الصراعات العقائدية بين القبوقول والإنكشارية
الصراعات العقائدية
بين
القبوقول[1]
والإنكشارية
مصباح
الغفري
لثورة
الفكر تأريخ يحدثنا
بأن ألف مسيح دونها صُلبا
(
الجواهري )
حدّثنا أبو يسار الدمشقي قال :
عثرت على فصل لم ينشر من
كتاب " حوادث دمشق اليومية "، كتبه
المؤلف باللغة العامية . أنقله إلى القراء
مع بعض التصحيح، وهوامش للشرح والتوضيح .
قال المؤلف شهاب الدين البديري الشهير
بالحلاق أحمد، بعد الصلاة على خير البرية
سيدنا محمد :
ولما دخلت سنة ست وسبعين
ومئة وألف هجرية، إزدادت حدة الصراعات
العقائدية والإيديولوجية . بين جُند
السلطان من القبوقول، الذين أرسلتهم
الدولة العلية من الأناضول . والإنكشارية
اليرلية المحلية، وجماعات الأشراف
والدالاتية(2) . فحصل للناس من ذلك أعظم
البلاء، وارتفعت الأسعار وعم الغلاء . حتى
صار الحصول على تنكة الزيت، يعني بيع
العفش والبيت ! وأصبح الناس يقفون في طابور
الإنتظار، لشراء الخبز واللحوم والخضار،
آناء الليل وأطراف النهار، فسبحان الواحد
القهار .
وأضاف المؤرخ البديري
الحلاق، راجياً العفو والعافية من الخلاق
:
وفي سلخ محرم من ذلك العام، وصل جوخدار الحج الشريف
إلى الشام . وكان وصوله هذه السنة في سيارة
مرسيدس سوداء، مزودة بأجهزة تكييف الهواء
. وبشر أن الحجاج سيصلون في صفر الخير، ولم
يقع لهم الكثير من التكدير والضير . فقد
توفي بعضهم من ارتفاع الحرارة، واحتجز
آخرون في النظارة . فمنهم من احتجز بتهمة
السير على اليسار، وهذا دليل على أنه من
الملحدين الكفار . ومنهم من اعتقل بتهمة
السير على اليمين، وهذا قرينة على أنه من
الأصوليين السلفيين . أما من كان يسير في
الوسط، فقد اعتقل بالغلط . ومن لطف الله
فقد تم الإفراج، عن جميع المحتجزين من
الحجاج .
وتأخر أسعد باشا أمير
الحاج الشامي في العودة إلى البلاد،
فانتشرت الشائعات وحدثت البلبلة بين
العباد . وقالت الانكشارية اليرلية، أن
الباشا عزلته الدولة العليّة . وبدأ الناس
يتجرؤون عليه بالكلام، ويقولون أنه لصّ
وابن حرام . فتحركت الدالاتية
والزرباوات في الأحياء، وقالوا نحن
أعيان البلد بلا مراء . وخافت الناس من
اندلاع الفتنة والشقاق، فأغلقت المدينة
وسكّرت الأسواق . لكن لم تمض إلا بضعة
أيام، حتى وصل رسول السلطان إلى الشام .
يحمل فرمان التجديد للوالي، موقعاً
ومختوماً من الباب العالي . مع خِلْعَة
سمور وعباءة جوخ، وباشوية بطوخين وطوخ
(3) . فسكتت الناس عن الأراجيف والأقاويل،
وبدأ الشعراء يمدحونه بالمواويل .
لكن الفتنة كانت كالنار
تحت الرماد، والغلاء في ازدياد، والجوع
يفتت الأكباد . فقد أصبح الخبز يباع
بالأوقيات، والتفاح يُشترى من الصيدليات .
واللحم من البلاد مفقود، والسمن نادر
الوجود . وأصبح راتب الموظف في الشهر، لا
يكفي لشراء رطل من التمر، والناس صابرة
تقول لله الأمر .
وسبب الغلاء هو العمولة
والبخشيش، فكيف يستطيع الشعب أن يعيش ؟
وامتلأت السجون فم يبق فيها مكان،
والإنسان يعامل كالحيوان . فاجتمع الأشراف
والدالاتية في مؤتمر، وقالوا لا بد من حل
لدرء الخطر. وأصدروا بياناً
إلى الشعب، هاجموا فيه السرقة والفساد
والنهب . ودعوا إلى النضال بلا كلل، ضد
القبوقول أصل العلل . لكن الناس سخروا من
هذا البيان، وراحوا يشيرون إلى الدالاتية
والأشراف بالبنان . ويقولون لهم بجرأة
وصراحة، كفوا عن هذه الوقاحة . فأنتم
والقبوقول في ذات السلة، فخيطوا بغير هذه
المسلّة . وإلا من أين لكم السيارات
والقصور، والملايين تنفقونها على الفجور
؟ وكال القبوقول للدالاتية الصاعَ
صاعين، وقالوا لهم : سنجعلكم أثراً بعد
عين . أفبعد أن أفقرتم المواطن والوطن،
وأشعتم الفساد والرشوة والعفن ، تتحدثون
عن الآفات والمحن
؟
وتجمع القبوقول في حلف
مع الانكشارية، وقالوا إن سبب البلاء هو
الرجعية والإمبريالية . فضحك منهم أبناء
الشعب الفقراء، وقالوا هذا والله هُراء
بهُراء . ألستم أنتم عساكر السلطان، الذين
نشرتم الإرهاب والرذالة في كل مكان ؟ نحن
نعلم أن خلافكم مع الأشراف والدالاتية، هو
خلاف بين اللصوص والحرامية!
وبرز إلى الساحة فتحي
أفندي الفتردار (4)، وقال ليس غيري لتحقيق
العدل وغسل العار . فليتوقف الجميع عن
التحليل والفذلكة، فلا صوت يعلو على صوت
المعركة . وعلى الشعب أن يضحي بالرخيص
والغالي، من أفقر الفقراء إلى الوالي .
وهذا هو الطريق للنصر على الصهيونية،
وتحرير البلاد من عملاء الاستعمار
والإمبريالية، ومن إرهاب القبوقول
والإنكشارية والدالاتية .
فتضاحك الناس مما قال،
وانتشر على الألسن هذا الموال :
يا
ما فعل فتحي لما صار دفتردار
غرّه زمانه وسعده حول داره دار
دولاب
عزه رقص يا ناس لما دار
لم يعتبـر أن الدهـر بيه غـدار
ثم وصل الوالي أسعد باشا
زادة، ودخل البلد في موكب كبير كالعادة .
وأخبره المتسلم عما جرى في غيبته من فتنة،
وقدم له تقريراً عن أسلوب تلافي المحنة .
فأرسل الباشا منادياً ينادي في الناس،
بإبطال الدالاتية من الأساس . ومنع عن
القبوقول الأرزاق والأعلاف، لأنهم أعداء
العدل والإنصاف . فهرب الجميع إلى الجبال،
فسبحان الواحد الصمد المتعال . ثم جاء
فرمان بعزل الدفتردار وخنقه في القلعة،
ومصادرة أمواله للدولة بلا رجعة . ونقل
أسعد باشا من الولاية، وابتدأ فصل جديد من
الرواية . ورغم تبدل الولاة والحكام،
والدفتردارية والجباة الظلام . ففقر
الفقراء في ازدياد، والنهب والسلب في
اتساع وامتداد، وما على الشعب سوى
الانصياع والانقياد . وكلما جاء والٍ جديد
ترحمنا على السابق، والناس من الخوف بين
جبان أو منافق . فهل لهذا الليل من آخر، أم
أن الأمر كما قال الشاعر :
أكُلّما
رَخصَ الإنسان في وطني
تغلو البضاعة فيه ؟
جَلّ بارينا !
ـــــــــــ
القبوقول
: عبيد الباب أو حرس السلطان أو إنكشارية
الدولة .
الدالاتية
: أو الدلاة، كلمة عربية مشتقة من " دلى
" التركية بمعنى متهور، وهم طائفة من
الجند.
الطوخ
: جزء من شعر الحصان من ذيله أو معرفته،
يرفع على الرايَة علامة التكريم . وكانت
الباشاوية من ثلاث رتب، باشوية بطوخ،
وباشوية بطوخين، وأرفع منها باشاوية
بثلاثة أطواخ، وهي رتبة الوالي والوزير .
دفتردار: أو الدفتري وهو المشرف على الحسابات المالية . يشبه وزير المالية في هذه الأيام .