صناعة القرار في زمن التراجع والفرار

صناعة القرار في

زمن التراجع والفرار

مصباح الغفري  / باريس

حدثنا أبو يسار الدمشقي قال :

ما أعرفه أن الصناعة، وسيلة لانتاج البضاعة . فمن مصانع الأخشاب، نشتري الكراسي والأبواب . ومن معامل القنابل والسلاح، نحصل على أدوات الحرب والكفاح . أما مشاغل الأقمشة والملابس، فتعطيك ما تتقي به البرد القارس .

وأعلمُ أن صناعة الكلام، رائجة في بلادنا على الدوام . فنحن أئمة الشعر والخطابة، وليس في ذلك أي غرابة . فتاريخنا هو تاريخ الشعر، والحكايا والمقالات والنثر .

لكن قاموس السياسة والإذاعة، أتحفنا بنوع جديد من الصناعة . فقد سمعنا عن صناعة القرار، في زمن لم نحقق فيه أي انتصار، بل عانينا من الانهيار بعد الانكسار . وسرعان ما تلقف المقاولون هذه العبارة، وراحوا يستخدمونها بحذق ومهارة . فلا تخلو جريدة من الجرائد، من الحديث عن هذا الفن الرائد . ففي عصر الانفتاح، كل شيء مُباح ، وكل شيء مستباح .

أعترف  أنني في كثير من  المسائل، أميّ وجاهل . وعلاقتي بالسادة الحكام، ليست أبَداً على ما يرام . لذلك جنحت إلى الظن والتخمين، وبعض الظن إثم مُبين . واستنتجت أن هذه الصناعات، متخصصة في إنتاج القرارات . والإنتاج لا بد أن يُباع في الأسواق، ويجلب للمنتجين الأرباح والأرزاق .

وشعرت أن الحياة أصبحت بهيجة، عندما توصلت إلى هذه النتيجة . وقصدت أقرب بقال في الحارة، وتقدمت أسأله بجرأة وجسارة :

أعطني يا رعاك الله ثلاثة كيلو غرامات، من أجود أصناف القرارات !

لكن الرجل نظر إلي بغرابة، ولمحت على وجهه علامات الكآبة . قال :

هل أصبت يا هذا بمس من الجنون، أم أنك مهذار مأفون ؟

قلت مهلاً  يا صديقي البائع، عقلي والله في رأسي وليس بضائع . وأقسم بالواحد القهار، أنني سمعت عن صناعة القرار . فأين يذهب الصانعون بالبضاعة، بعد التوليف والتوضيب  والصناعة ؟

ضحك صاحبي وهو يقول، لا شك أنك رجل بهلول . إن صناعة القرار تحتاج إلى مواد، وهي مفقودة من البلاد، لذلك يأتون بها عن طريق الاستيراد . فقراراتهم مصنوعة في الخارج، وهي تسبب الكساح والفالج. لكنها مترجمة إلى لغة العرب، وهذا ما يثير الدهشة والعجب . وهذه البضاعة لا تباع للفقراء، بل هي حكر للأثرياء . يأخذونها مجاناً بلا ثمن، فافهم إن كنت من أهل الفطن . وثمّة قرارات تأتي عن طريق التهريب ، فافهم أيها اللبيب ! واحفظ لسانك، فهو حصانك، إن صنته صانك ، وإن خنته خانك .

قلت :

-  وكيف تتحدث القيادات التاريخية ، عن صناعَة القرارات الوطنية والقومية ؟ الكل يتحدث عن استقلاليّة القرار، من أهل اليمين إلى أهل اليسار . لدينا مصانع للقرارات ، من قصر المنهل إلى الصخيرات .  لكنني لا أعلَم إن كانت هذه الصناعَة حكراً على  القطاع العام ، أم أنها متداوَلَة بين الأنام .

جحَظت عينا البقال ، وتلفت حوله ثم قال : عِندي أطفال يا ابن الحَلال ، فلا تكثر من القيل والقال ، خصوصاً في هذا المجال ! 

قال أبو يسار:

شكرت صديقي البقال على هذه الشروحات، ورحت أنشد هذه الأبيات :

أبصرت شمطاءً  تتيه وفوقها        تشكو الضياعَ ، قِلادة وسوارُ

جَسَـدٌ تعَوّض بالحُليّ وجَرْسه       إذ غاض منه شبابُه الفـوّارُ

ورأيـت كيف المُستبد بغيره        يوحـي ويوهِـمُ أنه جَيـارُ