات الدول بشكل عام، والدول القوية هي التي تمارس الإرهاب ضدّ مواطنيها من جهة وتسخّرهم في إرهاب الدول الضعيفة ومواطنيها من جهة أخرى، وحتى الأنظمة السياسية المتسلطة في الدول الضعيفة تمارس الإرهاب على مواطنيها بصور غير مشروعة.
والمقصود بالإرهاب الدولي: قوة الدولة، وما عندها من جيوش وشرطة وأجهزة مخابرات وميليشيات حزبية، وأموال حكومية تساعدها في كسب التأييد للسيطرة غير المشروعة، وقد ألصقت الطبقةُ العاملة الْمُستَغَلَّة المحكومةُ صفةَ "القوة الإرهابية" بالطبقة البورجوازيةِ الْمُستَغِلَّةِ الحاكمة، وادّعت: إن البرجوازية المتسلّطة لا تحتاج إلى العنف الشعبي لأنها تكتفي بوسائل القوة الإرهابية المتمثلة بالدولة، وما توفره لها مواردها الاقتصادية، وأجهزتها القمعية التي تدافع عن مصالح البرجوازية المتسلطة في مواجهاتها مع الأكثرية الشعبية الضعيفة الفقيرة الْمُستَغلَّة. فالطبقة الحاكمة في الدول القوية توقِّع على ما يناسبها من الاتفاقيات الدولية، وتُفصّل الدساتير على مقاييس حُكامها، وإذا طرأ طارئ ما تقوم بتعديل القوانين والدساتير، أو تغييرها لتتناسب مع الواقع الطارئ، ومثال ذلك إذا حدّدت مادة من مواد الدستور سنّ الرئيس بمقدار مُحدّد من السنوات، ثم اضطرت النُّخبة المتسلِّطة الحاكمة إلى رفع أو خفض تلك السن، فلن يتطلب الأمر سوى عقد جلسة غير قانونية لمجلس الشعب – غير القانوني أصلاً- ثم يتمّ تعديل أو إلغاء المادة الدستورية التي تتعارض مع الوقائع المستجدَّة، ويصبح الدستور كحصان طروادة لخدمة المتسلّط الجديد.
والذي يستعرض تاريخ دساتير الدول الأجنبية والعربية يجد الكثير من الدلائل على الاستخفاف بتلك الدساتير من قبل الطبقات الحاكمة تعديلاً وتغييراً وتجاهلاً، ولا تبرز قُدسيّةُ الدساتير إلاّ عندما تُستغلُّ لإلحاق الأذى بأحد المعارضين للسلطة الحاكمة، أو المطالبين بالحقوق الأساسية لعامة الشعب.
والمقصود بالعنف الشعبي: الفعل الذي يقوم به شخصٌ واحد، أو منظمّة تتكوّن من عدد من الأشخاص، ويؤدي فعل العنف إلى اغتصاب شخص أو أشخاص حرية الإرادة، وسلب حقوقهم، ونهب ممتلكاتهم بصورة عدوانية دون مبالاةٍ بحقوق الآخر، وذلك باستخدام القوة بشكل سرّيّ أو علنيّ.
وقد اختلف المشرعون والفلاسفة والحقوقيون في تعريف العنف، فقال بعضهم: إن العنف هو الأفعال الصادرة عن القوى الضعيفة المغلوبة التي تقوم بالعنف ضدّ الغالبين، لأنها تطمح إلى تحطيم النظام الاجتماعي المفروض عليها بالقوة الحكومية الغالبة، وهدف المغلوبين هو بناء نظام اجتماعي يُنصِفُ المغلوبين، ويقوم على العدل والحرية والمساواة بين الغالب والمغلوب، ويؤدي إلى استرداد الحقوق المسلوبة، وهذا الطرح قد يؤدي إلى حلقة عنف جديدة يتحول فيها عنف المغلوب إلى قوّة سياسية إرهابية غالبة متسلِّطة تُحرِّكها الكراهية مما يؤدي إلى استمرار التناحر بين البشر في ظلِّ انحسار المحبة، وتمدُّدِ الكراهية.
ويماثل البعض بين القوة الحكومية الغالبة، والعنف الشعبي الذي يمارسه المغلوبون، ويرى أصحاب هذا الرأي تقسيم العنف إلى قسمين هما:
1ـ العنف التقدمي الثوري الرامي إلى التغيير الجذري والتجديد اللامحدود، وذلك باستخدام الوسائل الْمُتاحة بشكل عام.
2_
والعنف الرجعي الرامي إلى المحافظة على مكتسبات النظام
المتسلّط القديمة الموروثة، وربط الواقع الحديث المعاصر مع الماضي العريق، وما
يحفظه
من مصالح متنوعة.
ويرى
أصحاب هذا الرأي: أن حالتيّ العُنف لا تحصلان بغير
كراهية مُعزّزة بالقوة التي تمكّن الفاعلين من فعلِ أفعالهم، والأفعال العنيفة تحصل
على
مستوى الأفراد، والجماعات بشكل عام، وقوننتها ومنهجيتها تُصاغ من قبل
المنتصرين، والأمثلة على ذلك كثيرة تجسّدها الدساتير والقوانين الوضعية، وما تُنتجه
الثورات والانقلابات والحروب، ويلاحظ الباحثون بذور الحب والكراهية في سُدوة الصراع
ولُحمته، والحبّ والكراهية هما المحركان الأساسيان لأفعال البشر العنيفة وغير
العنيفة، والفارق أن الأفعال الخيرّة النافعة مرتبطة بالمحبّة، والأفعال العنيفة
الضارّة الشريرة مرتبطة بالكراهية.
وجذور العنف عميقة عند الإنسان ترتبط بطبيعته الأنانية الفردية النابعة من حُبُّ الذات، وما تتطلبه من حبّ التّملّك والأثرة، ولكن إخراجه من الدائرة الغريزية الأنانية الفردية إلى دائرة العقل الجماعية هو الكابح المثالي للعُنف الذي تُنميه المصلحة الفردية المطلقة، وما يرتبط بها من الحاجات الخاصة التي تبدأ بالغذاء والكساء واللباس، ثمّ تَسمُوْ إلى حرية الرأي، وإذا عجز المجتمع عن التّفاهم الاجتماعي لكبح الأنانية الفردية الذاتية، فإن حياة المجتمع سوف تصبح جحيماً جراء العنف المستمرّ الذي تنشأ أمواجه من دائرة الفرد، ثم تتّسع وتمتدّ إلى حلقة العائلة، ثم دائرة القبيلة، والمحيط القومي، وكلما اتسعت دوائر العنف ازدادت المآسي وحلّت الكراهية محلّ المحبة، وتراجع العقل الواعي أمام الغريزة الطوطمية، وهذا الصراع القديم والحديث يُعبَّر عنه بالصراع بين الخير والشر، وما يرتبط بهما من أقوال وأفعال تساهم في إعمار الأرض أو تدميرها.
ولذلك نجد أن الشرائع السماوية قد دعت إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، لا بالتحريض على العنف وقوة الإرهاب وما ينتج عن ذلك من سفك للدماء التي حرّم الله سفكها إلاّ بالحقّ، وتؤيد قاعدةَ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" القوانينُ النقلية والقوانينُ العقلية، والغاية من ذلك هي لجمُ العنف الفردي والجماعي الذي يغذيه حُبُّ الذات وكراهيّة الآخرين، والغاية من لجم العنف هي إحلال الوئام والتفاهم للتمكُّن من إعمار الأرض لا تدميرها مع مَنْ عليها من البشر والشجر والحجر، والتمكُّن من إحلال الحب العام محل الحب الخاص هو السبيل إلى القضاء على الكراهية المدمرة.
ومن أجل الوصول إلى التفاهم والتعاون بالمحبة بغير عُنف، نجد أن الديانات السماوية والفلسفات الأرضية، والقوانين الوضعية قد دعت إلى التعاون والإيثار والمحبة، ونبذ الشّقاق والكراهية، لأنّ الحبّ يؤدي إلى التضحية بالمصالح الذاتية الضيقة في سبيل المصالح العامة، وهو نقيض الكراهية التي تحرّكها المصالح الخاصّة، وتؤدي إلى العنف وما يترتب عليه، وما ينتج منه من العدوان والتنابذ والتناحر والأثرة.
يرتبط مفهوم السلام بالمحبة، ويرتبط العدوان بالكراهية، وكلما اتسعت حلقات المحبة يسود السلام ويزدهر العمران وتعمّ الرفاهية كافّة الناس، وينحسر العدوان والعنف ، وتضعف الكراهية، وما يرتبط بها من عنف متعدّد الأنواع والوسائل والطُّرُق، ولذلك فإن تنمية المحبة بين الناس هي العلاج الشافي لأمراض العنف الناتج عن الكراهية الدافعة إلى الانتقام، ولو تطلّب ذلك التضحية بالنفس والنفيس، وقديماً قالت العرب: حُبُّكَ الشيء يعمي ويصمّ، أي يجعلك تتغاضى عن المساوئ، وتهتم بالمحاسن، وكرهك الشيء عكس ذلك، أي يجعلك تضخم السلبيات، وتقلّل من أهميّة الإيجابيات.
وتنمية المحبة الاجتماعية تتطلب الحوار والنقاش الوديّ، ونبذ القمع القسريّ القائم على استخدام القوّة الغاشمة بكل أنواعها، وإحلال المحبة محل الكراهية لا يتمُّ بالأسلوب الذي يُسمى "المكافحة" وإنّما يتمّ بالمحاورة والتفاهم الحضاري القائم على التعدّدية، واحترام الأكثريّة لرأي الأقليّة، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقه دونما سلب ونهب ينتجُ الكراهية وما يترتب عليها من عُنفٍ مشروع أو غير مشروع، فقضية المشروعية نسبية محكومة بظرفي الزمان والمكان ونوعية السلطة المتحكّمة بهما.
* باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن