المصاعب والمصائب في اجتماع الخطوب والنوائب
المصاعب والمصائب في
اجتماع الخطوب والنوائب
مصباح الغفري
" تشبث بموتك أيها الغبي، فما الذي تريد أن تراه؟"
( من رثاء محمد الماغوط لبدر شاكر السياب )
خطب أبو جعفر المنصور يوماً في الناس، فقال :
ـ مذ وليّت عليكم أيها المؤمنون، رفع الله عنكم مرض الطاعون !
فقام إليه أحد الحاضرين وقال له :
ـ لأن الله أكرم من أن يجمَعَ علينا المنصور والطاعون !
حدثنا أبو يسار الدمشقي قال :
أحدث وسائل الانتحار العصرية، الإستماع إلى الخطابات الوطنية، والأغاني والأهازيج القومية ، والخروج في المسيرات الشعبية . أما مشاهدة التلفزيون ، فهي أسلوب مجرّب مضمون، لكي يصاب المرء بالخبل والجنون . وللوقاية من مرض السرطان ، توقّف عن قراءة صحف مُضر وقحطان، وأخبار المغرب ولبنان، وإذا أردت أن لا تصاب بالغثيان ، فلا تسأل عما يجري في جماهيرية اللجان في كل مكان .
منذ مئات السنين، كان الله يبتلي ويعين، فلا يجمع على الناس الطاعون وظلمَ الحاكمين . أما في هذا العصر فقد اختلّت المعادلة، واختلفت الطريقة في المعاملة، إذ دخل الحكام في سوق الكومسيون والمقاولة. فأصبحنا نبحث عن أهون الشرور، ونقف في الطابور، فالحكم كلب بوليسي مسعور، ونحن بين الشاطر والمشطور . فمع طاعون ارتفاع الأسعار، أصيبت العملة بالانهيار، وتحول المسؤولون إلى لصوص وشطّار، يحوّلون الهزيمة إلى انتصار، وليس لنا غير شتم الإمبريالية والاستعمار، والاستغفار آناء الليل وأطراف النهار .
التقيت بشيخي الحسين بن منصور الحلاّج، وأنا أشعر بالدوار والارتجاج، سألته متى سيدفن الناس الحجّاج، ويؤذن الصبح بالانبلاج !
تهادى الحلاّج شفافاً كالطيف، وقال إنها يا مُريدي سحابة صيف، وقريباً يركع السوط وينثلمُ السيف . إن الله يُمهل، لكنه أبداً ما أهمل ولم يُهمل، جلّت حكمته فهو يُعلي وهو يُنزل . لكنه لن يغير حكام هذه الأمة، ويكشف عنا الضائقة و الغمّة، إلا إذا تغيّرت القاعدة قبل القمة . فكما تكونوا يولى عليكم، وما تقدمونه من خير أو شر يعود إليكم، فالعلّة فيكم وبكم .
قلت : في القديم لم يجمع الله المنصور مع الطاعون أو الجذام، فكيف يجمع علينا في بلاد الشام ، مع الحكام ووزير الإعلام ، الإحباطً والفقر والآلام، وجميع أنواع القمع والظلام ؟
قال الحلاّج : يا أبا يسار تأدّب، وعلى الله لا تعتب، فإنه من حبل الوريد إليك أقرب . ألا ترى لطف الله بالعباد، في كل سهل وواد، أم أصبحت من أهل الكفر والالحاد ؟ لقد ابتلى الله هذه الأمة بحكام ظالمين، استباحوا الأرض والحرث والبنين، وما زالوا في غيهم سادرين، من بلاد الرفيق المُناضل إلى مملكة أمير المؤمنين . لكن لطفه ظاهر في جميع الأنحاء، فقد خلق لهذه الأمة المثقفين والشعراء، والكتاب والروائيين والأدباء، لتخفيف المحنة والبلاء . فالخلود للعلم والفكر، أما أنظمة الارهاب والقهر، وأمراء الفسق والعهر، فليس لها غير مزبلة الدهر !
قلت : أنت بلغت مقام العرفان، فدعني أبثك ما بصدري من أشجان، فذلك يخفف عني الأحزان . إنني أعجب للسلطان يسمي نفسه القاهر، ويزعم أنه منصور وظافر، مع أنه بندوق وعاهر، يفعل في السر غير ما يقوله في الظاهر . أليس من الظلم والإجحاف، أن تذبح العدالة وينعدم الإنصاف، ويؤخذ المرء بالظن والإرجاف، حتى أصبح الأخ من أخيه يخاف . لم يكْفنا حكم الحزب الواحد، وصاحب السمو المعظم القائد، والجنرال والعقيد والرائد . حتى زادت البلّة بالطين، في أمراء المؤمنين، وتحول الشعراء إلى مدّاحين ، يُعَفرون الأنف والجبين، للفوز بنصيب من فتات موائد السلاطين . أما ثالثة الأثافي والمصيبة العمياء، فهي الاستسلام للصهاينة الأعداء، والتنكر لما بنى الآباء، والاتّجار بدماء الشهداء، فأين بصيص الأمل، للخروج من هذا الخطب الجلل، أخبرني بربك ما العمل ؟
قال : صحيح أن الناس، تبلدت مشاعرهم وفقدوا الإحساس. لكن هناك وحدة شهود، بين العبد والمعبود، وللظلم نهاية وحدود . العالم كله اليوم يخطو نحو الحرية، والشعوب بدأت تحطم أغلال العبودية، وستتهاوى سريعاً جميع أنظمة التسلط والديكتاتورية . القمع إلى انحسار، والانتصار للأحرار . إنني أرى الدخان، يتصاعد من فوهة البركان، وعمّا قريب تسمع هدير الطوفان، ويتحوّل المواطن الذي مُسِخ قرداً إلى إنسان، من المحيط إلى لبنان، ومن جبال طوروس إلى نجران .
غادرني طيف الحلاج، وأنا أشعر بالابتهاج، وأكاد أبصر النور في الفجاج . فزال عني الحزن والقهر، ورحت أترنم بهذه الأبيات من شعر أبي فرات ، مع تعديل تقتضيه المُستجدات :
صَبراً وإن مَلّت الأسياف أغمدَةً إن الأمين على العُقبى لَصَبّارُ
صَبراً وإن هَزنا إذ هَز إخوتنـا جُرْحٌ تقيّحَ في بغدادَ نغـارُ
لا
بُدّ أن يسْترِدّ الفتحَ خالدُهُ وأن يُطِلّ على اليرموكِ ضرّارُ