الجنازة حارة

الجنازة حارة .. و ... !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

شاعت بين المثقفين في وسط البلد ذات يوم نكتة تقول إن المرتجع من مجلة " إبداع " يزيد مائتي نسخة عن المطبوع ، والنكتة في المبالغة الشديدة تشير إلى أن " إبداع " مجلة راكدة لا يهتم بها المثقفون ولا عامة الناس ، لأنها رديئة المنهج هابطة المستوى ، ولا تمثل الثقافة القومية بحال . فهي مغلقة على مجموعة من الناس ( شلة ) لهم مصالح مشتركة ومنافع متبادلة ولا يعنيهم أمر الأدب والفكر من قريب أو بعيد اللهم إلا بما يحقق هذه المنافع وتلك المصالح . صحيح أن العائد منها يتضاءل أمام عائدهم من اللجان والجوائز والإعلام والسفريات وصحف الخليج ومجلاتها ، ولكن القوم يؤمنون أن " الحسنة القليلة " تمنع " بلاوى كثيرة " ، ولا يجوز أن يتركوا مثل هذا المنبر الخائب يقع في يد أعدائهم من الظلاميين الرجعيين المتخلفين الذين لا يعرفون قيمة فن " البورنو " وتجلياته الجمالية ، ويتمسكون بأصولية " بائدة " تعيد المجتمع إلى البداوة والتخلف آلاف السنين ، وتنصب محاكم التفتيش في ضمائر المستنيرين التقدميين " المشخلعين " الذين يتقدمون بالوطن التعيس إلى الأمام ليكون أقوى بلد في المنطقة .. يصنع القنابل النووية وتخضع له العواصم والقواصم ..

أقامت الجماعة أو الشلة جنازة حارة على " إبداع " التي لا تعرف الإبداع ، وشبعوا لطماً وصراخاً ، وشقوا الجيوب وضربوا الصدور ، ودعوا بدعوى الجاهلية ، لأن القضاء أصدر حكما بإلغاء ترخيص المجلة التقدمية المستنيرة ، التي نشرت كلاماً عن تزغيط البط يسب الذات الإلهية ويسخر منها !

ارتفع الصياح والعويل بانضمام بعض السيدات الصالحات القانتات المستنيرات التقدميات ، يتباكين على انشغال السادة الظلاميين الإرهابيين الأصوليين الرجعيين بموضوع تافه وبسيط جداً ، مثل سب الذات الإلهية ، وتساءلن : هل يمكن لقصيدة تسبّ الله أن تغير إيمان الناس ؟ وأجيب حالاً : كلا ، بل إنها تزيد إيمانهم وترسخ عقيدتهم وتوحد قلوبهم على قلب رجل واحد ليواجهوا الإلحاد والبلطجة والاستهانة بمشاعر الناس . ماذا لو أن أحداً قال لواحدة منهن : إنك كذا .. على مرأى ومسمع من الناس ، أو نشره في مجلة محدودة التوزيع ( مرتجعها أكثر من مطبوعها حسب النكتة ) ؟ هل هذا ينقص منها شيئاً أو يغير رأى المجتمع فيها ؟

على كل حال ، هناك حالة من الندب والتعديد في الأوساط التقدمية ، لأن شيوخ الحسبة – كما يسمونهم – بزعامة الشيخ يوسف البدرى يعطلون الفكر والثقافة والأدب والإبداع والتعبير ويصادرون حرية الفن والفنانين ويلاحقون المثقفين المستنيرين الغلابة بقضايا التعويض من غير داع أو سبب لدرجة أنهم باعوا غرف الصالون والسفرة والمسافرين والنوم كمان ، وباتوا على الأرض ، ويعيشون الآن على النوتة ، والسحب الشكك من دكان عم جودة البقال ! يا حرام !

ومع أنك لا تستطيع أن تعزى في هذه الجنازة الحارة ولا تتمكن من قول كلمتين لجبر الخواطر ، وتبريد القلوب ، في أية جريدة أو مجلة أو برنامج من برامج الكلام الهوائي في التلفزة والإذاعة أو في الندوات والمؤتمرات أو حتى مقاهي سوط البلد ، فإن الجنازة ما زالت قائمة تتحدث عن الظلاميين الأغبياء الذين تخصصوا في قتل فرج فودة واغتيال نجيب محفوظ وضرب مكرم محمد أحمد وتهديد عبده كفتة ، ومطاردة زكى جمعة ....

الظلاميون أو العسس الجدد كما سمتهم إحداهن لا يزرعون شجرة ولا يرعون يتيماً ولا يخففون عن مريض ولا يهتمون بالقضايا الكبرى التي تشغل الناس ، مثل الحجاب والنقاب واللحى والإسدال والخمار والختان وتعدد الزوجات وتحديد النسل ومنع الطلاق والشقة من حق الزوجة والمعاش كمان ، والمساواة في الميراث والاعتراف بأبناء الزنا ونسبتهم إلى أمهاتهم الفاضلات ، وشيوخ الفضائيات وفتاوى المفكر المستنير عن التدخين في رمضان ومشاهدة الأفلام الإباحية بعد السحور ، وجواز القبل بين الشباب وعدم وجود ثوابت في الشريعة والعقيدة ، وكل شيء فيهما قابل للتطوير والتغيير والمرأة رئيسة جمهورية  وسائقة دبابة وقائدة فرقة عسكرية و ... و ...  من القضايا الكبرى التي تشغل بال المستنيرين التقدميين الذين يلاحقهم العسس الظلاميون بالقضايا والتهديدات والاغتيالات .. يا حرام !

ولا شك أن رجلاً مثل الشيخ يوسف البدرى لا يحق له أن يشكو أو يتذمر ، حين يشتمه الأشاوس المستنيرون ، والنشامى التقدميون ، فمثل هذا الرجل من " المشايخ " أصولى ظلامي لا يحق له أن يشارك في الحياة العامة أو يدلى برأي ويستحق الشتم والسب آناء الليل وأطراف النهار ، فالسب والشتم من قبل المستنيرين التقدميين يعدّ شرفاً كبيراً لا يجوز أن يجحده الشيخ أو غيره ، وعلى أمثاله أن يقبلوا به ويحمدوا الله الذي يغضبون من أجله ، أن هناك من يشتمهم من أهل الاستنارة والتقدم ، فإذا بدا له أن يذهب إلى القضاء فالتشهير به من ألزم الضرورات في المجلات والصحف وأجهزة الإعلام التي يملكها الشعب ويهيمنون عليها وحدهم دون سواهم ، وهو بالطبع لا يقدر أن يحمل نبوتاً ويشق به رأس شاتميه ولاعنيه  ، فقد بلغ من العمر مبلغ الشيخوخة والشعر الأبيض غير القابل للصبغة !

أهل الاستنارة والتقدم يعتقدون أن البلد بلدهم ، مثل الأنبا إياه الذي قال نحن أصحاب البلد ، ولم يحاسبه أحد ولأن الأمر كذلك ، فهم مؤمنون أن " الميديا " لهم ، والميزانيات كلها لهم  والإعلام والثقافة والمجالس العليا والسفلى والأحزاب والهيئات الثقافية العامة والخاصة كلها لهم ..

لا يجرؤ أحد أن ينشر مقالاً أو كتابا أو حتى خبراً عن كتاب في صحيفة أو مجلة أو دار نشر حكومية تسيطر عليها السلطة أو يملكها رجال القروض ، لأنها محظورة على غير التقدميين والمستنيرين ،باستثناء من تحوّلوا إلى الماسونية والليبرالية النازية والذين تأمركوا فهم يعدّون شركاء لهم . أما أغلبية الشعب البائس فلا يحق له ولا لمن يمثلونه من الظلاميين الأصوليين المتخلفين أن يشاركوا في هذه الميديا ولو بسطر واحد ، أو كلمة واحدة ، لأنهم محظورون ممنوعون مرفوضون ، حتى لو كانت هذه الميديا بأموالهم وضرائبهم وعرقهم وجهدهم .

هكذا يكون التسامح المستنير..  وحين تقوم السلطة بمصادرة الصحف والمجلات ودور النشر والمكتبات التي يملكها هؤلاء الظلاميون الرجعيون بعرقهم وجهدهم ، فلا يجوز أن يشيروا إلى ذلك أو يستنكروا أو يتحدثوا عن حرية الرأي والفكر والتسامح واحترام الآخر وذكر الآخر ..

في ذات يوم من عام 1965م كتب لويس عوض ، عراب الشيوعيين وأبوهم الروحي ؛ صفحتين كاملتين في الأهرام الغراء ضد مجلات وزارة الثقافة والإرشاد القومي آنئذ ، ورفع سلاح التوزيع – وكان يومها أضعاف أضعاف توزيع المحروسة إبداع ، وأصدر الوزير المختص في استجابة سريعة للعراب وحوارييه الشيوعيين الذين كانوا يسمون يومها بالاشتراكيين خمس مجلات ثقافية مرة واحدة بجرة قلم ( الرسالة – الثقافة – القصة – الشعر - الفكر المعاصر ) ويومها لم تحدث جنازة حارة ولا باردة و، لم يلطم أحد الخدود أو يشق الجيوب ويضرب الصدور أو يدعو بدعوى الجاهلية ! .. بل مضى الأمر عاديا حتى جاءت النكسة أوالهزيمة !

الأمر الآن في ذمة الأقلية المستنيرة التقدمية التي تكتب وتنشر وتسب الله والإسلام وتزيف التاريخ وتفتى بغير علم وتطالب بإلغاء الشريعة والعقيدة ، وتنقية مناهج التعليم وبرامج الإعلام من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وحذف التربية الدينية الإسلامية والإبقاء على  الماسونية والبهائية ، وإلغاء المادة الثانية من الدستور وتحريم البرلمان والشورى والوظائف العليا والمناصب السيادية والجامعة والقضاء والكليات العسكرية والشرطة على الظلاميين والأصوليين وأبنائهم وفروعهم حتى الحفيد التاسع عشر ..

لا أدرى هل أضحك أم أبكى ؟ أقول لنفسي أحياناً : لماذا عشت في هذا الزمان الذي رأيت فيه هزيمة بلادي الداخلية ، ورأيت المعايير تنقلب رأساً على عقب بسبب " شلة " من أصحاب المصالح والمنافع والسهرات الزرقاء ؟ أيها الماسون هنالك شيء غلط في عالمكم البشع ، ومعذرة للشيوعي بريخت .